
'دييلا'ألبانيا تسلم مفاتيح خزانتها للخوارزميات
في سابقة عالمية جريئة، ألبانيا تعين نظام ذكاء اصطناعي بمرتبة وزير لاجتثاث المحسوبية والرشاوي في العقود الحكومية وتسريع الانضمام للاتحاد الأوروبي وسط عاصفة من الجدل الدستوري والمخاوف الأمنية.
ميدل ايست – في خطوة غير مسبوقة عالمياً قد تعيد تعريف مفاهيم الحكم والإدارة العامة في القرن الحادي والعشرين، أعلنت حكومة ألبانيا رسمياً دمج الذكاء الاصطناعي في أعلى هرم السلطة التنفيذية، عبر تعيين نظام ذكاء اصطناعي يُدعى "دييلا" (Diella) بمهام وصلاحيات وزارية، بهدف الإشراف على العقود الحكومية ومكافحة الفساد المستشري، وهي العقبة الرئيسية أمام طموحات تيرانا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وتأتي هذه الخطوة الجريئة في وقت تسعى فيه الدولة الواقعة في منطقة البلقان، بقيادة رئيس الوزراء إيدي راما، إلى تسريع وتيرة الإصلاحات الهيكلية عبر القفز فوق البيروقراطية التقليدية، مقدمةً للعالم نموذجاً تجريبياً لما يمكن تسميته بـ "الحوكمة الخوارزمية".
"الشمس" التي تكشف الفساد
"دييلا"، التي يعني اسمها "الشمس" باللغة الألبانية، في إشارة رمزية إلى الشفافية وتسليط الضوء على الزوايا المظلمة في الإدارة، ليست روبوتاً فيزيائياً يجلس خلف مكتب، بل هي نظام برمجي سحابي متطور تم تدريبه على ملايين الوثائق القانونية والإدارية. وقد ظهرت "الوزيرة" الجديدة في البرلمان والمؤتمرات الرسمية عبر شاشات عملاقة، متجسدة في صورة رمزية (Avatar) لامرأة شابة ترتدي الزي التقليدي لمنطقة "زادريما" الألبانية، وتتحدث بصوت واثق تم توليده آلياً.
وفي تصريحات نقلتها وسائل إعلام محلية ودولية، أكد رئيس الوزراء إيدي راما أن الهدف الأساسي من "دييلا" هو "تحييد العامل البشري" في عمليات المشتريات العامة والمناقصات، وهي القطاعات التي طالما شابتها المحسوبية والرشوة. وقال راما: "دييلا لا تملك أبناء عمومة، ولا تنتمي لأحزاب سياسية، ولا تطلب إجازات، ولا تقبل الرشاوى. هدفها الوحيد هو اختيار العرض الأفضل للدولة بناءً على البيانات والجدارة الفنية فقط".
https://www.youtube.com/watch?v=JPxNUN2nV4M
شراكة تقنية استراتيجية
ويعتمد النظام الجديد، الذي طورته الوكالة الوطنية لمجتمع المعلومات (AKSHI) في ألبانيا، على بنية تحتية سحابية متقدمة وفرتها شركة "مايكروسوفت" عبر خدمات "Azure OpenAI". ووفقاً لمديرة الوكالة، ليندا كارتشاناج، فإن النموذج اللغوي الضخم الذي يشغل "دييلا" قد تم تدريبه بدقة ليتوافق مع التشريعات الألبانية ومعايير "المكتسبات المجتمعية" (Acquis Communautaire) الخاصة بالاتحاد الأوروبي.
وبدأت "دييلا" مسيرتها في مطلع العام كمساعد صوتي (Chatbot) على بوابة الخدمات الحكومية "e-Albania"، قبل أن تتم ترقيتها لتولي مهام الرقابة العليا، حيث تمتلك القدرة على قراءة وتحليل آلاف الصفحات من العقود المعقدة في دقائق معدودة، وهي مهمة كانت تستغرق فرقاً بشرية كاملة عدة أشهر.
"ولادة" جيش من المساعدين الرقميين
وفي تطور لافت أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الإعلامية، استخدم رئيس الوزراء استعارة بيولوجية وصف فيها الوزيرة الرقمية بأنها "حامل"، معلناً أنها ستقوم قريباً بـ "ولادة" 83 مساعداً رقمياً (AI Agents). وتهدف هذه الخطوة إلى تخصيص مساعد ذكي لكل نائب من نواب البرلمان المنخرطين في لجان التشريع ومواءمة القوانين مع الاتحاد الأوروبي.
وستتولى هذه "الذرية الرقمية" مهمة قراءة مسودات القوانين الضخمة الواردة من بروكسل، وتلخيصها للنواب، واقتراح التعديلات القانونية اللازمة، مما يسرع العملية التشريعية بشكل غير مسبوق في تاريخ البرلمانات العالمية.
عاصفة من الجدل الدستوري والأخلاقي
غير أن هذا "التعيين الرقمي" لم يمر دون عاصفة من الانتقادات السياسية والقانونية. فقد وصفت المعارضة الألبانية الخطوة بأنها "حيلة دعائية" (PR Stunt) تهدف إلى صرف الأنظار عن المشاكل الحقيقية، وشككت في دستوريتها.
ويستند المعارضون وخبراء القانون الدستوري إلى أن الدستور الألباني يشترط في من يتولى منصباً وزارياً أن يكون "مواطناً يتمتع بالأهلية القانونية الكاملة"، وهو شرط لا يتوفر في البرمجيات. وتساءل قادة المعارضة عن آلية المساءلة: "إذا ارتكبت دييلا خطأً كارثياً أو سربت بيانات حساسة، من سيقف في قفص الاتهام؟ هل نسجن الخوارزمية؟".
وعلى الصعيد التقني، يثير تركيز كميات هائلة من البيانات الحكومية الحساسة والعقود المالية في "عقل مركزي واحد" مخاوف خبراء الأمن السيبراني، الذين يحذرون من أن النظام قد يصبح "نقطة فشل مركزية" وهدفاً مغرياً للهجمات السيبرانية أو التلاعب بالبيانات من قبل جهات خارجية، رغم تطمينات الحكومة بأن البيانات السيادية محفوظة داخل خوادم الدولة.
طموح "إستونيا البلقان"
وتطمح ألبانيا من خلال هذه المبادرة إلى ترسيخ صورتها كـ "إستونيا البلقان"، في إشارة إلى دولة إستونيا الرائدة عالمياً في الحكومة الرقمية. ويرى مراقبون أن نجاح أو فشل تجربة "الوزيرة دييلا" لن يؤثر على ألبانيا فحسب، بل سيقدم دراسة حالة عالمية حول حدود دمج الذكاء الاصطناعي في السياسة، والخط الفاصل الرفيع بين الكفاءة التكنولوجية والمسؤولية الأخلاقية في إدارة شؤون الدول.
وحتى البت في الطعون الدستورية، تواصل "دييلا" عملها، مراقِبةً العقود ومحللةً البيانات، في تجربة تضع تيرانا، ولو مؤقتاً، في مركز اهتمام وادي السيليكون والعواصم الأوروبية على حد سواء.

1130 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع