في بغداد جسر معلق، مخصص للسياسيين وقاطني المنطقة الخضراء، ومغلق في وجه المواطنين، يُسبب إغلاقه زحامًا في الشوارع المحيطة، وفصامًا في ذاكرة البغداديين الذين فقدوا الأمل في عبوره.
إيلاف/عبد الجبار العتابي من بغداد: أسف مواطنون قاطنون في بغداد لاستمرار إغلاق الجسر المعلق، والزحام المروري الذي يسببه في الشوارع المتاخمة له، وتعطل مصالح الناس وتعكر حالتهم النفسية حين يطلون على الجسر المحاط بالحواجز الاسمنتية الصماء وبالجنود المدججين بالاسلحة. فهذا الجسر الجميل ليس صالحًا لاستخدام المواطنين، والمرور عليه مقتصر على السياسيين من سكان المنطقة الخضراء.
الأول في الأوسط
الجسر المعلق ببغداد من أجمل جسور المدينة. فهو تحفة فنية، والمكان من حوله يمتاز بالجمال، لكنه الآن عاطل عن العمل ولا يعبره الناس. ولا تختزن ذاكرته سوى المجنزرات والآليات العسكرية وسيارات الدفع الرباعي، فيما الناس غائبون عنه، لا يعرفهم ولا يعرفونه، ولغة الحوار بينه وبينهم يحكمها الشعور بالغبن، اذا أن النظرات لم تعد قادرة على تخطي الحواجز.
وجسر 14 تموز المعلق في تسميته الرسمية، أو الجسر المعلق كما هو متعارف عليه بين سكان بغداد، وهو أول جسر معلق في الشرق الأوسط، يربط منطقة كرادة مريم بمنطقة الكرادة الشرقية، وبالتحديد عند محلة الزاوية بمنطقة الرصافة، على جانبي نهر دجلة في بغداد، أنشأته شركة بلجيكية في اوائل الستينيات، وتم افتتاحه في العام 1964.
واكتسب الجسر أهمية أكبر بعد أن شيدت بجانبه مبانٍ رسمية للدولة العراقية، كالقصر الجمهوري وقاعة الخلد وغيرهما. وقد تعرض للتدمير الشامل في حرب الخليج الثانية في العام 1991 م، وأعيد بناؤه في العام 1995.
فقدوا الأمل
أكد مواطنون أن جسر 14 تموز المعلق وسط بغداد مغلق للسنة العاشرة، على الرغم من الحاجة الفعلية إليه، إذ يصل بين مراكز العاصمة، ما بين الكرخ والرصافة، ويؤدي إلى اتجاهات مختلفة تخفف من حدة الازدحام المروري، الذي يهيمن على صباحات بغداد ومساءاتها.
قالوا: "السير ممنوع تحت الجسر من ناحية شارع ابو نؤاس، حيث تضطر السيارات للنزول إلى شارع الكرادة، ومن ثم الصعود إلى شارع ابو نؤاس".
فقد المواطن شاكر حسن أمله بعبور هذا الجسر قبل أن يلاقي وجه ربه، "إلا اذا اصبح برلمانيًا أو شخصية سياسية كبيرة، وهذا مستبعد فلا عندي مؤهلات ولا أَهوَى السياسة".
أضاف: "هذا ليس حلمي وحدي، بل حلم يراود الكثيرين من أترابي".
أما الستيني ابو عباس فينظر إلى الازدحام قرب جسر الطابقين وعلى جسر الجادرية، "والناس تتأخر ساعات وتتعطل مصالحها، لكن لو كان الجسر المعلق مفتوحًا لكان الوضع أسهل".
محرّم على الشعب
شرطي مرور تحت الجسر، رفض الكشف عن اسمه، قال لـ"إيلاف" بعفوية: "الجسر المعلق مغلق لأن الأميركيين اغلقوه بعد أن دخلوا بغداد، وما زال مغلقًا يسبب الازدحام".
الطريق إلى الجسر المعلق لا يوحي بشيء من الامان، لا سيما للقادم من جسر الطابقين. فالحواجز الاسمنتية والجنود المسلحون يشيعون في النفس رهبة تمنع من التفكير بالعبور حتى مشيًا على الأقدام، فيما يتدحرج الخوف على الاسفلت الراكض إلى منطقة كرادة مريم. إنه غائب عن الوعي تمامًا، اذ لا خطى تمشي عليه ولا عجلات عادية تدوس أرضيته، وكأنه ليس جسرًا حقيقيًا مهمته أن ينقل الناس من هذا الصوب إلى الصوب الآخر.
يخاف علي عبد الكريم من النظر اليه حتى. يقول: "عشر سنوات اليوم، وهو مقطوع، فأصبح شكله مخيفًا بحواجزه وأسلحته وعسكره، فلا نرى عليه الا السيارات المظللة المسرعة باتجاه المنطقة الرئاسية والحكومية".
وإلى خوفه، يتألم عبد الكريم لأن عبد الكريم قاسم، رئيس وزراء العراق بين العامين 1958 و1963، بنى هذا الجسر للفقراء، فمنعوا من المرور عليه والتمتع بمشاهدة دجلة والبساتين.
اما محمد عباس الكرادي يشير إلى أن هناك "من يخيفنا من أمور مخيفة تحدث في القاطع الثاني من الجسر، ومرة سمعت أبي يقول إن هذا الجسر محرم على الشعب، وأمنيتي أن أمشي عليه، لكنها أمنية لن تتحقق!".
الممنوع سيد الموقف
من غير الممكن مشاهدة اي جزء من الجسر، ومن غير الممكن اشهار كاميرا للتصوير، لأن الممنوع هو سيد الموقف، والتقاط أية صورة يعرض صاحبها للأذى.
وعلى الرغم من جمال الشارع، الا أن الخوف قرين النظر بسبب الوحشة والسيارات المظللة.
يقول الفنان التشكيلي الدكتور جواد الزيدي: "إنه واحد من الجسور والامكنة التي كنا نرتادها، وفيه اعمال فنية، وقبل ايام خرجنا لفحص الاعمال في الجسر فوجدنا جدارية جميلة معدومة تمامًا، وهي قريبة من رأس الجسر من جانب كرادة مريم، وهناك العديد من المعالم الفنية الاخرى التي فيها ذكريات وتنقلك من صوب الكرخ إلى الرصافة وبالعكس".
أضاف: "كل هذا انقطع، فالجسر شريان حقيقي للحياة في بغداد وربما هو رابط توصيلي بين ثقافتين ومعلمين لهما تاريخهما في بغداد، ومن المفروض أن يفتح مثلما فتحت الطريق بين جسر الجمهورية وشارع الزيتون عبر نفق فندق الرشيد".
في ذاكرة العراقيين
أما الاديبة سافرة جميل حافظ، فمستاءة من الاستمرار في إغلاق الجسر المعلق، "فهو شريان عام وإن كان يمر في المنطقة الخضراء، لأن هذه المنطقة الخضراء ليست (تابو) محرمة".
أضافت: "ذكريات كثيرة تربطنا بالجسر المعلق هذا، ذكريات جميلة وتاريخ حافل من المشاعر، حتى عندما كنا نعبره مشيًا على القدمين"، متمنية الاستجابة لطلب الناس فتح الجسر من جديد للناس، "وسأكون أول العابرين عليه".
ويقول الكاتب علي المالكي إن الجسر المعلق "من الجسور التي ترتبط بذاكرة العراقيين جميعًا والبغداديين خصوصًا، والتطورات التي حصلت وتسببت في إغلاقه تحزّ في نفوس الناس، وعلى القادة السياسيين والامنيين أن ينتبهوا إلى أن هذا الاغلاق فيه مضرة للناس، فله تأثير كبير على انسيابية وتدفق وسائط النقل وحركة المواطنين داخل العاصمة التي تشهد تزايدًا كبيرًا في اعداد السكان والمركبات، ومن المؤسف أن يكون هذا الجسر الجميل خاصًا بالساسة الذين يذهبون إلى المنطقة الخضراء فقط".
515 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع