تاريخ مجهول وصادم عن العبودية وتجارتها
تُعدُّ تجارة الرقيق واحدة من أبخس المهن التي عرفتها البشرية على مدار تاريخها، ومع خستها وذم الأديان والمواثيق الدولية لها إلا أنّها -مع الأسف– كانت تجارة رائجة في الكثير من المجتمعات حتى تلك التي تتشدق بالحريات وحقوق الإنسان، كما يُعدُّ الاستعمار هو الآخر شكلاً من أشكال العبودية للشعوب المستعمَرة. كُتبت روايات كثيرة عن الرِّق والعبودية ومن أشهرها “كوخ العم توم” 1852 للكاتبة الأميركية هيريت ستو.
العرب ممدوح فرّاج النّابي:في رواية نجوى بن شتوان “زرايب العبيد” الصادرة عن دار السَّاقي، والتي بلغت القائمة القصيرة لجائزة البوكر 2017، تتعمق الكاتبة في مجتمع الرقيق، وتقدِّم صورة مُقرَّبَة عَن عوالمهم وظروف معيشتهم وطُرق جلبهم، بعد أَسْرهم من أواسط أفريقيا، وما يتعرضون له من انتهاكات بدنية وجنسيّة أثناء رحلة القوافل حتى يصلوا إلى أسواق النخاسة ليُبَاعوا في ليبيا، ثم تُسهب في سرد معيشتهم في أكواخ من الصفيح أطلق عليها “الزرايب” (نسبة إلى زرائب الحيوانات).
الحفيدان
لا تعبأ الكاتبة بترتيب الأحداث وفق حدوثها في زمنها المرجعي، فالنص إحدى سماته أنه قائم على تفتيت الزمن. وإن كان النصُّ يبدأ وينتهي بالحفيديْن عليّ وعتيقة، فهما حفيدان لـ أمحمد الكبير، فعليّ هو حفيده من ابنته فاطمة، وعتيقة هي حفيدته من ابنه السِّيد محمد الصغير عبر علاقة عشق بأمها تعويضة، استغلت السَّاردة هذا العشق الأشبه بالمُحرّم في هذه الطبقة، ليكون نَواة لصراع طبقي مرير بين السّادة والعبيد في صورة الأب وزوجته اللالا غويشينه، وتعويضة، هذا الصِّراع لم يكتفِ بنفيه إلى مالطا بحجّة التجارة حتى يتسنّى للأب التخلُّص مِن هذه المُصيبة، وبالفعل تحقّق له ما أراد.
إلا أنّ عليّا حفيده أَفْسَدَ عليه مخططه، فيقف في السُّوق التي عَرض فيها العبيد ويمنع هذا البيع، فهو لا يقبل ببيع عبيد جَدّه، وهنا يشتاطُ الجَدّ غضبًا فيطرده مِن بيته، ليبقى عند عمّه الصّادق، ويعمل معه في تجارة الذهب إلى أن يُعجب بابنته الوسطى مريم، وعند طلب يدها مِن والدها، يرفضُ الأب امتثالا للنسق الحاكم، فيجب أن “يَمُرُّ الطلب عن طريق الجدّ”، ويمتثل الحفيد ويذهب طالبًا العفو من الجد، الذي يقبله، وينفذ له طلبه.
شخصية عليّ ابن فاطمة أخت السيد محمد الصغير، والذي يبدأ وينتهي به السّرد، لعب دورًا محوريًّا في قصة العشق، الدور الأوّل تجلّى في منع البيع، ووقف أمام جده؛ لأنه يعرف قصة حبّ خاله محمّد للعبدة، أما الدور الثاني فتمثل في ذهابه إلى الحفيدة عتيقة، ليرد له الكاغد الشّرعي (صك الحرية) وأملاكها من أبيها محمد. في المرتيْن يثبت عليّ أنه عكس هذه العائلة التي تنكرت لها شكلاً ومضمونًا، بل قتلوا طفلها من محمّد أمام عينيها.
حكاية قصة عشق محمد ابن الأسرة الثرية لتعويضة الفتاة التي تنتمي إلى عبيد الزرايب، تجاوزت التسرية إلى عشق صار وفقًا للأنساق الحاكمة والمهيمنة مُحرَّمًا أو منبوذًا، فكيف وفقا لأنساقها يحدث هذا بين السيد والأَمة؟ فالأمة هي ملك يمين للسيد ويحقُّ له أن يستخدمها وقتما يشاء، لكن ليس على حساب أسرته، وهو ما فعله محمد حيث انصرف إلى الأمة وترك زوجته، وهو ما أجّج حقد الجميع عليهما، وإن كانت تعويضة قد نالت الكثير من مؤامرات الأم للا عويشينه. قبل لقاء عليّ بعتيقة مرّت أعوام كثيرة، عملت فيها عتيقة ممرضة وتزوجت من يوسف جوسيبي، وقبلها حكاية الأم وهروبها حتى الحريق الذي التهم كاغد النّسب.
جاءت الحكاية عبر ثلاثة أصوات رئيسية، الأول عليّ، ثم عتيقة، وأخيرًا الراوي العليم الذي هو مُمْسك بخيوط الحكاية ويتدخل وقتما يشاء، بل يسمح لبعض الشخصيات بالسرد كما فعل مع رابحة التي سردت هي الأخرى جزءا من الحكاية. تنوُّع الرُّوَاة واختلاف منظورهم للحكاية سَاهما في تغطية الأحداث التي لم يكن فيها أحد الشخصيات حاضرًا، وأيضًا تمّ سرد تاريخ مجهول وصادم عن العبودية وتجارتها في ليبيا، وعن العادات التي ارتبطتْ بها.
عبودية الأوطان
تدور الرواية إبّان الاحتلال العثماني لليبيا حتى بداية الاحتلال الإيطالي، وطرد العثمانيين وما تبعه من قوانين طالبت السّادة بتسجيل ممّن لديهم مِن عبيد على أسمائهم أو منحهم حريتهم، وإن كان في الحقيقة أن إيطاليا استبدلت عبودية البشر بعبودية الأوطان.
تأثير الحكم العثماني على البلاد لم يقتصر على شيوع نظام العبودية أو حالات التجنيد الإجباري، والإلزامية، وإنما انعكس التأثير على اللغة التي تشربت الكثير من المفردات، فمررت الكاتبة الكثير من الألفاظ الناتجة عن أثر الحقبة مثل كاغد بمعنى ورقة والشيشمة بمعنى صَنْبور الماء العام، وغيرهما، وهو ما يعكس أن فترة الاحتلال تغلغلت في نسيج المجتمع، فالرواية بهذا تكون واحدة من روايات ما بعد الاستعمار التي تعكس الوجه القبيح الذي تركه الاستعمار على المجتمعات.
يمكن تقسيم الرواية إلى قسميْن: الأول، ترويه عتيقة عن حياتها، وتبدأ من لحظة لقائها بعليّ الذي يجعلها تسترجع الماضي، فتحكي عن علاقتها بعمتها صبرية التي فقدتها في الحريق الذي حلّ بالزرايب بسبب تفشي الطاعون، ورحيلها عن الزرايب بعدما فقدت كل شيء، برحيل عمتها أو أمها بالمعنى الدقيق، فتروي عن مآسي العبيد وحياة الشقاء التي يعانونها وكافة أشكال المهانة واللاآدمية.
الوجه القبيح الذي تركه الاستعمار على المجتمعات
أما القسم الثاني فيحكي عن العلاقة بين تعويضة والسيد محمد الصغير ابن العائلة منذ “أحبَّ محمد خادمته، (…) حتى استولت على جماع قلبه كاملاً واختصرت فيه النساء، فأثار ميله الشديد الحسد والغضب”، وهي بؤرة الحدث الذي تتصاعد منه الأحداث، وتتمّ مطاردة تعويضة وبيعها ثمّ إجهاضها، وعندما تفشل كلّ المحاولات، يحدث قتل طفل محمّد أمام أمه، وهو الحدث الفاصل في حياة محمد وكذلك في حياة تعويضة. هُنا نكون مع جيلين كلاهما عَانى، لكن الغريب أنّ السّرد بدأ بالأحفاد والأبناء، ثمّ عاد إلى الحكاية الأصل، وكأن الرَّاوِيَة تريد أن تقول إن ما يزرعه الكبار يحصده علقمًا الصغار.
ومن هنا تأتي لعبة السرد حيث التداخلات الزمنية والاسترجاعات، فيعود الزمن إلى الماضي، حيث عتيقة تسرد حكايتها عن واقع مزرٍ وصل إلى أن دفعت ثمنًا قاسيا لمجرد رغبتها في رؤية وجهها في المرآة.
كما ترصد الكاتبة عبر سرد عتيقة الكثير من العادات مثل التقفيل الذي هو أشبه بتعويذة سحرية تُفشل انتصاب الزاني وتحرم الزانية من الاستمتاع، كاشفة عن أجواء هذا الطقس، وكيف أنه خاص بالحرائر وليس الإماء.
الانتهاكات الجسدية لا تُفرِّق بين الفتاة الأمة والحرّة، عبر ما ترويه عن فتاة بني وليد التي تزوجها مرعي الشروي فمشهد الزواج في حد ذاته كان بشعًا إذ تقول “كانت تلعب في الشارع وجيء بها من بين اللاعبات وأخضعوها لعملية شطف سريع، ثمّ ألبسوها قفطانًا أبيض يكبر جسدها وأسدلوا لها شعرها على جانبي وجهها وأمرتها نساء كبيرات بالصمت فصمتت”.
الرواية في أحد أبعادها تتجاوز المآسي التي عانى منها العبيد إلى الظُّلم بصفة عامة، حتى لو كان ذلك درءًا لتفادي أن يكون المرء مظلومًا كما كانت تفعل النساء من إجهاض غريماتهن حتى لا يشارك أبناؤهن في الميراث، أو ما يلحق بالأقليات أيّا كانوا، لا فرق بين امرأة تطالب بميراثها في جملة "أريد إرثي" وكأنها “توقد نيران حرب عائلية لا ينطفئ سعارها أبدًا”، أو يهود تتمّ مطاردتهم في الشوارع أثناء تشييع جنازتهم.
853 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع