قراءة في كتاب عراق نوري السّعيد
واقعية حكيم سياسي تتحقق توقعاته بعد رحيله الدموي
الزمان/رابعة العبيدي:بادئ ذي بدء ، أود القول ان هذا ” المقال ” سيعتني بدراسة ما كتبه المؤرخ المحقق اكثر من ” النص ” الذي نشره السفير المؤلف غالمان ، نظرا لأهمية هذه ” الدراسة ” وقوتها المعنوية والمنهجية لدينا نحن العراقيين . وعند البَدْء بالقراءة الجادّة في كتاب مهمّ مثل عراق نوريّ السّعيد لمؤلفه فالديمار غالمان، وهو السفير الامريكي في العراق ابان الخمسينيات من القرن العشرين ، وقد اعتنى بتعريب الكتاب وتحقيقه وتدقيقه وتهذيبه المؤرخ الدّكتور سيّار الجميل.. استاذ دراسات الشرق الاوسط الحديث ، يستشعر القارئ من خلال قراءة مقدماته وتحليلات الدكتور الجميل أهميّة الكتاب، والمعايير والموضوعات التي قدّم بناءً عليها، من خلال الاطّلاع – أولاً – على المرحلة التاريخيّة التي مثّلها الباشا نوري السّعيد، ، ودوره المهمّ في تأسيس وتشييد وبناء أركان دولة العراق مع الملك فيصل الأوّل، من جهة المؤسسات المدنية والعسكريّة والامنية وتأسيس الجيش، إضافةً لنظام الحكم في العراق والتشريعات القانونية والمشاريع الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ومحاولة تطوير المشاريع النفطيّة وتحسين البنية التحتيّة للداخل العراقيّ، سواء كانت زراعيّة أو عمرانيّة أو حتّى خدماتيّة وخصوصا خلال المراحل التي كان فيها نوري السعيد هو سيد العراق الحقيقي حتى مصرعه عام 1958.
العراق واستراتيجية الباشا
ان الكتاب يقدم ربطا جدليا تاريخيا بين العراق ونوري ، وخصوصا منذ ان بدأ العراق يشقّ طريقه نحو مفهوم بناء الدولة النموذجيّة وعلى اسس واقعية لا من خلال الشعارات الكاذبة . لقد مارس نوري السعيد سياساته الواقعية بعقلية السياسيّ وحنكته، والتي تدفع إلى تأسيس المصلحة عامّة وجعل العراق كتلة وطنية سياسيّة لها استراتيجيتها وخططها بين دول الشرق الاوسط . ان هذا ما فهمته من دراسة الدكتور الجميل التي تمخضت عن مفاهيم تأويلية وتحليليّة لواقع الممارسة السياسيّة على عهد نوري السّعيد، من خلال الفهم المعمّق لخطوات كان من شأنها رسم الطريقة التي سار عليها العراق عهد ذاك. لقد وجدنا كم كان نوري السعيد فعالا وحيويا ومخلصا لقيادة فيصل وخاصّةً في فترة الثورة العربيّة الكبرى، وغدا صاحب تجارب عملية في كيفية صنع القرارات وبلورة التحالفات السياسيّة التي أسست نمطًا من الاعتراف مسبقًا لدولة العراق داخل المجتمع الدوليّ، على المستوى العربيّ والعالميّ. وعليه ، فان نوري السعيد يعد أهم شخصية عراقية قيادية تميز بدعائه وقدرته في الاستجابة للتحديات ، وكان واحدا من الذين بذلوا جهدهم المتواصل في تقوية أواصر العراق وخصوصا قدرته في ربط نسيج المجتمع بالدولة أولا، ثم عمل من خلال مشروعاته على تقوية أواصر المنظومة العربية بمناداته بكونفيدرالية كل الدول العربية، ونجح مشروعه ولكن خرج بصيغة تأسيس جامعة الدول العربيّة، ومن قبلها نجح في مشروعه الاقليمي من خلال توقيع ميثاق سعد آباد مع ايران 1937.. وانتهاء بمشروع ميثاق حلف بغداد مع تركيا وانضمام دول اخرى اليه عام 1955 .. ولم يبخل بجهوده ومساعداته للدول العربية الاخرى في الحصول على استقلالاتها الوطنية وجلاء القوات الاجنبية عن اراضيها .. ولقد فسّرت اعماله وحركته وعلاقاته تفسيرات خاطئة من قبل العراقيين والعرب ، وخصوصا من قبل الثوار والضباط الذين سموا انفسهم بـ ” الاحرار ” ، وكان ان دفع الرجل حياته ثمنا مأساويا .. وكم تمنى اصدقاؤه ان يبقى ليستفيد من تجاربه الجيل الجديد ، ولكن كانت نهايته المأساوية قد احزنت كل من عرفه .. ويشيد به السفير الامريكي غولمان وبقدراته وذكائه ودهائه السياسي .
القيمة التاريخية والحفريات البحثية
وعلى الصّعيد الآخر، إنّ أي قارئ لهذا الكتاب سيكون حتمًا أمام نصّ كامل، دون أن يشعر بنفسه ينقطع عند سؤال أو استفسار لا جواب له، فالدكتور الجميل قد تدارس قيمته التاريخية ، واستطاع من خلال حفرياته البحثية ان يتعامل مع جملة كبيرة من الوثائق التي تضمنت اسرارا وخفايا ، وخصوصا بصدد الانقلاب العسكري الذي اطاح بالنظام الملكي بالعراق فجر 14 تموز / يوليو 1958 . لقد بدأ الدكتور الجميل في فصوله الاولى ، بتبيان الوثائق التي اعتمد عليها في عمله ومعالجاته الموضوع، مع الاستعانة بالملحقات والوثائق والصّور التي تدعّم قيمة النّص، إضافةً إلى التسلسل العلمي والتاريخيّ في عناوين تبتدئ في مكان لتنتهي في آخر بترتيب زمنيّ منطقي، وقام بالتعريف بفالديمار غالمان، ورؤيته لنوري السعيد التي تمخضت من معاصرته له، ثمّ العمل على إبانة الدور الذي قام به نوري السعيد خلال فترة حكومته، تحت عنوان “نوري باشا السعيد: رجل العراق لنصف قرن” بالإضافة إلى سيرته وأهم الأحداث السياسية التي مر بها العراق في عهده، مثل: “حلف بغداد”، و” تداعيات ميثاق حلف بغداد”، ولم يكتفِ الجميل بالعرض التاريخي بل تعدّاه إلى التحليل والتأويل وتفكيك النص والاستنتاجات التي من شأنها أن تكمّل هذا العرض القيّم، ويشار إلى أنّ منهج البحث في الدّراسة المهمّة التي رفدت القارئ قبل ان يباشر بقراءة ” النص ” الذي كتبه غالمان ، كما توغّل الجميل فيها حتّى كان من شأنه توضيح أبجديّات المرحلة التاريخية التي عاصرها السعيد، وهذا الأمر تحديدًا أسهم بشكل كبير بجعل الكتاب من أبرز الكتب المترجمة التي أوفت حقّها. ولعل من اهم المعلومات المهمة التي كشف عنها المؤرخ الجميل قصة انتماء نوري السعيد في الاصل الى مدينة الموصل من خلال انتقال ابيه الموظف سعيد افندي من الموصل الى بغداد في مهمة رسمية وتوطنه فيها ومن ثم زواجه ، اذ انجب فيها من زوجته القره غولية البغدادية نوري وفخرية .
توقعّات نوري تحققت كلها
ينبغي علينا التوقف ايضا عند النص الذي قاله نوري السعيد وهو يتوقّع ما سيجري في العراق بعد رحيله عنه ، وهنا يبدو نوري وهو ثاقب النظر في رؤيته للوضع الذي سيألو اليه الحال في العراق ، وهذا دليل قوي على قوة تخميناته وقيمة تصوراته في ذلك الوقت، حيث قال فيما نصه: “والآن لأنني أرى كوارث مقبلة في الأفق البعيد، فهي إن حلّت عن طريق اليأس.. فلا بدّ أن يتجدد سعيرها الملتهب على أيدي شيوعيين أو إرهابيين في المستقبل القريب، ويقيني أن إخمادها حين ذاك لن يكون هيّنًا بأي حال من الأحوال”.
الواقعية السياسية بعيدا عن الاحلام والشعارات
وكلنا نراقب ما جرى من سلسلة احداث مريرة ومأساوية وخطــرة تطورت بعد رحيل نوري السعيد ، وما قادت اليه من اخطار وتداعيات تفاقمت حتى اليوم ، اذ ما زالت مستمرة، وقد التهب سعيرها دون أن يستطيع أحد إيقافها أو السيطرة عليها، ويكفي العودة الى توقعات نوري السعيد وبعد نظره السياسيّ وحنكته في التعامل مع الواقع الذي سينتج عنه المستقبل.
وتتمحور أهميّة ترجمة كتاب غالمان ودراسته عن نوريّ السعيد كونها لم تتحدد بترجمة الكتاب وتقديمه بل تميز ” الكتاب ” بالمهنية العالية في المنهج والامانة وكل ما استدعى اليه تعليق او اضافة او توضيح بحرفيّة وأمانة عالية ، والتعليق عليها بموضوعية، بل والاهم من هذا وذاك ، طرح المؤرخ الجميل عدة أفكار نقديّة هدفت إلى مقابلة وموازاة النصّ المترجم الخاصّ بغالمان – الذي عرض فيه تجربته الدبلوماسية في عراق نوري السعيد – من خلال إحداث نمط موضوعي وتأويلي مشترك من جهة الموضوع؛ عراق نوريّ السّعيد، لكن من وجهة نظر المؤرخ الجميل بعد بحث في الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي كانت على عهد السّعيد، وبين الواقع المتمثّل في العقود الأخيرة، مع الإشارة إلى أنّ النتائج التي يعاني منها العراق بما فيه بقية دول المنظومة العربية ، وللأسف كان الاتجاه يقضي على جذور الإصلاح التي قامت به الحكومات الأولى في العراق، والتي سعت لإبدالها بنمط سياسيّ مفكك وعشائري وطائفي، فقد أشار الجميل إلى المقارنة بين الواقعين، آخذًا بعينه أهميّة وجود حكومة صدوقة في تعاملاتها مع شؤون البلاد السياسية والاقتصاديّة، فهي بذلك ترفع من شأن الدولة، وتحميها من الوقوع في مخالب دول الأعداء، مشيرًا إلى أهميّة وجود شخصيّة قائدة تدير مصالح البلاد بحنكة كبيرة، وقد تمثل هذا في شخصية نوري السّعيد في مرحلته التاريخية على امتداد اربعة عقود من الزمن ، وفقد في شخوص رؤساء آخرين، لكن؛ لا يستطيع أي دارس ومشتغل في البحث التاريخيّ، إطلاق عنان الأحكام على نوعيّة الأشخاص – بما يتعلق بتجربة دولة العراق – وإهمال الأسباب التاريخيّة والأحداث التي تراكمت والصراعات والسّياسات الدخيلة والقرارات السياسيّة الخاطئة، فثمّة دائمًا ما نستطيع أن نطلق عليه، قطعة ” دومينو” سياسيّة، تحرّك سير الأحداث في التاريخ، مع الإيمان بالنتيجة التــــــراكمية.
واخيرا
إنّ من الموضوعيّ أن ينقد الجميل الواقع العراقي والعربي من خلال فكرته المقارنة، فمن شأن هذه الأفكار أن تودي إلى هبّة عنيفة ومهمّة تساعد في الإصلاح، بالرغم من معرفتنا بأنّ أي إصلاح عربي غدا امنية لكل ابناء الامة ،
وهذا يتأتى من هيكلة الحكومات والجهات السياسيّة، وإعادتها إلى مكانها الصحيح المؤسس لمفهوم الدولة. على الرغم من ذلك فإن نهاية نوري السعيد اقترنت بالانقلاب العسكري في 14 تموز/ يوليو سنة 1958، والتي أسفرت عن انهاء الحكم الملكي بالعراق، وبداية مرحلة تاريخية جديدة يشير الواقع بعد مرور أكثر من نصف قرن على تلك الأحداث أنّ العراق يغوص أكثر فأكثر فيما تنبأ به نوري السعيد.
1046 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع