العربية. نت – عماد البليك:يمكن لك أن تضحك كثيراً وأنت تطالع كتاب #البخلاء للجاحظ الذي يعتبر مدونة لعصره في فنون البخل، إذا جاز للبخل أن يكون "فنًا". لكن وراء ذلك الضحك تكمن الحكمة ومهارات التعامل مع الحياة.
ومن زاوية ثانية، أعمق، فإن البخلاء هم لسان حال يعبر عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، فمن خلالهم تتكشف البنى العديدة لنسيج الحياة في أي عصر كان.
لهذا فـ "البخلاء" ليس مجرد كتاب للتسلية والطرفة، وهو ما يذهب إليه المفكر والناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو في دراسة له بعنوان "صورة البخيل بطلًا"، التي يقدم لها بمقولة مستلة من رواية "أوجيني غراندي" للكاتب الفرنسي الشهير بلزاك، مفادها: "البخلاء لا يؤمنون بالبعث؛ إن الحاضر كل شيء بالنسبة لهم".
فالبخيل هو إنسان يسكن اللحظة والحضور، أو يسكنه الزمن الراهن، لهذا لا ينشغل بالمستقبل ولا الماضي، فيصر على الإمساك بما عنده من أشياء خشية ضياعها أو تلفها. وهذا يعطي البخل مغزى فلسفياً أكثر من دلالته المباشرة في كونه عملًا قد يوصف بأنه رذيل.
وفي #الثقافة_الإسلامية فإن البخل غير محمود، لكن في الوقت نفسه فإن الإسلام يمنع الإسراف المبالغ فيه، ويدعو النفوس أن تسلك المسار الوسط ما بين الإمساك الشديد والبذل المطلق.
عن قصة "البخلاء"
ثمة نظرية في الأدب والفنون ترى أن المؤلفات الإبداعية والإبداع عمومًا يتحرك من التجربة الذاتية في أغلب الظروف، وهو السؤال الذي يمكن أن ينطبق على #الجاحظ، هل تأليفه عن البخل نتج من تجربة ذاتية واعتزاز بالموضوع، أم أنه تأذى من البخلاء من جانب آخر.
وفي كلا الحالتين فهناك محفز مرتبط بالسياق الاجتماعي للكاتب، في أن يعكس ما يدور حوله في المجتمع من خلال تقاليد الناس وتصرفاتهم بشأن المال، الذي يعتبر أخطر عنصر في الحياة الإنسانية يتحكم في العلاقات والوجاهات والمكانة والسلطة والهيمنة.
وتذهب الروايات التاريخية إلى أن الجاحظ ألّف الكتاب على الأغلب في سن متأخرة من عمره، بعد أن اختمرت تجربته في الحياة والكتابة، وإن كان الكتاب يجمع بين صيغتي الشباب والكهولة، في منهجه، الذي يؤلف بين السخرية والفكاهة وهي رمزيات شبابية، وفي مقابلها الموعظة والحكمة وهي من أثر الكهولة.
ويقول الجاحظ في تقديمه للبخلاء إنه ألفه لأحد عظماء الدولة وقتها، ولكنه لم يشر لاسمه، ويرجح أنه من أصدقائه الذين يحتفي بهم. وفي كل الأحوال فإن التجربة لابد لها أن تظهر من خلال عمل كهذا يحاكي حياة البشر وأحوالهم.
منهج الكتابة عن البخلاء
رغم أن "البخلاء" يصوّر لنا العصر العباسي بشكل عام وإنسانه، في علاقته بالمال والمنحى الاقتصادي، ممثلًا في نموذج البخيل، الذي يبدو حاضرا بوضوح في المجتمع وإلا لما أثار الانتباه، إلا أن قصصه مستوحاة من مرو عاصمة خراسان، التي تأخذ من هذا الكتاب صورة لعاصمة البخل في زمانها.
لقد اعتمد الجاحظ منهجًا أقرب لما يقوم به صحافيو اليوم من الاستقراء والتحقيق والمقابلات لكي ينجز هذا الأثر الكبير، الذي يتجاوز عصره إلى اليوم، في الحكاية عن تداخلات تجمع بين العلوم النفسية والاجتماعية والسياسية مع الاقتصاد.
وكان يقابل الناس ويأخذ قصصهم عنهم مباشرة، ويشرح من جهة أخرى الجانب النفسي للبخيل، وانعكاس ذلك على الحالة الاجتماعية والنفسية للشخص، إذ كيف يتعامل أو ينظر المجتمع للبخيل، بما في ذلك وصف تعابير الوجوه.
ما بين القدح والمدح
يرى الكاتب عبد الفتاح كيليطو أن ظاهر كتاب البخلاء أنه يصب في قدحهم، ولكن باطنه يصبّ في مدح خصالهم الأخرى، التي لا يراها عامة الناس، مشيرًا إلى أن البشر عادة تحبذ الكرم وترفض البخل، لهذا سوف تفهم أن كتابًا بهذا المضمون لابد أنه في ذمّ البخل.
فالجاحظ نفسه في المقدمة يبدو كما لو أنه يقدح في البخلاء ويهاجمهم، حين قال إن البخيل "لا يفطن لظاهر قبحه وشناعة اسمه وخمول ذكره وسوء أثره على أهله".
غير أنه الجاحظ نفسه سرعان ما – وبحسب كيليطو - يضيف أن البخيل يحتج "لذلك بالمعاني الشداد وبالألفاظ الحسان وجودة الاختصار وبتقريب المعنى وبسهولة المخرج وإصابة الموضع".
وهذه إشارات واضحة من المدح لا القدح، تنقل البخيل إلى مستويات جمالية في إبداع التبرير وفلسفة المعاني التي يجود بها في مقابل ما فيه من "شحّ" في العطاء وبذل المال.
وبهذا فالنتيجة المستخلصة أن البخلاء أناس فنانون في المعنى، أدباء وفلاسفة، جماليون في البلاغة والصياغة.
ويبدو أن ثمة صلة بين تدبير المال والبخل وتدبير المعاني من معنى آخر، وفي البلاغة فإن شحّ المفردات وتوظيفها المقتر يعني ببساطة غاية الحكمة و"خير الكلام ما قل ودل"، كما يقال.
392 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع