تحط الطائرة التركية عصرا في مطار ارجان (Ercan) شمال العاصمة نيقوسيا، وبالتحديد في القسم التركي منها مدينة شطرها التناحر الديني القومي نصفين،
الأول يوناني أحتفظ وثلثي أجزاء الجزيرة بمقومات الدولة القبرصية الاصلية،
والثاني تركي دفعت الحرب الاهلية واضطهاد مواطنيه من قبل أخوتهم اليونانيين الى تدخل القوات التركية عسكريا بانزال جوي وآخر بحري عام 1974 نجم عنه أحتلال غالبية المناطق التي يسكنها الاتراك لحمايتهم من القتل والاضطهاد، ونجم عنه فيما بعد إعلان جمهورية شمال قبرص التركية (Kuzey Kibris)
وفي اللغة التركية ( Kuzey Kibris Turk Cumhuriyeti) التي أعترفت بها تركيا فقط وقاطعها العالم أجمع، صممت لها علما يحمل الهلال والنجمة وضعته جنب العلم التركي في كل مكان.
الارض من شباك الطائرة قبل ملامسة اطاراتها الضخمة مدرج المطار المذكور تبدو صفراء حل عليها موسم الحصاد فيبست، ومع هذا فاليباس هو السائد على هذه الجزيرة التي تتوسط البحر الابيض المتوسط، ويباسها الراجع نسبيا الى الجفاف يجعلها تشبه كثيرا أراض الشرق العربي التي عانت منه بشدة منذ عدة عقود... جفاف أبقى شجيرات متناثرة وسط الحقول الصفراء، تميزها عن الجبال القريبة من الساحل بخضرتها شبه الدائمة.
المطار الذي نزلت فيه الطائرة في القسم التركي بسيط يوحي وكأنه أستخدم عسكريا وتحول بالتدريج الى مطار يجمع بين المنزلة الدولية بقوانينه وضوابطه وبين المحلية حيث المقاطعة شبه الشاملة للشركات العالمية باستثناء التركية التي تحتكر الهبوط والاقلاع.
سيارة مستأجرة من أحد المكاتب الميسورة في المطار هو الانسب للذين يقدمون لأغراض السياحة على شكل عوائل أو مجموعة أصدقاء على الرغم من وجود الحافلات، خاصة وان السعر مغرٍ حيث لا يتعدى الخمسين دولارا في اليوم الواحد، والسيارة على وجه العموم مفيدة لتغطية بعض المناطق السياحية التي تنتشر على أرض الجزيرة مثل طوق يحيط بها من كل الجهات.
القبارصة الاتراك أناس بسطاء، ودودين يحاولون التعبير عن الرضا لادامة وقع السياحة التي منها يعيشون، اذا ما سألتهم يجيبون برحابة صدر وبلغة تركية هي الرسمية لجمهوريتهم المعزولة وعندما يحسون عدم مقدرة السائل على الاستيعاب يبدلون الى الانجليزية، اللغة الشائعة ثانية منذ زمن كانت فيه الجزيرة مستعمرة بريطانية لما يقارب المائة عام ومنذ أن كان التعايش بين القوميتين يقتضي التفاهم بأكثر من لغة، وضع يتكلم عليه الكبار في العمر من القبارصة الاتراك واليونانيون أو يتحسرون عليه، يُذكر بمدينة كركوك التي يتفاهم سكانها بأربعة لغات محلية.
السياحة هنا في القسم التركي عماد الحياة اذ لا صناعة يعول عليها ولا تجارة عابرة ولا جمارك يعتد بها، جمهورية بقيَّ وضعها معلقا في أروقة الامم المتحدة منذ العام 1983، رهين التوازنات الدولية ومناطق النفوذ، فعزلت نفسها وانعزلت الا عن طريق الدولة التركية القوية بمركزها أمام اليونان الداعمة لميزانيتها بما يقارب السبعمائة مليون دولار سنويا.
لكنهم تكيفوا للوضع الجديد بمرارة وهيئوا سياحتهم وبما يتناسب وأهل الغرب الذين يفدون اليها بكثرة فكانت الفنادق التي ورثوها من قبرص الجمهورية الموحدة أو التي أقاموها فيما بعد واسعة وكأن الواحد منها منتجع يشمل عديد من الخدمات التي يهتم بها أولئك السواح الراغبين في التمتع بشمسها المعتدلة وهوائها النقي وسكون بحرها المريح.
وبما يتناسب أيضا مع الاتراك القادمين من باقي محافظات الدولة التركية حيث النوادي الليلية وأماكن الطرب ولعب القمار، حتى يشك القادم الى هذه الجزيرة أول مرة وكأنها قد تهيأت لهذا الغرض بالنسبة الى الاتراك الذين لا يجدون مثل هكذا فعاليات في مدنهم خاصة بالنسبة الى القمار الممنوع في غالبيتها.
السياحة والرغبة في الاطلاع تسحبنا الى نيقوسيا العاصمة المقسمة هي أيضا بطريقة عجيبة أقترح أكثر من واحد ضرورة الاطلاع عليها من قريب، وقبل الشروع في التوجه اليها وفي محطة وقود ترفع علمين تم الاستفسار عن حالة رفع العلمين من الشاب المشرف على مضخة الوقود.
رد دون عناء تفكير، سترون مثل هذا، علمين في القسم اليوناني من الجزيرة أيضا، وعندما أعيد عليه السؤوال بصيغة أخرى اجاب بأن الطرفين أثناء الحرب الاهلية استقوى كل منهما بامتدادات أصوله القومية والدينية، وبتنا كأننا سكان الجزيرة الاصليين لا ننتمي اليها جزيرتنا الأم بقدر انتمائنا نحن المسلمين الى تركيا والمسيحين الى اليونان، لكننا وبعد ما يقارب نصف قرن من تلك الحرب عادت مشاعرنا في الانتماء الى هذه الجزيرة وباتت تفوق في شدتها تلك الامتدادات التي يصعب التنازل عنها.
الطريق الى العاصمة نيقوسيا من مدينة كيرينيا أو الغرنة باللغة التركية (Gerne) التي تم الاستقرار في أحد فنادقها الراقية ينساب بين جبلين مخضريّن يحضنان المدينة التي تعد ميناءً رئيسا لهذه الجمهورية وضعه الدولي لا يختلف عن وضع المطار.
هذا الطريق الذي أنشأته السعودية معبد بشكل جيد وباتجاهين، تقطعه السيارة في نصف ساعة سياقة بسرعة محددة باشارات تدعمها كامرات.
الدخول الى العاصمة كان من جهة الشمال.... مدينة قديمة تتربع وسط الجزيرة، حكمها الاتراك عدة قرون وجاء من بعدهم البريطانيون حتى أستقلالها بنفس الطريقة التي استقلت بها بلدان كانت مستعمرة منهم أي البريطانيون بينها العراق.
قسمها التركي بسيط مازالت آثار الحرب بادية على بعض منازله التي تآكلت بحكم الاهمال اثر عدم القدرة على الترميم أو بسبب تركها من أصحابها الذين غادروها الى خارج البلاد أو ممن قتلوا عن بكرة أبيهم في تلك الحرب ولم يبق للمنزل وريث.
أزقتها ضيقة غير نظامية تُذكّر الماشي بأزقة محلة الفضل والكرخ في زهوهما أبان ستينات وسبعينات القرن الماضي.
يستمر السير بهذه السيارة المستأجرة ويتكرر السؤوال أين هو الشطر القبرصي اليوناني من المدينة؟. وتستمر الاجابة هناك ثلاث معابر أحدهما في القريب، يختمها شاب يبدو متعلم أن المعبر القريب هو (لقماجي) وعند الاستفسار منه عن المعنى باللغة الانجليزية قال إنه المعبر.
معبر (لقماجي) وسط شارع قسمته الحرب نصفين، يقف عند جانبه موظفي الجوازات الاتراك، يختمون ويدققون، وجنبهم لامتار موظفي الجوازات اليونانيون، لا يختمون ولا يدققون، يبتسمون لمن يعبر اليهم فهم أيضا معنيون بالسياحة، نصف مدينتهم يغلب عليه الطابع الاوربي.
عند المشي في الاسواق في هذا القسم من المدينة يرى الماشي كثر المقاهي والبارات والمحلات ذات الماركات المعروفة المنتشرة في أوربا، فهو وباقي الثلثين من الجزيرة قد دخل الاتحاد الاوربي، فاصبح النظام داخله لا يختلف كثيرا عن ذلك السائد في دول الاتحاد.
ثلاث ساعات كافية للتجوال ومشاهدة بعض الجوامع التي تحولت الى كنائس بسبب الاحتقان، مثل تلك الكنائس التي تحولت الى جوامع في الطرف الشمالي من المدينة فالعداء يساوي في الخسارة بين الطرفين المتحاربين.
العودة مشيا الى القسم التركي لازم، فالسيارة المستأجرة بارقام الجمهورية التركية القبرصية لا تدخل القسم اليوناني من المدينة، وقبل الوصول الى المرآب العام الذي ركنت فيه تم التعريج على الجامع القريب من خط الحدود والتي أخذت منه الحرب ركنا مهما.
يقف بمواجهة هذا الجامع بمئذنتيه الشامختين رجل ستيني بلحية يغطيها الشيب، رد السلام بلكنة تركية فيها بعض الكلمات العربية التي رسخت في ذاكرته من حفظ القرآن، كررها لتأكده من أن الذين ألقوا عليه السلام يتكلمون اللغة العربية، فكانت فراسته وميله للاسترسال بالكلام شجع الگاردينا على محاورته في لقاء عابر.
قدم نفسه الحاج سلمان أورال يسكن البيت المقابل للجامع الذي أصبحت غرفتين منه للقبارصة اليونانيين والغرفتيين الأخريين له... بيت العائلة التي لم يبق منها سواه، حالة تثير الاستغراب دفعت الى توجيه السؤال التالي:
حجي سلمان كيف حصل هذا وهل لك أن تحل اللغز الذي عنه تتكلم؟.
أجاب برغبة في السرد حد التفصيل الدقيق قائلا:
كنت شاب في العشرين من عمري، أحلم مثل غيري بأن يكون لي ولابناء قوميتي شأن في هذه الجزيرة، نحكم أنفسنا نمتد الى أصولنا في تركيا والعالم الاسلامي. الوالد نجار، رب أسرة تتكون من ثلاث أخوات وأربعة أخوة كنت أكبرهم، وأتحمل المسؤولية مع أبي في محل النجارة البسيط جنب البيت. عشقت أبنة جارنا اليوناني كلوديا حد الجنون، رفض أبي تزويجي لها ورفض أبوها تزويجها لي.
ألم اقل أن نتاج الخسارة الآتية من العداء تكون متعادلة.
يسترسل في الكلام:
اتفقنا على الهجرة الى المانيا هروبا من حكم الاباء وتقييدات الدين، وأنتظرنا الفرصة السانحة خلال أيام، لكن الفرصة لم تأتِ.
كيف لم تأتي وأنتم متفقان على التفاصيل؟.
لقد حصل أنقلاب من قبل ضباط قبارصة، أرادوا ضم الجزيرة الى اليونان، أطلقوا العنان الى العداء المكبوت في النفوس أن ينطلق، بدأت أعتداءات على القبارصة الاتراك، عائلتنا تجاور في سكنها يونانيون، كانت أولى الضحايا، اذ هجم على الببيت أفراد عصابة قتل تشكلت فور الانقلاب، ذبحوا العائلة عندما كانت مجتمعة على العشاء، خلصني من هذا المصير المشؤوم موعد كان مع كلوديا لوضع آخر تفاصيل الهجرة في اليوم الذي يلي.
عدت الى البيت في ساعة متأخرة، وجدت الدماء قد سالت في كل جانب منه، ووجدت الجثث قد مزقتها الحراب. شعرت بالغثيان، لم أعد أذكر شيئا، ما أذكره بصيص ذكريات تصطف في قعر الخلايا التي أتعبها العمر وكثر المعاناة، ذاك البصيص لم يمحِ من الذاكرة حقيقة أني قد أخذت سكينا من البيت وقصدت عائلة يونانية تسكن في آخر الشارع، بدأت بكبيرهم ذبحا وأنتهيت بآخرهم كان رضيع.
هكذا كانت البداية.
وكيف كانت النهاية؟.
ليس للحقد يا سادتي نهاية، لقد أستمر القتل المتبادل، شعرنا بحجم التهديد فانتظمنا في جماعات لها رئيس وفيها أعضاء، وبدأت تتدفق علينا الاسلحة والاموال مثلما تتدفق عليهم، وأستمرت الغارات المتبادلة على العوائل، وكانت الغلبة فيها بداية لصالح اليونانيين، فهم منظمون، ولهم دعم مباشر من اليونان الدولة التي تناصب الاتراك العداء أرثا من الدولة العثمانية.
النهاية كانت مع دخول الجيش التركي الذي أوقف من جانبه نزيف الدم وبدأنا من جانبنا نعيد بعض المناطق التي زحف عليها اليونانيون وأقيم خط للهدنة شطر المدينة نصفين، لكن خسائرنا كانت كبيرة هجرة وتهجيرا وقتلا، وبقي الحال على حاله أو كما يسمى في السياسة أمرا واقعا.
الحاج سلمان نأمل منك في ختام هذا اللقاء أن توصف لنا المشاعر بعد أكثر من أربع عقود من تلك الأحداث؟.
ليس لي من بد سوى القول أنني نادم على ما فعلت، الآن وبعمري هذا أشعر بالبؤس على ما فعلته، وقد ذهبت الى الحج مرتين أملا في محو ذنوبي التي أرتكبتها في قتل يونانيين أنتقاما لقتل عائلتي.
يتنهد من تلقاء نفسه يكمل تنهيدته بجملة بدأها (آه لو عادت تلك الأيام).
وماذا تفعل لو عادت تلك الايام؟.
لتركت الانتقام الذي لا فائدة منه ولاحتكمت الى العقل وأخذت حبيبتتي بعيدا عن خطوط النار.
وأين هي حبيبتك الآن؟.
لقد أخذتها الحرب مثلما أخذت آلاف الابرياء، قتلت في خضم التبادل المنظم للقتل. لقد حزنت عليها حتى لم أتزوج من بعد مماتها.
اني أعشقها بجنون.
مازلت أحلم بتلك اللقاءات التي كانت بيننا وبالوعود التي كنت أنتظرها.
هاجرتُ بعد الحرب الى المانيا لالبي رغبة حبيبتي التي فارقتني مرغمة، فوجدت نفسي وحيدا بلا حبيبة، فعدت الى بيت أهلي هذا.
لم أسعَّ الى ترميمه.
أبقيته كما هو يذكرني بعائلتي، وركن منه يذكرني بكاترينا التي كانت تزورنا وكأنها ملاك يطوف في أرجاء البيت.
قبل مغادرة السيارة هذه المدينة المشطورة نصفين، وجهت الگاردينيا سؤالا أخيرا الى الحاج سلمان عن الامل في اعادة توحيد المدينة والعيش بسلام؟.
فأجاب:
لقد بددنا نصف الاحقاد التي علقت في عقولنا، ومازال الباقي كافيا لمد الامل عشرات أخرى من السنين لابناء هذه الجزيرة التي يتوحدون على أرضها فقط بقانون السير الذي يلزم أن يكون مقود السيارة على اليمين في كلا الشطرين.
1251 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع