بغداديات .. كان يا ما كان .. في بغداد
حتى الجنة بالنسبة للشاعر منفى، ولو قُدِرَ للمستقرين في فردوس الله أن يعودوا لأوطانهم … لعادوا.
الشاعر التركي: ناظم حكمت
ماذا يفعل الناس حين تُهاجمهم الكآبة والملل والضيق النفسي؟.
البعض يلجأ إلى الخمرة، المخدرات، التلفزيون، النوم لساعات طويلة، ممارسة رياضة معينة، التسكع في الأسواق الكبيرة، السفر إذا كان المرء في بحبوحة مالية، القراءة والكتابة، والبعض يلجأ إلى (فش خلقه) في الأعتداء على حريات البشر الذين حوله، أو ضرب زوجته وأطفاله للأسف الشديد!!.
شخصياً الجأ إلى المشي، ولمسافات طويلة جداً، خارج الدار حيث الهواء الطلق.
هي عادة قديمة مارستها مذ كنتُ شاباً في العراق، وليس لأسباب تخص صحة الجسد، بل صحة النفس المصابة أحياناً بما نسميه في العراق (مزاج برتقالي مُعترض)، وهو من مميزات الشخصية العراقية.
في بغداد ايام زمان، وللتغلب على تلك الأزمات النفسية التي لها الف سبب، كنتُ أستقل الباص العمومي، من بيتنا في مدينة المأمون\جانب الكرخ، إلى ساحة التحرير في منطقة الباب الشرقي، التي هي قلب بغداد النابض بالحركة ليل نهار.
من ساحة التحرير تبدأ إنطلاقتي حيثُ كنتُ أستقل واسطة النقل رقم 11، وهي الساقين، كان هدفي دائماً إختراق شارع السعدون وصولاً إلى مسبح أمانة العاصمة في منطقة المسبح، وهي مسافة شاسعة جداً لمن يتذكر تلك المناطق.
قبل الإنطلاق كنتُ أقف بخشوع وإعجاب وإحترام كُلي تحتَ (نصب الحرية) الذي صممه الراحل المُبدع جواد سليم. كان يشمخ ويتطاول بكل عنفوان وتحدي!، عملاقاً ثائراً كمارد خرافي خالد. وكنتُ كلما تمعنتُ ودققتُ في تفاصيله، كلما إزددتُ يقيناً من أن هؤلاء الثوار الفقراء المسحوقين سينزلون من نصبهم يوماً، ليقودوا شعبنا عبر ملحمة الخلاص!. لكنني أبتسم بحزن اليوم وأردد قول الشاعر أحمد مطر:
"إنقضى العمرُ ولم يأتِ الخلاصْ ...... آه يا عصرَ القَصاصْ".
على مبعدة من نصب الحرية، وفي بداية يسار شارع السعدون، كنتُ أمر بجانب مكتبة المُثنى الشهيرة، التي كان يملكها الراحل قاسم الرجب، والتي طالما قضينا بين رفوفها أجمل الأوقات ونحنُ ننتقي ما كان يتناسب مع جيوبنا الطلابية الفقيرة بمقاييس الزمان والمكان يومذاك. أذكر أن أول كتاب إشتريته من تلك المكتبة كان كتاب شعر لنِزار قباني "أنتِ لي" طبعة أكتوبر 1957. لا زلتُ أحتفظ بأغلب صفحاته التي أتلفَت بعضها أصابع التداول وأظافر الزمن.
في الجهة المُقابلة لمكتبة المُثنى، وعلى يمين بداية شارع السعدون، كانت تجثم بوقار (ثانوية راهبات التقدمة للبنات) التي أسستها طائفة اللاتين الكاثوليك، كانت واحدة من أرقى ثانويات البنات وعلى كل الأصعدة.
أرض تلك المدرسة كانت هدية من الملك فيصل الأول. لكنه تم تأميم تلك المدرسة وغيرها من الممتلكات التعليمية المسيحية الخاصة في سنوات العار والنار بعد مقتل الزعيم قاسم، وتم تحويلها إلى ثانوية حكومية بإسم (ثانوية العقيدة للبنات)!، ولم ندري أية عقيدة قصدوا، الدينية، السياسية، أم العشائرية؟.
كانت نهاية الشارع الفرعي الذي يلي هذه المدرسة ينتهي عند شارع (أبو نؤاس) الشهير والذي كان يمثل كورنيش دجلة من جهة الرصافة. في هذا الشارع الفرعي كانت تقع (كهوة المعقدين)!!، والحق كانت واحدة من أشهر مقاهي ذلك الزمن الجميل، لا بديكوراتها أو جمالها، بل لأن روادها كانوا من المعقدين حقاً!، أو هكذا كانوا يحاولون أن يبدوا ويظهروا وحسب موجة ذلك الزمن وإشتهار شخصيات عالمية مثل (سارتر) و(كامو) وغيرهم من الوجوديين. كان زبائن ذلك المقهى خليطاً من بعض الوجوديين (الهبيين) ومن يدعي الثقافة من أرباع وأنصاف الكتاب والشعراء والرسامين والنحاتين والموسيقيين وبعض طلبة معهد الفنون الجميلة وحتى بعض الصايعين الضايعين!. وكنتَ ترى في صحبة بعضهم حقائب مليئة بالكتب على إختلاف أنواعها، ماركسية، وجودية، فلسفية، علمية، وحتى جنسية، كتب من نوع: هكذا تكلم زرادشت، عشيق الليدي تشاترلي، رأس المال، وحتى كتاب رجوع الشيخ إلى صباه!!، ولا أعتقد أن السيد (الله) كان من المُرحَبِ بهم في ذلك المقهى الطريف.
كان بعض الزبائن وأغلبهم من الشباب، يتقمصون شخصيات غريبة ربما قرأوا عنها في كتبهم أو إقتبسوها من الأفلام السينمائية، فهذا نصف فنان يحاول بكل الطرق أن يقول لنا بأنه نصف مجنون!!، وهذا يُناقشك في معميات ومتاهات معتقداً إنه يتكلم فلسفة، وأخر يتغطرس في جلسته وكلامه وأحد حاجبيه مرتفع دائماً وهو يتقيعر في نطقه، وأخر يرتدي البيريه الفرنسية التي تكاد تقول له: إخلعني رجاءً، وذاكَ يمسك بغليونه بطريقة ممثلي السينما من صنف عباس فارس ويوسف وهبي بيك وهو يرفع عقيرته ليسمعه الكل متصوراً نفسه ذلك المنطيق المفوه الذي يسحر الناس بأحاديثه !!.
وكُنا أنا وبعض أصدقائي نتخابث وندخل المقهى لمجرد أن نستمع ونرى تلك (النمايم) من المعقدين حقاً، كانت مشهداً مسرحياً لا يُكلفنا أكثر من عشرة فلوس ثمن إستكان الشاي!، مرة كنتُ أنصت لحديث يدور على الطاولة المجاورة وكان أحدهم يقول بكل عنجهية وهو يضع قدماً فوق أخرى ويتكلم من خلال دخان سيجارته الذي ينفثه مع زفيره: آني ما يعجبني أشرب الويسكي إلا بفنجان القهوة والمزة مُحار وأكون باللباس والفانيلة!!!، ويسأله واحد من رفاقي: يمعود لويش باللباس والفانيلة .. ليش مو صلوخ ؟، فيُجيبنا بكل جدية وبرود: إحترموا نفسكم رجاءً.
أصِلُ إلى بناية سينما السندباد في منطقة الأورفلية، تلك السينما التي رافقت طفولة وصبا وشباب ورجولة وكهولة أغلب البغداديين.
لا زلتُ أحمل لها الكثير من الإمتنان والحب، كانت أول دار سينما دخلتها مع أبي وأخي الأكبر مني يوم كنت ربما في الرابعة أو الخامسة من العمر، ولا زلتُ أذكر أول فلم شاهدته على شاشتها، (صراع تحت الشمس) تمثيل (إيرل فلين) أو ربما كان (تيرن باور)!.
على شاشة تلك السينما شاهدنا أجمل الأفلام وتعلمنا الحكمة والعِبَر والدروس الحياتية التي لا تُقدر بثمن. وفي طريق العودة للبيت كان والدي دائماً يناقشنا -رغم صغر مداركنا- عن الفلم والممثلين ومن كان منهم أحسن ولماذا، وهل عندنا اي مُقترح لتحسين الفلم أو تبديل بعض مقاطع القصة والحدث!؟، وكأننا كُنا خبراء!، لكننا في أوقات لاحقة عرفنا بأنه كان يُعِدُنا ويشحذنا لأستقبال الحياة ونحن مدججين.
في اليوم الثاني كُنا نقصُ على صبيان محلتنا الشعبية أحداث الفلم، طبعاً مع (الموسيقى التصويرية) وبعض الكلمات الأنكليزية التي نخلطها بدهاء مع اللغة الكلدانية (السورث)، وكم كان لكل ذلك من تأثير على صبية المحلة الذين كانوا يتعجبون فيقول أحدهم: ( يا يابة .. لك بالقرعان هذولة النصارة حتى إنكليزي يحجون !!).
كان لسينما السندباد رائحة خاصة لا زالت عالقة في خياشيم ذاكرتي، هي مزيج من رائحة رطوبة الأماكن المظلمة وعاقول أو "حلفة" مكيفات الهواء القديمة العملاقة وروائح التوابل الشرقية الصادرة عن العنبة الهندية (مخلل المانكو) التي كان حانوتي الكافيتريا يضعها فوق لفة الصمون بالبيض المسلوق أو الفلافل أو كليهما مع بعض الطماطم، بالإضافة لرائحة الأذرة المشوية المحمصة (باب كورن) التي كان البغداديون يسمونها: شامية.
كل تلك الروائح كانت تمتزج بخصوصية عجيبة تأخذني إلى عوالم شرقية سحرية خرافية عتيقة كانت تنتشر حولي وأنا أقرأ في صغري كتب التأريخ والبطولات وعوالم الف ليلة وليلة والشاطر حسن والسندباد البحري وعنترة بن شداد العبسي وصولاً إلى اللص الظريف (آرسين لوبين) وحتى طرزان ملك الغابات !!.
يلي ذلك وقفة سريعة ولذيذة عند محل (لبن أربيل - شنينة) ذو النكهة المدخنة، والذي كان يقع على يمين ساحة النصر الصغيرة. وبمبلغ (25) فلساً كنتُ أرتشف ببطيء لذيذ اشهى قدح لبن مُثلج في بغداد. لا أعرف إن كان ذلك المحل موجوداً لحد اليوم أم لا؟، وهل أبدلوا إسمه من ( لبن اربيل ) إلى ( لبن هة ولير )، وهو الإسم الذي إختاره الأكراد -إخوتنا في الوطن- لمدينة أربيل التي إتخذوها عاصة لهم؟، ناسين أو متناسين بأن إسم (أربيل) هو إسم آشوري عريق يعني: (الألهة الأربعة) والذي يُلفظ بالأشورية (أربة أيلو)، وعمر هذه التسمية، عدة قرون قبل الميلاد!!.
في العراق تم تعريب وتكريد وتفريس وتتريك الكثير الكثير من كل ما هو أصيل وقديم في ذلك البلد، في محاولة لاهثة لطمس تأريخ وتراث الشعوب الأصيلة لتلك الأرض!!. متناسين في حمى وجهل تعصبهم بأن الإنسان إن لم يكن يعرف تأريخه ومن أين جاء، فلن يعرف مستقبله وإلى أين سيذهب!!، وهذا بالضبط ما يحدث اليوم في العراق.
في وسط ساحة النصر يرتفع تمثال الراحل عبد المحسن السعدون، والذي سُمي هذا الشارع الشرياني بإسمه. ولد السعدون سنة 1889 م، وإنتحر سنة 1929 م .
تقلد الرجل 4 وزارات عراقية وإنتحر بعد تعرضه لضغوط نفسية قاهرة بين مصالح وطنه العراق وسلطات الإستعمار البريطاني، كان السعدون قد رفض التوقيع على معاهدة سنة 1925 الجائرة بحق الوطن العراقي.
طريقة موت السعدون إنتحاراً تُذَكِرُني بالرجال الفحول اليابانيين الذين كانوا ينتحرون خجلاً عن طريق شق بطونهم بسيوفهم وخناجرهم حين يفشلون في القيام بواجباتهم، ليس في الحرب فقط … بل حتى في السِلم!، أتسائل بسخرية: هل لا زال في العراق رجالٌ من نوعية عبد المحسن السعدون!؟.
على يسار تمثال السعدون، كان هناك مطعم صغير لبيع الدجاج المشوي المعروض خلف زجاج واجهة المحل وهو يدور ويتقلب حول الشواية. وأعتقده كان أول محل من هذا النوع في بغداد. كان إسم ذلك المحل (علي شيش)، وهي التسمية الوطنية الشعبية للدجاج الرومي أو الحبشي أو الهندي أو كما يسميه الأميركان (Turkey تُركي)، كذلك يسميه البعض (عَلو عَلو) نسبة إلى صوته المُميز المُضحك.
في زمن عبد السلام عارف (المشير.....)، قام بعض الشباب المتطرفين دينياً وطائفياً، بكسر الإعلان الضوئي لكلمة (علي) وأبقوا كلمة (شيش)!، لأنهم إعتبروها إهانة لإسم الإمام علي بن أبي طالب!!، ولم يجرأ صاحب المحل على إصلاحه ثانية، ولا أعرف نهاية القصة!.
كُنا، إبن عمتي الراحل صلاح دنو وأنا، أيام مُراهقتنا، نقف أمام واجهة المحل نراقب ذلك الدجاج المحمص وهو يدور أمامنا على نار هادئة تشويه وتشوينا، وكالعادة لم تكن جيوبنا الطلابية قادرة على دفع مبلغ 600 فلس للدجاجة الواحدة لأن كامل إسبوعيتنا كانت 500 فلس فقط!!، كذلك كنا نرفض أن نتمتع بأقل من دجاجة كاملة لكل منا، وكما يقول الشاعر أبي فراس الحمداني:
ونحنُ ناسٌ لا توسط بيننا ...... لنا الصدرُ دونَ العالمينَ أو القبرُ !.
بعد أن زادت عيدانياتنا في أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة، وذات مساءٍ (كرسمسي) شتائي بارد، وخلال إنتظارنا للباص # 21 بعد إنتهاء العرض السينمائي، وقفنا صلاح وأنا أمام زجاج واجهة ذلك المطعم الصغير، ولا أعرف عن صلاح … لكني كنتُ مستعداً أن آكل بعيراً كاملاً لوحدي تلك الليلة، سال لُعابنا كالعادة، كنتُ أنظر لذلك الدجاج المحمص وهو يغمز لي أثناء دورانه حول الشواية.
وفجأةً .... إلتقت أعيننا للحظات قصيرة جداً .. صلاح وأنا، لكنها كانت كافية لتبليغ وإستلام الرسالة المُشفرة بيننا، وبدون كلمات دفعنا باب المطعم الصغير ودخلنا دخول الفاتحين.
في الساعة التي تلت دخولنا إلى المطعم حدثت أشياء لستُ مستعداً اليوم لشرحها!، وأكتفي بكلمة واحدة للتعبير عما حدث في تلك الساعة التأريخية، (مجزرة)!!.
بعد أن غادرنا المطعم متخمين إنتابتنا موجة ضحك أدمعت عيوننا وأوجعت بطوننا المنتفخة وإستمرت أكثر من نصف ساعة، وأعتقد أن كل قارئ قد مر بضحكة كهذه وإن تعددت الأسباب، والتي تعبر عن أشياء لا تُشرح مهما نمقنا الكلمة وأجَدنا التعبير، بل هي تُحس وتُدرَك وتُفهم فقط.
أستمر في إختراقي لشارع السعدون. أمر بعدة دور للسينما، النجوم، أطلس، وسميراميس، ثم يأتي فندق بغداد الذي كان أكبر وأفخم فنادق العراق يومذاك، ثم أصل إلى ال ( y.m.c.a ) جمعية الشبان المسيحيين، والتي كانت تابعة للآباء اليسوعيين، وكانت الحكومات التي أعقبت الزعيم قاسم قد أغلقت أبواب هذه الجمعية خوفاً من الجاسوسية!!!!!. وأعطت بناية الجمعية لأليات الشرطة!!. في تلك الفترات المُخجلة من تأريخ العراق، وكمثال، كان كل من يحمل كاميرا يُشتبه به كجاسوس!!، والعجيب أن تلك الأيام وبرغم قتامتها أصبحت أيام عز وخير ورفاهية مقارنة بما يحدث اليوم!، وكما يقول المثل: جرب قلب غيري .. حتى تشوف خيري.
أستمر في مسيرتي إلى أن أصل سينما النصر على الجانب الأيسرمن شارع السعدون.
كعراقيين، كنا يومذاك نُفاخر بصالة هذه السينما الفخمة الكبيرة الأنيقة ذات الطابقين، ونشعر داخلها بأننا في دار أوبرا حضارية غربية. كان لهذه السينما رائحة لكل ما هو جديد ونظيف ومُنعش. وكان أغلب زبائن هذه الصالة من العوائل البغدادية، لذا كان معظم الشباب "الذكور" يتصرفون برقي وبطريقة حضارية لا يسلكونها في بعض صالات السينمات الأخرى التي لا ترتادها العوائل والجنس اللطيف، وكانت هذه الملاحظة دائماً تُثبت مقولة وفلسفة: "غَيِر ظروف ومُحيط الإنسان، تتغير أخلاقه".
بعد سينما النصر مباشرةً تقع بناية وصالة (فرقة المسرح الفني الحديث)، بقيادة الكبير الفنان يوسف العاني.
داخل ذلك المسرح الصغير نسبياً شاهدنا وتمتعنا بمسرحيات كثيرة أذكر منها مسرحية "نفوس"، "المفتاح"، "النخلة والجيران" وغيرها الكثير. وللحق أقول بأن هذه الفرقة اليسارية التوجه كانت قفزة حضارية في المستوى العام للفن المسرحي في كل البلدان العربية، حيث كانت معروفة بجدية ورصانة ومستوى أعمالها المسرحية، ولا أعرف إن كان العراق سيجود بمثلها في القادمات من سنينه!؟.
أصل ساحة الجندي المجهول، كان نصباً عالي البناء بحيث نحس ونحن نقف عند قاعدته وشعلته الأبدية بضآلتنا الجسدية، وكم حزنتُ يوم سمعت في المهجر بأن صدام حسين أمر بتهديمه بعد أن بنى نصباً جديداً في ساحة الإحتفالات الكبرى في جانب الكرخ والذي صممه الفنان خالد الرحال.
وبما إنني من الناس الذين لا يخضعون عادةً للجو السائد، لذا فقد تصورتُ دائماً بأننا لسنا بحاجة إلى نصب للجندي العراقي المجهول!!، بل ربما كنا بحاجة أكثر للمواطن العراقي المجهول، فالجيش العراقي لم يُستَعمَل في أي عمل مُشَرِف في صالح الوطن العراقي لحد اليوم!!، وللأسف فقد تم إستعماله دائماً في الإعتداء والإقتصاص من المواطن الجيد والشعب والجيران بدلاً من حمايتهم!، وأُستُعمِلَ في تلميع وجه الطغاة دائماً، وكان أداة بطش وتنكيل حديدية بحق شعبنا العراقي، وسيفاً بيد الرعناء والموتورين والمعقدين من ضباط وجنرالات أبناء العشائر المحيطة ببغداد، من الذين إستباحوا مدينتنا وعاصمتنا بغداد بسبب عقدة النقص التي سببها رسوبهم في قعر السلم الإجتماعي وشعورهم بالدونية، هذا البعض من الضباط الذين دخلوا في الجيش العراقي لفشلهم في إثبات جدارتهم في مرافق الحياة الأخرى، خَدَمتهُم ظروف البلاد لإعتباراتٍ عديدة، وبقوا يتابعون عن كثب مُحصلة الربح والخسارة بنَفَس إنتهازي ونفعي، إلى أن فازوا بفرص ذهبية لم يكونوا أهلاً لها أبداً، وأدت لاحقاً لحرق العراق وتدميره.
أصل في جولتي إلى دكان عَلاوي أبو الرگي، (الرقي).
[ يسمي أهل العراق البطيخ الذي داخله أحمر ب الرقي، نسبة إلى الرَقة، وهي كل لسان رملي ممتد في النهر، يغطيه الماء ثم ينحسر عنه. ويسموه في الموصل: شمزي، وفي النجف: دبش، وفي مكة: حبحب، وفي المغرب: الدلاع، وفي الشام كان يُسمى: الزبش ] من كتاب الفرج بعد الشدة، للتنوخي، جزء 3.
كان دكان علاوي عبارة عن مرآب (گراج)، وركياته تملآ المكان وتفترش نصف الرصيف. كُنا نسأله متعمدين: ليش متبيع بطيخ؟، كان يبتسم ويعرف شغفنا بجوابه التقليدي: "إحنة إختصاصنا رگي فقط" !!. وكم كانت جميلة ومُطَرقِعة تلك ال (فقط) المُفَخَمَة على لسان علاوي، ذلك البغدادي الشقندحي الأريحي الشعبي الذي كان يغني بصوته الأبح بستات عن الرگي ومذاقه ولونه ورائحته وبرودته وفوائده الصحية والجنسية !!!!!.
كان يلبس النطاق العسكري الذي يلتف حول دشداشته وبطنه المترهلة، يقف والسكين بيده وفي اليد الأخرى رگية مدورة أو بيضوية، ويُنادي الزبائن بطريقة إستعراضية مسرحية، ثم يشق الرگية (شرط السكين)، وكان يتنبأ دائماً بأنها ستكون "حمرة دم"، و"مثل خدود حبيبة القلب، بس لا تگولون لمرتي"!، ويصيح بصوته وهو يُلحن: "عين الحسود بيها مردي يا ولد" و "على عناد اللي ما تحمل عيونهم" و "برد قلبك يا ولد".
كان علاوي مُحباً للنساء بشكل ملحوظ (عينة مالحة)، وكلما مرقت إمرأة أو فتاة أمام دكانه يصرخ على بضاعته مبتسماً وحاجباه يتراقصان: "ضوك وبَلِش يا گمر … رگينة أحمر وحلو … قِرمِز قِرمِز قِرمِز"!.
قرمز في اللغة الكردية تعني: أحمر.
ذات مرة كان هناك أطفال من أبناء بيوت الأزقة الفرعية القريبة من گراج علاوي، راحوا يناكدوه ويلاعبوه من على مبعدة وهم يغنون البستة العراقية الشهيرة:
علاوي علاوي
يا بو السبع خصاوي
وحدة شكف
وحدة لكف
خمسة أكلهة الواوي
بينما علاوي يضحك ويغمز لزبائنه قائلاً: هم زين الواوي خلالي ثنتين، جان مرتي طلگتني وضربتني ميت طگاگية على راسي !!.
في أميركا وظفتُ شخصية علاوي في إحدى مسرحياتي الكوميدية الشعبية (خفافيش)، وتألَقَت شخصيته بصورة أكثر مما توقعتُ، لدرجة أن الجمهور تعلق بها لفترة زمنية، وكان الشباب الكلدان يرددون لازمة (تعلوكة) علاوي المحببة ( قِرمِز قِرمِز قِرمِز ) كلما صادفتهم فتاة جميلة.
تستمر جولتي إلى أن أصل ساحة كهرمانة حيث ينتصب تمثالها الواقع في (المفرق) بين الكرادة داخل والكرادة خارج، والتمثال من أعمال الفنان محمد غني حكمت.
يتوهم البعض بأن هذا التمثال هو ل(جمانة) زوجة علي بابا والأربعين حرامي. بينما كهرمانة -صاحبة التمثال- لها قصة أخرى مع أربعين حرامي أيضاً، إختبأوا في جرار (بساتيق) والدها التاجر، وقامت بدلق الزيت في الجرار الأربعين إلى أن إمتلأت وخرج منها اللصوص صارخين فأمسكتهم الشرطة، وتقول بعض المصادر أن هذه القصة يعود تأريخها إلى ما قبل العصر الإسلامي!.
أبتسم بأسى وأنا أراجع عبر ذاكرتي عَراقَة الحرامية في تأريخ بغداد والعراق، فمرات قليلة كان الشعب هو الناهب، ومئات المرات كان منهوباً، ومر بالعراق حرامية وحكام كثيرون، تفننوا في سرقته، كان منهم الممسوخ بأمر الله (أبو عدي) وعائلته "الكريمة" وخالهِ وأبو زوجته (خير الله طلفاح)، وإنتهاءً بخراتيت الطائفية البغيضة الذين نهبونا حلالاً وحراماً فإستحقوا مقولة: إذا رأيتَ طائفياً شريفاً فإستحمد الله!!، وفي عهدهم المبارك لم يتبق شيئ يُسرق في أرض الرافدين، لأنهم سرقوا حتى التماثيل البرونزية ومن ضمنها تمثال السعدون، وسرقوا تأريخنا وشواهد حضاراتنا في عشرة آلاف وخمسمئة قطعة آثارية، بعد دخول الأميركان والفوضى التي ضربت أطنابها في العراق ..
أسير في شارع السعدون وأنا أستنشق الرائحة الطيبة المثيرة لأشجار (الكاليبتوس) على جانبي ذلك الشارع، ورائحة (الآس) والورود في الجزرة التي تفصل بين ذهاب وإياب السيارات.
أصل كشك هامبركر (أبو يونان) الشهير، وأشم رائحة الهمبركر المشوي التي لم يكن يستطيع مقاومة سحرها أحد، أنتظر دوري خلف طابور لا يقل عن عشرة أشخاص في كل مرة. أملأ فمي بنهشة من همبركراية مشوية لم يكن أحد في كل العراق يستطيع تقديمها أحسن من أبو يونان، مصنوعة من اللحم الصافي غير المغشوش وشرائح الطماطم والبصل، مع طبقة من الخردل والصاص. وفي كل سنوات إغترابي في أميركا لم أتذوق أي همبركر أطيب من الذي كان يقدمه أبو يونان، رغم أن أميركا هي أُم الهمبركر وموطنه!!.
في نهاية المطاف تقريباً أصل إلى محل (دوندرمة الصبايا) (ice cream)، وكما كان يقول صديق طفولتي أياد بابان:
وفي أماسي الكرادة الشرقية….. كل عصرية زرنة وطبل وجوبية.
في تلك العصاري والأماسي الحارة، كان الزحام على أشده عند دوندرمة الصبايا، ربما كان نوعاً من الأستعراض للشباب والصبايا وبدون تحضير أو موعد مسبق أو إتفاق. كانت دعوة مفتوحة للجميع، وكانت الدوندرمة تُساعد على إطفاء حرائق الفكر والنفس ورغبات الجسد.
هناك كُنا نرى الفتيات الفاتنات من كل عمر ونوع، بإبتساماتهن وعطرهن وتنانيرهن القصيرة وخدودهن التي تشبه تفاح بغداد (خد وخد)، وتغنجهن ونهودهن التي تكاد تتحرر وتثب من حمالاتها، وعيونهن العراقية الكحيلة التي أستطيع تمييزها من بين عيون كل النساء في مدن الغرب ومطارات العالم، ونظراتهن المتلصصة -غير البريئة- التي تنتقي من يروق لها كما هي عيوننا. كُنَ يعرفن بالضبط تأثيرهن الرهيب على الشباب الذين كانوا حولهن يذوبون كما هي الدوندرمة في الأيدي والأفواه. وكم كنتُ أود لو أغلقتُ عيني عن رؤية مدى جمال وفتنة وأنوثة وإغراء بعض تلك الفتيات الساحرات. وكنتُ أتذكر ملحمة "الأوديسا" لهوميروس: حين كان الملك أوديسيوس مُبحراً فوق سطح سفينته عائداً لبلده بعد حرب طروادة. وكيف كانت "حوريات البحر" يغنين له ولبحارته في محاولة لأغوائهم وإجتذابهم وقسرهم لقذف أجسادهم في موج البحر سعياً خلف الحوريات الفاتنات صوتاً وشكلاً وجسداً، وكيف أنه راح يسد آذان بحارته بالشمع حتى لا يسمعون الغناء الشهواني الشبقي!، ثم ربط جسده إلى صاري سفينته خوفاً من القفز في لجج البحر والغرق في محاولة لنيلهن!!.
أذكر شاباً جريئاً قال لمجموعة من الصبايا وهن يقفن في الطابور الذي ينتظر شراء الدوندرمة: إنتو شنو .. نعمة لو نقمة؟.
أجابته أحداهن وهي تبتسم بتغنج: ميهم نعمة لو نقمة، المهم إنتوا إبليانة مكاين خربانة متشتغل!!. ضحك كل الحاضرين لصراحتها وجرأتها.
في طريق العودة تذكرتُ حكاية كنتُ قد قرأتها في كتب التراث العربي تقول:
[ مر شاعر بنسوة فأعجبه حسنهن فأنشد يقول:
إن النساءَ شياطينٌ خلقنَ لنا ........... نعوذُ بالله من شرِ الشياطينِ.
فأجابتهُ واحدةٌ منهن بكل ثقة:
إن النساءَ رياحينٌ خُلقنَ لَكم ......... وكُلكُم يشتَهي شمَ الرَياحينِ ].
تنتهي جولتي … فأعود بالباص العمومي إلى ساحة النصر التي هي محطة إقلاع الباص # 21 الذي سيُعيدني إلى بيتي.
في الليالي الشتائية أو الصيفية كان (أبو الفشافيش) وهو بائع الكبد والقلوب والتكة والمعلاق المشوي، يشارك موظفي مصلحة نقل الركاب الحكومية إحتلال الرصيف الذي يقع بين ساحة النصر وشارع تونس في منطقة البتاويين التي سُميت بهذا الإسم لأنها كانت في السابق منطقة سكن صُناع قماش البتة.
أثناء إنتظاري لإقلاع الباص كان يُهاجمني دخان منقلة (أبو الفشافيش) ورائحة الشواء الآسِرة التي لا ترحم، وكغيري من العراقيين لم أكن أملك المناعة المضادة لوحش المشويات. لذا كنتُ أتحلق مع بقية الزبائن حول المنقلة وأطلب عشرة أشياش فشافيش!!، ولا عجب لو علمنا بأن حجم (الفشة) الواحدة كان أكبر بقليل من حجم الذبابة!!. وسعر الشيش الواحد كان عشرة فلوس فقط ! يا بلاش.
كان يخرط اشياش الفشافيش العشرة في باطن قرص الخبز المدور، مع بعض الكرفس أو المعدنوس أو الكراث والرشاد، وربما على الجانب شيش طماطة وبصل مشوي، مع قدح ماء مثلج. وبعد كل هذا (الترف) البغدادي الأصيل "فالموت حق" كما كان يقول البغدادي حين يشبع.
وكم كان يبتهج ويفاخر، أبو الفشافيش، حين يرى مدى إستمتاعنا بمشوياته، ويروح يناغينا من أعماقه الطيبة:
"وين مينزل يهلهل عيوني، الف عافية أغاتي".
ويُعالجك بإستكان جاي مُهيل أو أبو الدارسين أو جاي حامض بالنومي بصرة. كان يضع عدة إستكانات مع مواعينها على إمتداد كفه وساعده الأيسر في توازن عجيب، ويضع داخل كل إستكان عدة ملاعق سُكر ولا يهمه إن كنتَ من محبي السكر أم لا، ففي الأوساط الشعبية ليس من المهم أن تعجبك بعض الأمور، بل مهم جداً أن تتقبلها بإمتنان وتتعايش معها.
وبالقوري المُزخرف يصب الشاي في تلك الأقداح الزجاجية المُسَطَرَة على ساعده الأيسر. كان احياناً وعندما يكون الزحام على أشده يرفض أن يأخذ ثمن الشاي، فرَحاً وإمتناناً للزحام والرزق الجيد لذلك اليوم، وكلما تدريع (تجشأ) أحد المشترية بعد رشفة شاي طويلة، يجيبه أبو الفشافيش أو أحد صُناعه مُداعباً:
" إكلَمْ ... أنعَلْ أبو العِزَمْكَمْ ".
يتحرك الباص رقم 21 (أبو القاطين) وأنا في داخله، ولو كانت لفة الفشافيش لا تزال في يدك، فيمكنك (سرطها) في الطابق العلوي من الباص، حيث النوافذ مفتوحة، والهواء (يغربل) وكأنك في مصيف شقلاوة أو سرسنك أو كَلي علي بيك. ومن الممكن جداً أن تتمتع بغفوة هادئة بعد هذه الوجبة الدسمة، وتوصي الجابي (المُحصل) بأن يحسسك في المنطقة الفلانية، لأن الطريق كان يستغرق قرابة النصف ساعة أو أكثر حين الزحام، وكان الجابي يقبل عن طيب خاطر، وحدث في إحدى المرات أن إستيقضتُ وأنا في نهاية الخط !، ولكنهم أعادوني في طريق عودتهم.
أترجل بسلام، وأتمندل في مشيتي وأنا أصفر لحناً شرقياً لأغنية ما، أحس بالشبع والتعب الجسدي والإرتياح النفسي، فقد إختفت مخالب وأنياب مزاجيتي وإلى إشعارٍ آخر.
وقبل أن أصل البيت بقليل، أميز -على ضوء القمر- رأس أُمي الطيبة القلقة خلف الحائط القصير لسطح الدار، حيث ينام البغداديون منذ أجيال فوق سطوح منازلهم في ليالي الصيف الرائعة. كانت أُمي كعادتها، لا يتمكن منها النوم إلا بعد وصولي أو من تأخر من أخوتي، وحالما تتأكد من وصول آخرنا، تذهب لتنام وهي مطمئنة وشاكرة الرب الذي تُصلي له ليحافظ على بناتها وأولادها، فشعور العراقيين بالطمأنينة لم يكن يُعادله وزن الأرض ذهباً. ولم يكونوا يعرفون ما تُخبئ لهم الأقدار والقادمات من السنين العجاف!!.
قبل أن أنام فوق سطح الدار، أشرب من ماء (التُنكة) الفخارية الباردة (الكوز)، وقبل أن أعيدها أستنشق وبعمق رائحة الفخار المشبعة بالماء، أه من تلك الروائح الشرقية الخاصة التي طالما إفتقدتها أثناء حياتي في أميركأ، والتي كنتُ حريصاً على التمتع بها يومذاك، أعتقد أن الروائح لها مكان خاص في دماغ الجنس البشري وتلعب دوراً هاماً في حياته.
أتمدد فوق سريري، وأسحب الغطاء فوق النصف الأسفل من جسدي، وأعب صدري من أنسام الصيف المُشبعة أحياناً برطوبة وندى الليل المُنعش، وأنصتُ للسمفونية الخالدة التي تعزفها مئاتٌ من ضفادع الساقية العريضة التي تمر من جانب بيوتنا في طريقها لتسقي مزارع أبو غريب.
أُحدق بالسماء الصافية الأزلية فوقي، حيث يجثم بهدوء قمرٌ كبير، ذلك الصديق العتيق المُبتسم الصامت. أُراقب بلايين النجوم والأفلاك والكواكب، وأُناجي كائناتٍ ما .. أعرف يقيناً إنها موجودة هناك في بعض تلك الأجرام السماوية البعيدة، والذين قد يكونون هم من إرسلنا قبل ملايين السنين إلى الأرض كجرثومة بشرية لتخليصنا ربما من حرب كونية فضائية لم تُبقي منهم أحداً !!.
أسرح في أسرار هذا الكون الرهيب اللا مُتناهي، وأفرح لكوني ذرة صغيرة جداً فيه، وقبل أن تستلمني جنية النوم، تُراودني نفس الأسئلة التي طرحها إنسان كل العصور:
من نحنُ ؟.
من أين أتينا ؟.
وإلى أين سنذهب ؟.
المجد للإنسان.
طلعت ميشو. كاتب وناقد عراقي.
March-2014
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
الگاردينيا: لم نزين المادة بالصور لكون كاتبها لايحب الصور..فقط للعلم
1483 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع