جوزيف كونراد المضطرب أول روائيي العولمة
ما تعلم جوزيف كونراد الإنكليزية حتى الحاية والعشرين من عمره، لكنّه أصبح واحدًا من أفضل الكتّاب بهذه اللغة، حتى يعد اليوم، باضطراب روحه المتمردة، أول روائي في عصر العولمة.
ايلاف من بيروت: كان جوزيف كونراد ظاهرة. فهو ولد لأبوين بولنديين في عام 1857 في جزء من الإمبراطورية الروسية التي هي أوكرانيا الآن، وكان اسمه في المعمودية جوزيف تيودور كونراد كورزينوسكي. كانت الفرنسية لغته الثانية، ولم يأت إلى إنكلترا (أو يتكلم كلمة واحدة في الإنكليزية) حتى الحادية والعشرين من عمره. لكنّه أتقن هذه اللغة في نهاية المطاف حتى أصبح من أعظم الكتاب باللغة الإنكليزية.
في عام 1948. قام فرانك ريموند ليفس، وهو ناقد أدبي معروف في جامعة كامبريدج، بإدراج كونراد في كتاب "التقليد العظيم" (The Great Tradition) إلى جانب جين أوستن وجورج إليوت وهنري جيمس. وبعد ثماني سنوات، كتب والتر ألين، وهو ناقد آخر، أن كتاب "نوسترومو" ويمكن اعتباره "أعظم رواية باللغة الإنكليزية لهذا القرن". واكتسبت رواية "قلب الظلام" (Heart of Darkness) جمهورًا جديدًا من خلال فيلم "نهاية العالم الآن" (Apocalypse Now)، وهو فيلم الحرب الملحمي الذي أنتجه فرانسيس فورد كوبولا في عام 1979.
تقول مايا جاسانوف، أستاذة التاريخ البريطاني والإمبراطوري بجامعة هارفارد، في كتابها "رقيب الفجر: جوزيف كونراد في عالم شامل" The Dawn Watch: Joseph Conrad in a Global World (منشورات بنغوين؛ 400 صفحة؛ 30 دولارًا. منشورات وليام كولينز؛ 25 جنيهًا استرلينيًا)، إن كونراد تنبأ "في مطلع القرن العشرين" بعدد من القوى والمخاطر العالمية التي تصيب العالم اليوم.
على السفن الشراعية
الروائي تيتّم في الحادية عشرة، إذ استسلم والداه للمرض بعد نفيهما بسبب نشاطهما الثوري إلى "بوابات سيبيريا". وفي السادسة عشرة، هرب إلى البحر وعمل بحارًا 20 عامًا تقريبًا، وعانى من الديون واليأس، وحاول الانتحار. في وقت لاحق أصبح بحارًا بريطانيًا محترفًا ومؤهلًا بشكل كامل، سافر حول العالم، ولا سيما الأرخبيلات وشبه جنوب شرق آسيا، حيث يٌجري عددًا من حكاياته. ووفق جاسانوف، "كونارد ينتمي إلى الجيل الأخير من البحارة الذين كانوا يعملون في المقام الأول على السفن الشراعية"، وقد وصف ذلك بـ "الأرستقراطية". وفي كتاباته "حوّل سفينة الإبحار البريطانية إلى معيار من الذهب للسلوك الأخلاقي".
ذهب إلى أستراليا بصفته نائب الربّان على متن تورينز، وصادق جون غالسورثي، وهو محام شاب كتب "ملحمة فورسيت" (The Forsyte Saga)، التي فازت بجائزة نوبل. في عام 1894، عندما لم تلح في الأفق أي فرصة لمنصب القيادة، تخلّى كونراد عن البحر ونشر روايته الأولى، "حماقة ألماير" (Almayer’s Folly). واكتملت الرحلة من مولود بولندي الأصل إلى بحّار إلى كاتب. وبعد ذلك بعامين، وبعد تودّد قصير وغريب، تزوج من جيسي جورج غير الملائمة له على ما يبدو، واستقرّ في كينت عن قناعة، ورزق بإبنين وخصّص باقي حياته للكتابة.
في "رقيب الفجر" (The Dawn Watch)، تصف جاسانوف رحلاتها الخاصة بحثًا عن كونراد – أربعة أسابيع على سفينة شحن فرنسية عبر المحيط الهندي ورحلة معقدة إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية. وهي تدمج بمهارة تفاصيل حياة كونراد وقصصًا عن أهم أعماله الأربعة، رابطةً التحديات والقوى التي تكمن وراء الروايات، وضمنها تلك الموجودة في القرن الحادي والعشرين.
تهديدات الفوضى والإرهاب
حتى لو لم تكن لندن عالمية بقدر اليوم، فهي احتوت في تسعينيات القرن التاسع عشر على 50 ألف من الأوروبيين القاريين – "أكثر من جميع سكان كراكوف". شكّل الثوريون الروس والقوميون الإيرلنديون المتشددون مصدر إلهام لـ "الوكيل السري" (The Secret Agent)، الذي تقع حوادثه في لندن ديكنزيّة قذرة، ويتضمّن معالجة ساخرة للتآمر والإرهاب وقنبلة تنفجر في اللحظة الخطأ، ما أسفر عن مقتل شخص ساذج بريء.
ثم، كما هو الحال الآن، قامت تهديدات الفوضى والإرهاب بتغذية الشعور المناهض للمهاجرين. كتبت جاسانوف: "عندما تعتقد أن أجنبيًا قد يسلبك عملك، فإنك تحتج. عندما تعتقد أن أجنبيًا قد يقتلك، فإنك تصاب بالذعر".
إذا كان "الوكيل السري" مكتوبًا بطريقة سهلة القراءة، فكتاب "اللورد جيم" (Lord Jim)، الذي كان قد صدر قبل سبع سنوات، هو أكثر غرابة وصعوبة.
يصف الكابتن مارلو، الراوي في روايات كونراد، كيف أن الإنكليزي الشاب "قوي البنية" يتخلى في لحظة من الارتباك عن سفينة محملة بالحجاج بدا أنها تغرق. ومرارًا، يحاول جيم الذي يؤنّبه ضميره أن يفتح صفحة جديدة، لكن كلّما كان يحرز تقدّمًا كان يتحطّم.
وفقًا لجاسانوف، هذه الرواية المتعرجة "تتكلّم بلغة استعارة يمكن أن يقدرها الإمبرياليون"، ولا سيما حول الاستقامة الأخلاقية للرجل الإنكليزي من "النوع الصحيح". وكان معروفًا أن في هذه الرواية أصالة كبيرة ألهمت عددًا من الكتّاب الأصغر سنًا، وإن لم يكن الجميع مقتنعًا بذلك.
بالنسبة إلى إي. إم. فورستر، "العلبة السرية لعبقريته احتوت على بخار بدلًا من جوهرة". غير أن السيدة جاسانوف تشير إلى الآتي: "بالنسبة إلى كونراد، كان البخار هو الجوهرة".
كل مكان ارتاده
أما "قلب الظلام" (Heart of Darkness)، الذي صدر في عام 1902، بعد عامين من "اللورد جيم"، فقد نشأ عن تجربة كونراد القصيرة والكريهة للاستغلال البلجيكي لكونغو البلجيكية آنذاك. شعر بالجزع بسبب معاملة الأفارقة وتجارة العاج، كما يتضح من كورتز في الرواية، وهو الوكيل الذي جاء واعدًا بالحضارة، لكنه استخدم الوحشية الوهمية ومات في نهاية المطاف وهو يقول: "الرعب! الرعب!"
أعرب كونراد عن مخاوف مماثلة في "نوسترومو" الأكثر جوهرية في عام 1904. كتب أول مرة عن مكان وهمي، هو جمهورية كوستاغوانا في أميركا الجنوبية، لكنّها كانت "رواية عن كل مكان ارتاده". عكست كل ما لديه من سخرية سياسية، وحنينه لعصر ما قبل التكنولوجيا، ومخاوفه من مستقبل تهيمن عليه "المصالح المادية".
تقول جاسانوف إنها استكشفت عالم كونراد "ببوصلة مؤرخ، وخريطة مؤلّف للسير الذاتية، والجهاز الملاحي لقارئ خيالي"، وقد خدمها ذلك بشكل جيد. وقام الروائي أنطوني باول بوصف كونراد بأنه "شخصية غامضة. وكلما قرأنا عنه، يبدو أن معرفتنا به تقلّ". ربما لا تكشف هذه السيرة تمامًا عن الغموض وراء الرجل، لكنّها تشجيع قوي لقراءة كتبه.
733 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع