تلوح في الأفق خطة دولية لمعالجة الأزمات العربية الملتهبة تقوم على مجموعة دوائر منفصلة لها مبرّرات واقعية. تتولى دول مجلس التعاون الخليجي بواسطة «درع الصحراء» الدائرة اليمنية، وتتولى مصر والجزائر وتونس معالجة المشكلة الليبية، وتتولى تركيا وإيران والسعودية المشكلة في العراق وسوريا ولبنان.
لهذه الخطة إمكانات فعلية ميدانية إذا توافرت لها الشروط التالية: توافقات دولية وإقليمية وتصورات جدية لإطلاق العملية السياسية التشاركية الفعلية في دول الأزمات. ومن الأفضل طبعاً والأنجح أن يصار إلى اتفاقات مسبقة على تأليف حكومات انتقالية ذات صفة وحدوية وطنية تتولى بدعم من «التحالف الدولي» إدارة العملية السياسية خارج نطاق العنف والجبهات المسلحة المنظمة القادرة على تهديد مثل هذه العملية. هناك بذور أو مرتكزات يمكن البناء عليها ولم يتجاوزها الزمن. الدستور العراقي الاتحادي وانفتاحه على نظام الأقاليم، مقررات المؤتمر اليمني الوطني ونظام الأقاليم الستة، استيحاء نظام الأقاليم في ليبيا، حفاظاً على وحدة البلد الكيانية، الانطلاق من اتفاق جنيف 1 و2 في المسألة السورية ودفع الحوار الوطني في اتجاه التفاهم على النظام السياسي المقبل بمعزل عن القوى والتنظيمات وحصصها والشروع في تأليف حكومة وحدة وطنية انتقالية.
على أي تدخل خارجي تحت أي مسمّى مثل «التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب ـ داعش والقاعدة وأخواتهما» أن يسبقه إعلان مبادئ وشرعية دولية أو رؤية للحلول السياسية وإلا تحوّل إلى توريط لما بقي من دول لديها بعض القوة والاستقرار لكي تدخل في الفوضى القائمة.
في الدول الملتهبة والمتفجرة نزاعات طائفية وقبلية ترعاها دول عدة وليس بالضرورة أن دول الجوار الجغرافي تستطيع لوحدها أن تعيد صياغة الحياة الوطنية. من الإيجابي الملحوظ حتى الآن وغير المكتمل العودة إلى العملية السياسية العراقية بموافقة ضمنية من إيران والسعودية.
وكذلك من المظاهر الإيجابية الوفاق في مجلس التعاون الخليجي الذي يساعد في أكثر من موقع والتحفّز المصري للتدخل في حل المشكلات الإقليمية بديبلوماسية هادئة من غزة إلى ليبيا. لكن إطفاء النار العربية لم يعد ممكناً قطعة قطعة بانفصال المعالجات. فليس مَن يجهل أن مشروع الإسلام السياسي يشمل المنطقة كلها وكذلك صراع المحاور وما تريده من مصالح ونفوذ. فالحوثيون والسلفيون والقاعدة ودعاة الانفصال في الجنوب هم جزء من الصراع على الخليج.
وليبيا مشروع مزدوج تتقاسمها الدول الغربية حصصاً نفطية وتحرس آبارها القبائل الموالية وتشكّل في امتدادها الصحراوي أكبر بيئة لانتشار التطرف والضغط على سياسات مصر وتونس والجزائر وغيرها من دول أفريقيا عند الحاجة. أما العراق وبلاد الشام فهي أسيرة في الواقع الجغرافي والديمغرافي لشهوتي إيران وتركيا في اقتطاع مدى حيوي وحدائق خلفية لنفوذهما. وإسرائيل دائماً هي الطرف الذي يبحث عن أحزمة أمان توفي بتصوراته العقائدية الدينية والعسكرية وبطموحاته التسلطية. وفوق هذه كلها يجب أن تنسجم خارطة المنطقة مع الدائرة الدولية الأوسع لتوزيع منافع النفط وإرساء التوازنات على النحو الذي يعكس موازين القوى الذي كان أحد أخطر تجلياته اندلاع الأزمة الأوكرانية الروسية في امتداد هذه الحرب الكونية الرابعة.
أمام صعوبة وتعقيد المشهد وحجم القوى والمداخلات والتفاعلات تبدو دعوتنا إلى القوى المحلية لكي تحافظ على الحد الأدنى من المعالجات الوقائية أشبه بالتمنيات الفارغة. لكن ليس في السياسة ما هو حتمي ومرسوم سلفاً، ولنا من تجارب الحروب الدولية ومنها الحرب الأولى التي نحن في ذكراها المئوية الكثير من الدروس والعبر. فاللاعبون المحليون يساهمون إلى حد بعيد في تعديل الكثير من الخيارات الثانوية في لعبة الكبار خاصة عندما لا تكون مؤثرة على مصالحهم الكبرى. نعني هنا لبنان بالذات الذي يستطيع أن يستظلّ حالة التبريد المفترضة للأزمة ليعزز من تضامنه الداخلي وحلحلة مشكلات هي في الحقيقة لا تستحق هذا المستوى من الانقسام والمغامرة بالمصير. وللبنان مرتكزات أساسية جاهزة للحلول من خلال دستوره المتقدم ووثيقة الوفاق الوطني. والمطلوب فقط القليل من شهوة السلطة.
856 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع