المرأة تحمل آلامها إلى المستقبل
تناولَت الكثير من الدراسات واقع المرأة وصورتها في المثَل الشعبي، غير أن هذه المؤلفات لم تتجاوز الدراسة المعجمية والمتنية التوثيقية، التي أصبح معها الأمر يتطلب رصد هذه النصوص بعمق لتلمس واقع المرأة وأدوارها وتجليات صورتها في واقع المثل، لا مجرد الوقوف على صورة سطحية لها.
العرب محمد الحمامصي:يحاول الباحث حسين نشوان في كتابه “المرأة في المثل الشعبي في الأردن وفلسطين”-بناءً على القراءة المسْحية لنصوص الأمثال بوصفها مرجعية ثقافية- استقراء محرّكات النظرة للمرأة، وهي دراسة لعلائق المجتمع وشروطه وبُناه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والجمالية والسلوكية، من خلال أداة التعبير الأدبية الأكثر انتشاراً ووضوحاً وملامسة للمفردة اليومية والتداول الواسع، وقد اتسعت هذه الدراسة جغرافياً لمساحة الأردن وفلسطين بوصفهما مجالين متداخلَين في بناهما الاجتماعية التي انعكست على أداة تعبيرهما إلى درجة لا يمكن الفصل بينهما.
التقليل من الشأن
يلفت نشوان إلى أن دراسته عمَدَت إلى تلمّس مصادر المثَل بوصفها مرجعيات مهمّة لبناء المثَل شكلاً ومضموناً، منوّها بأهمية هذه المرجعيات التاريخية والدينية والفكرية في النظرة التي انطوى عليها المثل. كذلك حاول مقاربة واقع المثل مع تطور التشريعات والقوانين وواقع المرأة التعليمي والعملي لتبيّن مثل هذه التحوّلات وأثرها على المثَل.
وقال حول صورة المرأة في المثل الشعبي إن الأسْرة تقوم على تقسيم هرمي يقف الأب على رأسه “ربّ الأُسْرة” الذي له الرأي الأول والأخير في كل ما يخص العائلة والبيت والملكية، ويليه في المسؤولية الابن الأكبر، الذي يعتمد عليه الأب في جميع أعماله، ويرافقه في حله وترحاله، فهو سنده “وذراعه اليمنى” دون أن يقلّل ذلك من مكانة بقية الأبناء الذكور الذين يشكّلون، كما يقول، العزّة ومصدر القوّة “بيت رجال ولا بيت مال”، وهو كذلك عنوان هيبة للقبيلة أو العائلة في إطار علاقات الإنتاج المرتبطة بالعزوة “عدّ رجالك وارد الماء”، “شيخ بلا عزوته قلّت مراجيله”.
وإذا كان المثل يمكن أن يُطلَق على الكبير بشكل عام في الأسرة أو الكبير بحكمته فإن المثل لا يخلو من إطراء للرجل لتفرد مكانته وتعزيز هيبته “اللي ما إله كبير ما إله تقدير”.
أما المرأة وبغضّ النظر عن موقعها ونوع علاقتها مع الرجال وترتيبها وسنّها، سواء أكانت زوجة أم أمّاً أم أختاً فإنّ وجودها لا يرتبط بحاجات القوّة والهيبة والإنتاج بل -على العكس- قد يكون وجودها محل خوف وتوجّس دائمين لأسباب تتعلّق بذاكرة التشكيل الجماعي للقبيلة، القائم على فكرة الغزو أو السبي، حيث تولَد الفتاة غير مرحّبٍ بها، فيقال “فال الحية ولا فال البنية” ثم تعيش طفولتها بشكل شبه مهمل، وتابعٍ للبيت، وما إن تصل إلى سن البلوغ حتى تتركّز عليها الأضواء فجأة، وتختلف معاملة عائلتها لها كلّياً، حيث تبدأ الممنوعات “فالبنات همهن للممات”، و”البنت بتجيب العار والمعيار والعدو لباب الدار”.
وتصل صورة المرأة إلى أقصى مراتب التقليل من شأنها عند مقارنتها بالصغار، هذه المقارنة لا تتوقّف عند حدود قدراتها، وإنما تمتد أيضاً إلى سلوكها وتصرفاتها “المرة والصغير بفكروا الزلمة على كل شيء قدير”.
ويلفت نشوان إلى أن المثل في غالب نصوصه يعتبر المرأة ناقصة عقل وينكر حقها في الرأي بالرغم من التقدّم الذي حقّقته في الكثير من المجالات، مع تأكيده “أن العقل زينة” و”الجمال جمال العقل”، ولكن تعامل المثل مع المرأة بجنسها لا بعقلها أفقدها دورها الإنساني وهمّش وجودها الاجتماعي، وهو رفض ليس لعقلها وإمكانياتها الذهنية وإنما لحضورها ودورها الاجتماعي، لتسويغ عدم الموافقة على إسناد أي دور لها، فالرجل يشاور المرأة ولكن عليه ضمن أعراف المجتمع وقيمه أن يخالفها! حتى أن المثل يلجأ إلى النكاية والعناد في ما يتعلّق بمثل هذه المواقف فيقول “شاوروهن واخلفوا رأيهن”، “مرة ابن مرة اللي يشاور مرة”، “اسمع للمرة ولا توخذ برأيها” والموقف هنا يبقى من المرأة وليس موقفاً من العقل.
سطوة المثل
وأضاف نشوان أن المثل على لسان المرأة التي تستبدل صفة بأخرى -وهي خاصية ترتبط بالمثل الشعبي- غير متّسق، لاعتباراتٍ تتعلّق بجغرافيته واختلاف الفئات المتداولة له، لذلك سنرى لاحقاً تناقضاً في سياق المثل يشير إلى عدم ثبات موقف معيّن، وإنما ارتباطه بالحادثة والحدث.
وحول معايير جمال المرأة في المثل قال نشوان “تتحدّد باللون والطول والسنّ والعيون والعنق والفم، وهي أيضاً معايير مختلفة من مجتمع لآخر ومن زمن لآخر، ولكنها درجت في مجتمع المثل بوصفها قيماً جمالية. وهناك الجمال الطبيعي كجمال الوجه والشعر المحببين في المثل، فيما يظلّ الجمال الصناعي محلّ تهكّم من المثل.
لكن صورة المرأة في الأمثال لا تنحصر في الجانب السلبي، ويوضح نشوان في ما يتعلق بعمل المرأة في المثل أن الرجل إذا كان يجني رزقه من تعبه فإن المرأة بمثابة الحارس والمؤتمن عليه لإنشاء أسرة صالحة إذ يقال مثلا “الرجل جنا والمرة بنا”، “الرجل جلاب والمرة دولاب”. وهي لا تقلّ في عملها هذا عن عمل الرجل لتوفير المعاش والحياة الكريمة، فيقال “المرة عمّارة”، “الغزّالة الشاطرة بتغزل بعظمة”، “مالكة صنارة مالكة عمارة”.
وتوقف نشوان عند حضور العفّة والشرف في المثل كونهما من الأمور الخطيرة التي لا يتساهل فيها العربي، يقول “إن المثل أحياناً يضع الفتاة في محلّ اتّهام قبل ارتكابها الذنب مثلا ‘البنت بتجيب العار والمعيار لباب الدار‘، ولهذا فإنّ لزوم الفتاة لبيتها وعدم خروجها ومشاركتها في الحياة العامّة يُعدّ من الفضائل التي تتمتّع بها الفتاة كما تقول بلسان حالها ‘عيشي صبري وبيتي قبري‘.
وأهل الفتاة لهم موقف حازم من هذا الموضوع، فالفتاة ليس لها سوى (الوأد)، وإذا كان الوأد قديماً يتمّ بدفن الفتاة حيّة فإن المثل يئد الفتاة حسّياً من خلال عزلها عن العالم فمثلا يقال ‘البنت يا سترها يا قبرها‘ وعدم اختلاطها بالرجل من خلال الابتعاد عن الشبهات. ومن صفات الفتاة العفيفة: الهدوء وعدم الكلام، واللباقة والضعف، والخجل والحياء، فيصف مجتمع المثل الفتاة بأن ‘لها تم يوكل، ما إلها تم يحكي‘.
ومن الجدير بالملاحظة أن المقاييس الأخلاقية لدى المجتمع وما ينبثق عنها من إدانة أو تغاضٍ لا تتركّز على ماهية المخالفة الأخلاقية فحسب، بل يتذبذب ميزان العدالة للمجتمع حسب الموقف الاجتماعي لأطراف القضية”.
700 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع