ايلاف/د خالد السلطاني:عندما اهداني الصديق العزيز الاستاذ هاشم الشبلي كتابه "مذكرات هاشم الشبلي: وقائع وأحداث ساخنة في أزمنة الضياع والعنف والفساد في العراق"؛ لم يدر في خلده، بانه بذلك يضيف الى مسرة قراءة كتابه، "مسرة" آخرى، مبعثها معرفتي اللاحقة من صفحات الكتاب إياه، عن مكان ولادة المؤلف، ومحل نضوجه وترعرعه، المكان الاثير لديّ، الذي اعتبره "قلب" بغداد النابض، هو الذي منه، من ذلك المكان المميز، ذي المساحة التي تقدر بكيلو متر مربع واحد تقريبا، خرج كثر (ان لم تكن غالبية) مثقفي بغداد وطبقتها الوسطى، رافعين راية التحضر والتقدم والاعمار والازدهار لذلك "البلد" الذي تأسس على عجل، والذي جعل من المناطق الحضرية المحيطة بذلك "المربع" التليد، عاصمة له. انا اتحدث، بالطبع عن منطقة "الفضل" وجوارها، الحيً الذي ولد وشبّ فيها كاتب الذكريات، كما ولد وترعرع فيها اقرانه الكثيرون، الذين قدر لهم، ايضاً، حمل تلك "الراية" الحضارية التي رفعها ابائهم واقربائهم مناصرو الحداثة والأعراف المدينية الجديدة، فخر تلك "الدولة" العتيدة وعنوان منجزها الحضاري والمعرفي والثقافي الحصيف!
بالنسبة اليّ، انا المولود في مدينة صغيرة، كان اسم محلة "الفضل" وما يجاورها من محلات بغدادية عريقة، بمثابة "النعيم" الحضري، التائق للعيش به والمعايشة معه. سمعت اسم محلة "الفضل" مراراً في مدينة "موسكو"، حيث كنت مبعوثا للدراسة هناك، عندما يجتمع أصدقائي البغداديون و"المتبغددون"، من بينهم: مجيد بكتاش وغائب طعمة فرمان وعبد الوهاب البياتي وخالد الزبيدي وعبد الأمير الربيعي وعبد الستار العزاوي وغيرهم، يتحدثون بنوع من الولع والتيه عن ظروف مقاومة تلك الاحياء للتعسف والظلم الحاصل وقتذاك في فترة الخمسينات. كانت تلك الاحياء تثير لدي أفكارا وتصورات معينة مليئة بالاعتزاز والفخر، وحب واحترام ناسها الظرفاء. كانت معرفتي "الجغرافية" لمناطق بغداد شحيحة ان لم تكن سطحية جدا، عدا ما علق بالذاكرة يومذاك، عن منطقة الصالحية (القريبة من كراج سيارات مدينتي "الصويرة" في "سيد سلطان علي")، عندما "خاطرت"، مرة، بعبور جسر الملك فيصل (جسر الاحرار)، لرؤية مبنى الإذاعة، التي كنت متلهفا لرؤيتها ومتشوقا لرؤيته العاملين فيها. بعدها سافرت مباشرة الى موسكو للدراسة. أي ان خط سفري كان فعليا: صويرة - موسكو! ولهذا فثمة ضبابية كثيفة كانت تغلف "ذاكرتي" عن جغرافية محلات بغداد. ولكي أشارك في النقاشات "البغدادية"، كان سؤالي المكرر لأصدقائي هو: هل ان هذه المحلة إياها مدار البحث والحكاية، قريبة من الإذاعة؟ هل محلة "الفضل" قريبة من الإذاعة" هل "حمام المالح" قريب من الإذاعة، وهل ان "الجوبة" قريبة من الإذاعة، بل وهل "المهدية " تقع بجوار الإذاعة؟! وعند السؤال الأخير، انتفض، مرة، مجيد بكتاش (وهو من المهدية)، صائحا بصوته الجَهْوَرِيِّ:
- سأمزق ثيابي، إذا قلت مرة اخرى بان "المهدية" بالقرب من الإذاعة. <إذاعة وين... والمهدية وين! >
لكن عدم "المعرفة" تلك، لم تكن عائقا، لاحقاً عندما رجعت من بعثتي، في "معرفة" واستدلال محلات الفضل وما يجاورها. كنت حريصا ان اتسكع في تلك الأمكنة واستعيد حكايات أصدقائي "البغادة" التي سمعتها و"حفظتها" عن ظهر قلب، وانا اسير في تلك الازقة الملتوية والدروب المتعرجة التي لا تفضي أحيانا الى شيء! كانت خارطة المرحوم "احمد سوسة" عن محلات مدينة بغدادـ خير عون لي في حفظ أسماء تلك المحلات و"حدودها" الجغرافية! بعد فترة قصيرة امسيت لشدة ولعي بتلك الاحياء خبيرا فيها وبمبانيها ومعماريها. وكنت ابهر "طلابي" وانا اتحدث لهم عن "الفضل" و"المهدية" وست هدية" و"قنبر علي"، و"سيد عبد الله"، و"عزت طويلات"، و"خان لاوند"، و"البارودية" و"قمر الدين"، و"قرة شعبان"، و"البو شبل"، و"تبة الكرد" و"القره غول" و"الطاطران" و"القشل"، و"التورات"، و"سوق الغزل"، و"تحت التكيه"، و"صبابيغ الآل"، و"الحاج فتحي"، و"الصدرية"، و"العوينة" و"المربعة" و"الدهانة" و"راس القرية" و"باب الاغا" و"امام طه" و"جديد حسن باشا" وغيرها ...وغيرها من المحلات. هل يتعين ان استمر بذكر بقية الأسماء، "حتى اؤكد مدى شغفي وهواي في تلك المحلات التي أصبحت "زبونا" معروفا لدى أصحاب مقاهيها ودكاكينها وفضاءات ازقتها؟! ومدركاً لتلك التباينات الطفيفة "المضمرة"، بل وحتى شاعراً بأحاسيس تلك المرأة "التعيسة"(؟!) التي تندب حظها العاثر عندما تقول، كناية عن اختلاف تراتبية اجتماعية للمحلات البغدادية:
<احنا من قنبرعلي .... وجابنا "للجوبة"!!>
لكن تلك الاحياء وسكنتها، سيتعرضون الى "هزات" عديدة، تطيح بتلك "الجذوة" الوطنية، والنَفَس المتحضر، لينقلب عاليها سافلها، بسبب سياسات رعناء، اتبعها "سياسيو الصدفة" الذين قدّر لهم ان يكونوا في سدة الحكم، والذين يتحدث عنهم هاشم الشبلي في مذكراته. بيد ان سوء حال تلك المحلات التي وصلت اليها مؤخرا، لا يقاس بما آلت اليه، اليوم، أمور البلد ككل، بسبب تلك السياسات ذاتها التي استفحل تأثيرها السلبي، محيلة كل شيء تقريبا الى خراب تام!
تغطي المذكرات المنشورة في كتاب هاشم الشبلي جوانب مهمة من صفحات تاريخ العراق، لكن ما يتحدث عنه المؤلف فيما يخص الفترة التي أعقبت سقوط النظام الديكتاتوري الشمولي، اراه غاية في الأهمية لجهة خصوصية تلك الفترة بكونها "مؤسسة" للكثير من "التقاليد" التي باتت تبعاتها تمثل سياقات العمل اليومي في البلد. وذكريات هاشم الشبلي، هنا، ليست بوصفه "شاهداً" على تلك الاحداث فحسب، وانما أيضا بصفته ناشطاَ و"فاعلا" فيها، لجهة خاصية المنصب الذي تبوّأه "كوزير للعدل"، ممثلا عن "حزبه الوطني الديمقراطي". وكما تشير نصوص الوثائق التي نشرها في متن تلك المذكرات، فأننا امام مسعى واضح سعى به هاشم الشبلي بكل ما اوتي من قوة وجهد لان يكون اتجاه مسار الاحداث مختلفا عن ما حصل، مسترشدا بمرجعيته الوطنية الراسخة، وما يمثله اسمه وعنوانه كأحد شخصيات الطبقة الوسطى البارزة، التائقة لخدمة شعبها والاعلاء من شأن بلده ووطنه العراق. وتقدم لنا المذكرات دلائل كثيرة عن ما قام به ضمن الفترة الزمنية القصيرة التي اتيحت له، وهو في منصبه الوزاري. ومن ضمن الأمور العديدة التي سجلها كاتب المذكرات، والتي يعتز بإنجازها كونها ارتبطت بوجوده وهو في الخدمة العامة، مثل مهمة ترسيخ استقلال القضاء وتشكيل مجلس القضاء الأعلى (ص. 115)، وتعزيز محكمة التمييز بقضاة جدد، واجراء تنظيمات في عمل دوائر الوزارة والدوائر التابعة لها (ص. 117). لكن ما قام به بشأن إدارة السجون العامة، والدعوة الى اصلاح مفهوم السجن وقوانينه، كان، في اعتقادي وفي اعتقاد كثر، العمل الأهم والجاد في التصدي لهذه المشكلة القديمة والهامة، ولكن المنسية أيضا مع الأسف، رغم نتائجها الكارثية على شرائح مجتمعية معينة، قدر لها ان تكون "نزيلة" السجون العراقية يوما ما! وهو يشير الى ما قام به تجاه هذه المشكلة العويصة، وهو يتعرض الى حملة من الاتهامات الظالمة التي لا تستند الى وقائع ملموسة، فيكتب بان ما يتعرض له لا يمكن ان تقلل "... من عزيمتي للتصدي الى المشاكل الساخنة والمهمة. ومن أبرزها مشكلة السجون والمعتقلات والمأساة التي يعيشها السجناء والمعتقلون. فانصرفت الى الاهتمام بها ومعالجة قضايا السجناء والمعتقلين سواء المودعين لدى مراكز الاعتقال التابعة للجيش الأمريكي او التابعة لوزارتي الداخلية والدفاع، والتي اشغلت الرأي العام وأشغلتني، لان اغلبهم قد تم اعتقالهم وحجزهم دون مذكرات قضائية، ومضت عليهم اشهر وسنوات دون تحقيق قانوني واصولي، وهم مودعون اما في خرائب وزرائب تسمى غرفاً، أو في اقفاص من الحديد أو في خيم، معرضين لحرارة الصيف او برد الشتاء القارس بجو إرهابي مناف لأبسط القيم الإنسانية والأخلاقية وخدمات الصحة والنظافة والغذاء تكاد تكون معدومة، ومحضور عليهم الاتصال بأهلهم وذويهم، وبعضهم لا يعرف عنهم أهلهم اية معلومة، : هل هم أحياء أم أموات. وقد تم اعتقال اغلبهم بناءً على وشاية او تقرير مخبر سري مغرض او الوجود صدفة في مكان وقوع الحادث الإرهابي، وبدون مذكرات قضائية مما يشكل مخالفة دستورية"؛ ويكتب أيضا بصدد هذه المشكلة "...قمت بسلسلة من الزيارات الى السجون ومراكز الاعتقال والاحتجاز فشاهدت مشاهد مفزعة ومخيفة تبعث على الأسى على ما وصل اليه بعض المسؤولين من وحشية وبربرية بحيث يستسيغون تعذيب مواطنيهم بلا رحمة وتأنيب ضمير حتى الموت". (ص 167-168).
لا يمكن للمرء، وهو يقرأ شهادات هاشم الشبلي بصدد هذه المشكلة، الا ويبدو تعاطفا جما مع طروحاته في تبيان إثر هذه المشكلة وتبعاتها، على المجتمع وعلى النظام العام فيه؛ والتي، على ما يظهر، لم تجد حلا لها: ليس في زمنه (لأنه سيتأسف، لاحقاً، بان الوقت لم يكن متاحا له بالقدر الكاف لمعالجتها جذريا)، كما لم تجد اذان صاغية لها لدى الذين تعاقبوا على "حمل" تبعات الوظيفة العامة المتعلقة بهذه المشكلة الوطنية الخطيرة، مثلما نسمع دورياً عنها وعن ذيولها وتبعاتها في الميديا المقروءة والمسموعة. في مذكرات هاشم الشبلي، يجد القارئ في امكنة كثيرة فيها، وعبر امثلة عديدة بها مساعي كاتب المذكرات لفضح "واقع" ما جبل عليه بعض السياسيين الذين يتظاهروا بحب العراق، والتغني بديمقراطيته والاشادة بدستوره، بيد انهم في "حقيقتهم" وممارساتهم يبدون عكس ذلك تماماً. وهي حالة اعتبرت من "خصوصيات" العهد الجديد، لناحية "تسنم" المسؤولية من قبل أناس غالبيتهم جهلة، وعديمي الضمير، واكثرهم يتكل على ما يسمى بـ "المعايير المزدوجة"، ويعتمد عليها، في تبرير الامر ونقيضه في آن واحد، والتي افضت الى خراب تام للمنظومة القيمية القائمة. فمن جهة هو "امين" على مقدرات الدولة، و"حريص" على مصالح الشعب، و"متحمس" لخدمته، و"متلهف" لصنع مستقبل زاهر لوطنه ولشعبه، لكنه في حقيقة امره، بالضد من ذلك تماما. ولعل الأمثلة التي يذكرها كاتب المذكرات، والتي وثقها في "كتب" ووثائق رسمية وتوجه بها الى المسؤولين عن ما يمكن إصلاحه وتجنب الاثار الكارثية التي أُوقعَت البلاد فيها، خير دليل على مسعاه الشخصي في هذا الاتجاه. في الكتاب ثمة أسماء صريحة يوردها المؤلف، كامثلة لتلك السلوكية الغارقة في نفاقها، والمتخذة "للمعايير المزدوجة" أسلوب عمل... وحياة لها. (ينظر الى المذكرة التي قدمها المؤلف بصفته وزيرا للعدل في 9/1/2007 الى نوري المالكي عندما كان الأخير رئيسا للوزراء، والتي على اثرها قدم استقالته في 29/3/2007 ، والمنشورة في ص.119 – 203 من الكتاب).
لقد سعى الأستاذ هاشم الشبلي من موقعه الوظيفي، وبشفافية واضحة الى الحد من عمليات النصب والاحتيال التي استهدفت الأموال العامة، "...عندما استغل البعض الأوضاع غير المستقرة والفوضى السائدة في الجهاز الإداري بالدولة وضياع المسؤولية بين الأحزاب المتنفذة وسلطة الائتلاف المؤقته لحصد مكاسب غير مشروعة"، كما يشير الى ذلك في متن مذكراته (ص. 122-123)، وخصوصا فيما يتعلق بسجلات التسجيل العقاري التي ترجع عاديتها الإدارية الى وزارته، فأوقف الكثير من محاولات التزوير والنصب والاحتيال. وبهذه الإجراءات، فقد قدم الشبلي نموذجا حيا لما يمكن ان يكون عليه الموظف النزيه في الحرص والعناية بما اؤكل اليه.
وتبقى واقعة استقالة الأستاذ هاشم الشبلي من وزارة العدل، عندما وجد نفسه بان صوته الديمقراطي الوطني والنزيه والكفوء لا يسمع من قبل الاخرين مفضلا الاستقالة على الاستمرار في منصبه، كما ان حادثة رفضه تسنم وزارة حقوق الانسان في وزارة الجعفري (2005)، عندما أُعلم بان اختياره تم لهذا المنصب ليس بكونه ممثلا للحزب الوطني الديمقراطي الذي ينتمي اليه، وانما على أساس مذهبي طائفي وفقا للمحاصصة التي اعتمدت من قبل الأحزاب المتنفذة لحكم العراق، يبقى هذان الحدثان من الاحداث الجريئة (...والنادرة ايضاً) في الحياة السياسية العراقية بعد السقوط، وقد اثارا الحدثان موجة واسعة من الاعجاب والتعاضد مع الوزير المستقيل، وبينـّا للرأي العام بصورة واضحة لا تقبل التأويل، بان ثمة من يقول "لا " للمحاصصة المقيتة وكل ما ينجم عنها.
نشر المؤلف في الجزء الأخير من كتابه، مجموعة من وثائق تتناول عديد مقالاته واراءه التي نشرها في الميديا مؤخرا، عندما تفرغ للعمل الحزبي ولجريدة الاهالي، بعد ان ترك الوظيفة العامة. ومن خلال تلك الفعالية، يترسخ "اميج" ذلك الشخص الوطني الغيورـ المعبر، بصدق وإخلاص عميقين، عن قيم الطبقة الوسطى وافكارها النيرة في رؤية بلدنا بلدا زاهرا ومتقدماً.
وأود، ختاماً، ان اعبر عن قناعة راسخة، بان كل ما حرره الأستاذ هاشم الشبلي في هذا الكتاب، لم يكن بدافع الحصول على منافع شخصية او امتيازات ذاتية؛ وانما أراد لهذا الكتاب ان يكون بمثابة "صيحة" عالية في وجه كل ما من اساء الى الوطن ووقف حائلا في تقدمه وازدهاره. ففي جميع صفحات كتاب <مذكرات هاشم الشبلي: وقائع وأحداث ساخنة في ازمنة الضياع والعنف والفساد في العراق>، يمكن للقارئ بسهولة ان يجد ثمة خيطاً رفيعاً، يربط كل احداث تلك المذكرات؛ خيط، لحمته وسداه الحس الوطني، ونزاهة اليد والكفاءة المهنية! اذ بدون ذلك كله لا يمكن تصور ان وطننا العراق يمكن له ان يخطو نحو الامام، نحو التقدم المنشود والديمقراطية الحقة. بيد ان <ثالوث>: "الوطنية" و"النزاهة" و"الكفاءة" التي تحدث عنها هاشم الشبلي في مذكراته، بمثل ذلك الحرص وبمثل ذلك الوضوح، تبدو الآن، مع الأسف الشديد، مقصيه عن المشهد السياسي العراقي ومغيبة تماما، بل ومحاربة من قبل أولئك الذين يدعون بأنهم "مناصريها"؛ وهو ما يضيف وجعاً اخرا الى "اوجاع" عراق اليوم!
849 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع