ملوكٌ يُفْرِطون في الأكل وزعماء يستثمرون المعدة في السياسة
عدنان أبو زيد:ترتبط عادات الأكل بتاريخ الثقافة الإنسانية، ومنذ آلاف السنين أخضعت المجتمعات نفسها لتقاليد أكل راسخة، اصبحت هوية ثقافية للشعوب، فيما يتجاذب الملوك، والنبلاء، والنخب، اسلوباً ونظاماً صارمين،، تفرضه المراسيم الرسمية، وسياقات القصور، من جانب، والشهوات الشخصية للطعام من جانب آخر.
لكن قصر الحكم، الذي اصبح وفق البنية السياسية المعاصرة، الدماغ الذي يتحكم في الاحداث، ما كان له ان يمسك بالمتغيرات من دون غذاء يمدّه بالطاقة والصحة...
فكان نتيجة ذلك، انّ مطبخ القصر الذي يضم جيوشاً من الطباخين والخدم ومساعديهم، تحوّل الى قلب نابض يرفد "عقل" الدولة بالدماء والحيوية، ليصبح مكاناً ستراتيجياً حاله حال مؤسسات الدولة ووزاراتها، بل هو الاهم بين الشؤون، لأنّه ببساطة، مركز صناعة غذاء المعدة التي اذا جاعت، لن يُتّخذ بعدها قرار صحيح، أو تُنجز دونها قضية.
ويبلغ جهد الطبّاخ أشدّه حين يصبح الغذاء إرثاً "وطنياً" يتفاخر به الزعيم أمام ضيوفه، حتى باتت المآدب الكبرى التي تقام على شرف الضيوف من ممثلي الدول، تحفل بالأكلات المحلية، باعتبارها رمزاً تاريخياً واجتماعياً، لا تحفل به اطعمة العصر، التي تحضّر في المعامل والمطاعم.
المأدبة السياسية
وإذا كانت السياسة، بتداعياتها المختلفة تفرّق، فإنّ المآدب تجمع، حتى صارت "المأدبة السياسية" مصطلحاً متداوَلاً، يدلّ على الاغراض التي تحقّقها، من جراء اجتماع الاطراف على الأكل والشرب، وكم تحوّل "زعل" بين زعيم وآخر الى "تفاهم" بعد لقاء على المائدة، وكم من حوارات بنّاءة، انعقدت على هامش العزائم والولائم، بل إن تجربة كبير طباخي الأمم المتحدة دانيال شيمبيك الطويلة في مضمار صناعة الأكل للزعماء والملوك، تفيد بان فُرص حلّ مشاكل الدول على موائد الأكل أكثر منها في المؤتمرات والمفاوضات.
على أنّ الزعيم، مهما بلغ من شأوٍ في التكبّر والتجبّر، فانه يبقى إنساناً، يجوع ويشبع، وتعجبه "أكلة" بسيطة ملّ منها الفقراء في البلاد، مثلما تسحره أخــرى، لا تُصنع الا في المطابخ "العاجية"، لكنّه في كل الاحوال، يظلّ كما هو، يهرع الى "صحن" الأكل اذا جاع، عازفاً عن السياسة والجاه، حتى يشبع.
وإذ تسعى الاحزاب والحركات السياسية في بلدان العالم الثالث الى استثمار حب الأكل وإشباع البطون عبر إقامة العزائم لكسب اكبر عدد ممكن من الاصوات، فإنّ زعماء وسياسيين، يلجؤون الى التقرب الى الناس عبر التعبير عن حبّهم للأكلات الشعبية، وتنظيم جلسات الإفطار، وبالمقابل فإنّ في دول متقدمة وديمقراطية مثل الولايات المتحدة، لن يستطيع سياسيٌّ أو حاكم ان يفوز بقلب الجمهور إلّا عبر البرامج الانتخابية الناضجة والمفيدة، اذ لا ينفع مع المواطن الواعي، التقرب اليه عبر "المعدة"، بل يتوجب ان تقنعه بجدواك عبر الفكر والبرنامج الانتخابي، وهذا ما جعل صحيفة "واشنطن بوست" تلغي مشروعاً مثيراً للجدل لإقامة مأدبة عشاء، يلتقي فيها سياسيون وأعضاء في الحكومة وبرلمانيون بالصحافيين، بعدما بات واضحا ان اللجوء الى "المعدة " لكسب التأييد، سيكون أمراً مخجلاً حقّاً.
الزعماء ولحوم الغزلان
وبغض النظر عن استثمار الأكل والشَّهْوة، في السياسة، فإن للزعماء والحكام، عاداتهم الشخصية في الاكل، وولعهم في تفضيل هذه "الأكلة"، على تلك، بل ان منهم من يصطحب معه طبّاخه وهو يسافر بين الدول لكي يؤمّن لنفسه أطباق الأكل التي اعتاد عليها.
وهذا الامر، اعتاد عليه الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، الذي تعمّد تناول الاكلات "البلدية" حتى وهو في خارج البلاد، مصطحباً طباخه معه على الدوام، ولم يكن حرص القذافي على "الأكل البلدي" نابعا من ولعِهِ به بقدر، حرصه على توظيف هذه السلوكية الشخصية في الدعاية السياسية باعتباره "مخلصا" لبلده، مفتخراً بإرثها وتقاليدها.
لكنّ القذافي في حقيقة الامر، لم يكن كذلك، فقد عاش حياة مترفة، تناول خلالها وجبات خاصة من الاكل والشراب، كلفت الميزانية الوطنية آلاف الدولارات، حيث اعتاد على أكل لحوم الغزلان التي تتغذى على الحليب فقط، ولحوم الطيور لاسيما لحوم النعام الباهظة الثمن، والمواشي التي تُربّى في مزارع خاصة، وتُسمّن بتناولها أجود انواع الغذاء.
كانت سلوكيات القذافي الغريبة، تقوده الى توظيف حتى شهيّة الاكل في السياسة، فكان يتبجح في اظهار حبه للأكل "البلدي"، تحقيرا للأكل "الغربي"، متعمداً اظهار رغبته في تناول "المقلوبة" المكونة من الارز والباذنجان واللحم المقطع المخلوط بالبهارات.
أسماك نيئة في القصر
ومقابل ذلك، هناك، زعيم، لا يقل غرابة في مواقفه وآرائه عن القذافي، هو الزعيم الكوري الراحل كيم جونغ إيل، الذي أكل الأسماك نيئة بدون طبخ الى درجة ان ذيلها كان يتحرك في فمه قبل ان تقطعها أسنانه.
ويقول الطباخ الذي كان يعد له وجبات الطعام "كنت أحضّر السمكة له بطريقة تحافظ على أعضائها الحيوية، فيلوكها وهي لا تزال تتحرّك "، مشيرا الى أنه " يأكلها باستمتاع شديد".
وكان من عادة الزعيم الكوري، اصطحاب الطهاة معه اينما حل في أنحاء العالم، لتحضير وجبات الاكل الشهية التي احبها ومنها الكافيار ولحم الخنزير.
ويقول "الشيف"، كينجي فوجيموتو، الذي رافق الزعيم لفترة طويلة من حياته، ان ايل كان "يخشى دسّ السمّ له في الاكل، كما كان يغضب اذا ما وجد حبّة الأرز متصدّعة". وكان الكونياك و النبيذ الفرنسي من اهم مشروباته على رغم كرهه للرأسمالية.
مطابخ الزعماء العرب
وممّا كشفه "الشيف" المصري أحمد النعماني الذي ادرك أسرار مطابخ الزعماء العرب، في مذكراته ان الرئيس المصري الراحل انور السادات، أحب الاكلات "الشعبية،لاسيما انه ترعرع في الريف، وقضى شطراً كبيراً من حياته فيه.
ومن المواقف التي ينقلها الكاتب المصري الراحل أنيس منصور، عن السادات، ان الرئيس استغرب كيف ان الرئيس اليوغسلافي الراحل جوزيف بروز تيتو الذي رافق السادات في جزيرة بريوني العام 1973 كان يأكل الطعام بشهية مفتوحة، وكانت وجبته تتألف من "المكرونة بالزبدة" و كافيار وكلها تحتوي على الكوليسترول. حينها التفتت السادات الى أنيس، وقال له "أمر غريب فالرجل عنده اكثر من ثمانين سنة، ويأكل بهذه الشراهة".
وبحسب النعماني، فان الرئيس السوري بشار الاسد يتذوق "فتة الموز" مع الارز "البسمتي"، ويتذوق "صوص" الطماطم. في حين يفضل ملك المغرب محمد السادس، سلطة الجمبري مع المحار، و "فيليه" لحم بالزبد المغطى بالبطاطس مع الخضراوات.
كما يتناول الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي "الجمبري"، مع الخيار والفلفل الاحمر.
واعتاد ملك البحرين حمد بن عيسى ال خليفة تناول "لفائف" من الدجاج، مع بطاطس وخضراوات ومكسرات. في حين كان الدجاج المشوي مع الأرز، الوجبة المفضلة للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
واعتاد الرئيس المصري السابق حسني مبارك بدء يومه بطبق سلطة وجمبري وسالمون، يليه فيليه وخضار، مع مكرونة، كما فضّل الأكلات الشرقية البسيطة، مثل "الطعمية"، والفول، والبامية بالصلصة البيضاء، ولحم الضأن.
ريئس بوليفيا يتناول الطعام على مائدة الرئيس الأيراني السابق احمدي نجاد
وكان تصريحا ملفتاً، لرئيس بوليفيا ايفو موراليس، العام 2010، افاد فيه بان "لحم الدجاج يعزّز ميول المثلية الجنسية"، بسبب تحفيزه للهرمونات الأنثوية، ما أثار لغطاً علمياً، وسياسياً حول المصدر الذي استقى منه الرئيس معلوماته.
وفي خضم الدعاية الانتخابية، ظهر الرئيس التركي عبد الله غل عبر وسائل الاعلام، وهو يعمل في المطبخ الى جانب زوجته.
ولم يجد عيدي امين ضيراً من الاعتراف بانه من "أكلة لحوم البشر"، وأقر بأنه استهلك ذات مرة اللحم البشري مرغما عندما كان يخدم في الجيش البريطاني، وعندما كان اسيراً لدى قبائل الماو ماو.
الملك فاروق.. الإفراط في الأكل
ولم تنتشر دعايات الافراط في الاكل، مثلما انتشرت حول ملك مصر الراحل الملك فاروق وشراهته في الطعام وصنوف الأكلات الخرافية التي تقدم أمامه، وربما انتشرت الدعايات حوله لكونه ضخم الجثة، ذا "كرش" كبير بوزن يربو على 160 كيلوغراماً، ويعاني من الضعف الجنسي والاضطرابات النفسية.
وتملّك فاروق اعتقاد دائم بأن أي طعام خارج قصوره أشهى مذاقاً وألذّ طعماً، فكان يتردد على المقاهي الشعبية في القاهرة ليشرب فنجانا من القهوة التركية، او يرسل احد رجاله لشراء طبق "فول" ساخن من مطعم كان في طريق قافلته.
ولشدة حبه لـ"الآيس كريم" كان لا يترّدد في الذهاب الى أي مكان يشتهر بصناعته، وكانت أحب الأطباق الى قلبه، المكرونة، والاسباكيتي، واللحوم، والحلويات.
وأحب فاروق السمك الذي يصطاده بنفسه وهي صفة للرجل الذي يتلذذ بالطعام..
وكان المحار يأتي إليه خصيصاً من كوبنهاغن أسبوعياً، كما نفى في مذكراته التي كتبها بعد تخليه عن العرش، الشائعات التي تفيد بأنه كان يأكل 12 بيضة في افطاره اليومي.
قادة الغرب يتذوقون الأكل العربي
أحبّت وزيرة الخارجية الاميركية السابقة كوندوليزا رايس الاكلات الشرقية مثل "شوربة العدس" و "الملوخية" و"الكبسة"، بعدما كثرت زياراتها الى منطقة الشرق الاوسط، لاسيما البلدان العربية، بل انها صارت تسمي الأكلات بأسمائها "المحلية" المعروفة في تلك البلدان.
ومما شاع عن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، حبّه أكل القواقع وولعه بالأكلات الشرقية وهو يزور البلاد العربية مثل "مخلل الملفوف" و"رأس العجل". لكن شيراك يشترك مع الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، في تفضيله المطبخ الفرنسي التقليدي، وتفادي الوجبات الدسمة.
وأكل رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير"الحمام المحشي"و"الجمبري" المشوي، والمقلي، حين زار مصر.
قصر باكنغهام.. شراهة الأكل
ودفع شره رئيس الوزراء البريطاني الراحل، ونستون تشرشل، بالدخان الى اعتياده وضع المكسرات وقطع الحلوى الصغيرة في جيوبه، وكانت ضخامة بطنه تدل على حبّه المفرط للأكل، فأكثر من تناول الجبن "ستيلتون"،والمحار ، واللحم المشوي، كما تناول في سهراته وأوقات فراغه "الآيس كريم"، وابدى اعجابه في اكثر من مرّة، بالمطبخ الفرنسي، وكان يحرص على وجبات الاكل الكاملة بكل تفاصيلها حتى وهو مع الجنود في الخنادق.
وعلى عكس رؤساء الحكومات البريطانية، لم يعرف عن افراد الاسرة المالكة البريطانية شراهتهم في الاكل، وهو ما يؤكده مارك فلاناغان، رئيس الطهاة في قصر باكنغهام، الذي كشف عن ان الخضراوات الطازجة والفواكه، تمثل الجزء الاكبر من وجبات الطعام التي يعدها للملكة وبقية افراد الاسرة المالكة.
بل ان الأمير ألبرت احب جميع أنواع الخضراوات العضوية التي يزرعها في حديقته الخاصة، مثلما أحب تناول الأسماك.
فيما تشير المذكرات الشخصية لرئيسة وزراء بريطانيا الراحلة مارغريت تاتشر، ان نظامها الغذائي تضمن تناول البيض المسلوق، والقهوة السوداء، والطماطم، و السلطة، و"الجريب فروت" واللحوم.
وكانت تاتشر حريصة على عدم زيادة وزنها، مثلما لم تلتزم طاهياً خاصاً بها، بل كانت تطبخ وجبات الاكل بنفسها، وأثارت إعجاب زوجها دينيس بشكل كبير.
الكرملين.. السمك و الآيس كريم
ويختار رئيس الوزراء الروسي دميتري ميدفيديف أطباق الاكل بنفسه، فأحب "الآيس كريم" بالفستق، على رغم الطقس الروسي البارد، بحسب أنيا فون Bremzen، الخبيرة في الشأن الغذائي، التي ترى ان تناول "الايس كريم" في الشتاء الروسي بات ثقافة اجتماعية لم تفرّط بها الاجيال المتعاقبة.
ويروي جيروم ريجواد، كبير الطهاة في قصر الكرملين، أن ميدفيديف يتناول السمك والمأكولات البحرية الأخرى بوجه عام، مثل سلطة جراد البحر، كما يستمتع بالأطباق الغريبة والحلوى والاكلات المالحة...
فيما يتناول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، السمك مع النبيذ، بعد ممارسته رياضة الجودو، حيث له طقوسه الخاصة بذلك.
البيت الأبيض.. سياسات غذائية
وانتبهت الادارة الاميركية بقيادة باراك اوباما، الى اهمية المطبخ في المجتمع، فشكّلت فريقاً خاصاً بالسياسات الغذائية، برئاسة جوسلين فري الذي اعلن ان المهمة الاولى للفريق هو الترويج لنظام جديد في الأكل، ينقذ الشعب من السمنة المفرطة.
لكن ميشيل أوباما بدت غير متلائمة مع تلك السياسات، فهي كأم عاملة، غالبا ما تتناول الطعام مع ابنتيها خارج المنزل لمرات عديدة خلال الأسبوع، أو تطلب "البيتزا" في العشاء.
وتعترف السيدة الأولى أن "الطهي عمل شاق، وانها سعيدة لانه بات من واجب طهاة البيت الأبيض".
اما زوجها، اوباما، فان الشطيرة هي وجبة غدائه الأساسية، لكنه يكره "الشمندر"، وأعلن خلال الصيف الماضي عن أن طعامه المفضل هو "القرنبيط"، فيما فضّل رئيس اميركي آخر هو ريتشارد نيكسون، وجبات الاكل "الخفيفة"، مثل الجبن والأناناس وصلصة الطماطم.
المعدة "الألمانية"
ولم يجد المستشار الألماني الاسبق هلموت كول، صاحب الجثة الضخمة، حرجاً في اخراج الحلوى والشيكولاته من جيبه، معترفاً بان "الحلوى هي المصدر الأول للسمنة".
لكنّه كان يقول "لا يهم اذا زاد وزني، فالشعب اختار عقلي، وانا اخترت جسمي".وبلغ هوس كول بالأكل، انه ألّف وزوجته كتاباً عن المطبخ الألماني، وطريقة صناعة الاكل.
فيما تفضل المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل اعداد طعامها بنفسها طالما امكن ذلك، مثل الحساء بالخضار، والكباب، وكذلك "شوربة البطاطس"، والسلمون، و كعكة البرقوق.
جواسيس المطبخ
ولم تكن مهمة اعداد الطعام في قصور الحكام سهلة، اذ يؤكد طباخون اعدوا الطعام لرؤساء وملوك ان هذه الوظيفة، ذات حساسية مفرطة الى درجة ان المطابخ، تُراقب ليلاً ونهاراً وتزرع فيها العيون والجواسيس، لضمان الامن الغذائي للقصر.
ويؤكد الطاهي الفرنسي جيروم ريغو، ان هناك مخاوف من ارتكاب اي هفوة تكلفك حياتك او السجن، في مهنة تتطلب العمل دون توقف، بل ان الطباخ يصبح في لحظة ما صاحب القرار، في اللحظات التي تفرغ فيها معدة الرئيس، اذ لا مفر من الاذعان لما يقوله الطباخ.
1283 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع