رواية - حفل رئاسي - الوجهة بغداد

   

       رواية حفل رئاسي -الوجهة بغداد

   

   

  

لم يهدأ السفير شكري طوال الطريق الى مسكنه، ولم يتوقف سيل الأفكار في داخله، حتى كاد القلق الغامر يخرجه عن المألوف، حسه المرهف لا يألف المفاجئات، والاستدعاء الى بغداد بهذه السرعة، أكبر المفاجئات التي لا تؤتمن نتائجها.

عبءٌ تشكل ثقيلاً على نفسه، سعى تحت تأثيره الى مد قوس المعرفة الخاصة بالاستدعاء، الى خارج السياقات الدبلوماسية، متوجهاً الى الزوجة، قاصداً محاورة عقلها النبيه عن دوافع الاستدعاء، وفيما إذا كان يحمل في طياته مضامين أخرى تعزز الشكوك، فأعطت وجهة نظرها بصيغة نفي للشكوك، ووضعت بدلها احتمالات كونه آتياً من بروتوكول، يتعلق بمقابلة رئيس الجمهورية الجديد كما هو مألوف.
نفيٌ لم ينفع في ازالة تلك الأفكار التي راحت تغزل في رأسه، توقعات عن الاستدعاء أقلها، إنهاء خدماته كسفير أو.... ولما سرحت هذه الأفكار الكئيبة في رأسه، أستبعد أن تكون المقابلة سبباً في ظروف تنازل صوري عن العرش، من الرئيس الى نائبه في دولة يراها على وفق ثقافته البعثية ديمقراطية. وفي لحظة الاستبعاد هذه، رأت في عينيه السوداوين إرتياباً شديداً. حاولت تخفيفه مبديةً رأياً آخر، إعتقدته كافياً للتخفيف، فقالت، أجزم أن الاستدعاء لا يتعلق بك وحدك، وبالتأكيد هناك آخرين قد استلموا برقية مثلك، تطلب حضورهم الى بغداد.
ثم لِمَ تفترض الأسوأ في هذا الموضوع؟.
قد يكون هناك توزيع للمناصب بعد اكتشاف المؤامرة، واستلام السيد النائب رئاسة الدولة. شخصيته تحتم القيام بتغيير الطاقم الى آخر من الشباب القريبين لعمره، ينسجم واياهم في العمل، منصب وزير الخارجية يليق بك، وأقله وكيل الوزارة، بالنسبة لي أفضلُ أن تبقى سفير، لقد اعتدنا حياة الانفتاح، حتى أفكر أحيانا بصعوبات العودة الى تلك الأيام، التي تمتلأ بالشك ومراقبة الانفاس، واشبه حالنا بالسمك الذي يموت، عند الخروج من الماء.
الماء هنا على اية حال.
خاتمة تطمين أردفتها بسؤال، لِمَ نستكثر عليك هذا، وأنت من أوائل الحزبيين المخلصين؟.
يهدأ قليلاً، كأنها دفعته باتجاه آخر غيّرَ من نهج التفكير المليء بالشكوك. اتجاه مختلف، لا يحوي أي من تلك الشكوك، بل وفيه أمل وقدر من المعقول. لكنه لم يسقط من حساباته تماماً، بعض المفاجئات غير السارة، فالعراق حسب رأيه حمال أوجه ومفاجئات، مسيرته جلها مفاجئات.
هنا بالذات قطعت هدوئه المؤقت باقتراح، الاتصال بمعارفه من السفراء الآخرين غير طارق، الراقد في المستشفى، ذكرتّهُ بالسيد حليم السفير القائم في السنغال، فهو أيضا عسكري مرموق، وله علاقات واسعة في بغداد.
تجاوب معها على الفور بعد أن وجد في اقتراحها منفذ معقول. سأل نفسه، كيف لم يتنبه اليه من قبل؟.
مسك سماعة الهاتف، طلب صديقه السفير حليم، ومن فرط القلق دخل مباشرة في الحديث قائلاً، "أبو أسامة" هل لك علم بموضوع الاستدعاء الى الخارجية للتداول بأمر هام؟.
رد حليم بطريقته الساخرة:
يا أخي، إلقي السلام أولاً، واسأل عن أحوالي مقيم في هذا البلد، أعيش متجولاً بعشر دول أفريقية، مبعثرة على جغرافيتها العجيبة.
أجاب شكري ومازال القلق يتملكه بشدة، الآن نحن بأي حال وأنت تخلط الجد بالهزل.
لم يتركه حليم هكذا قلقاً بانتظار الاجابة، أكد علمه بالاستدعاء، وأكد وصول برقية صباح هذا اليوم، وأضاف، أزيدك علماً أن منطوقها ذاته، وصل حامد الدليمي في نيجيريا، وجعفر الذهب في أوغندا، وحسب علمي غالبية السفراء. ثم ان المعلومات ينبغي أن تكون في جعبتك، أخاك محمد كان وكيل وزارة يعرف كل المسؤولين، والأصغر يمسك الاعلام في لندن، وهو قريب من الجماعة. فأجابه أن أخاه لم يرد على الهاتف. ثم ان جميع الهواتف مغلقة كأنها مقطوعة، وكأن هناك قصد بقطع الاتصال مع الخارج.
وعندما سأله فيما إذا سمع شيئا عن طارق، الذي نقل الى المستشفى بعد اصابته بذبحة قلبية، كما تقول السكرتيرة. أجابه، نعم لقد علمت منها، إثر محاولتي الاتصال بعد استلام البرقية مباشرة. لقد أخبرتني بتفاصيل نقله الى المستشفى بسبب الذبحة. طارق قوي، وجسمه جسم رياضي، أتعجب كيف داهمته الذبحة مبكراً، ومع هذا لا تخف عليه، فهو ممن يمتلك سبع أرواح.
وقبل أن ينهي شكري حديثة، طلب من حليم اخباره عن المستجدات التي قد تحدث، فالقلق بات يهرسه من الداخل، وهو غير مطمئن لهذا الاستدعاء.
نعم سأبلغك عن أي جديد أسمعهُ قال حليم، وسأل عن أسباب القلق من موضوع أقرب الى أن يكون طبيعي.
وزارة تستدعي سفراء!. ما الجديد في الأمر؟.
الجديد قال شكري، هذا الغليان الحاصل في بغداد.
المؤامرة التي ملأت أخبارها العالم.
الاعتقالات التي جرت، وتجري لعشرات الحزبيين الكبار، فقط الكبار.
رد حليم باسلوب يريد بواسطته اسباغ جو من السخرية الجادة، على موضوع الحديث المقلق، قائلاً، أحمد لله أني لست من الكبار.
ما شأننا والكبار؟.
هم متآمرون ونحن سفراء في الخارج.
لماذا الخلط بين أمرين؟.
هل تعتقد أن الدولة تترك متآمراً على سلامة وطنه طليقاً؟.
أخبرني هل لك علاقة بالمؤامرة؟.
أخشى أن يكون أحد منهم قد أتصل بك من قبل، وتتوجس خيفة من انكشاف السر.
أي مؤامرة، وأي سر تتكلم عنه؟، قال شكري، واستمر في القول، تأملتك عوناً في مسألة التفسير كونك ضابطاً سابقاً، وكاتباً ضليعاً بالتحليل، فوجدت في سخريتك زيتاً، يُسكب على نار في داخلي الملتهب.
كان رد حليم عتاباً على قلق ليس في محله، ونصحاً في آن معاً، قائلاً، لقد حيرتني حقاً. من يراك بهذه الحال القلقة لا يأتي على باله سوى، أنك خائف من انكشاف علاقتك بالمؤامرة، أنصحك التقليل من هذه الوسوسة.
لكن شكري الذي يعيش فعلاً تحت مستوى من القلق الشديد، لم يأخذ بنصيحة حليم، وعلى العكس اتهمه بالجهل تماماً بما هو عليه، وأستهزأ من أفكاره، وأكد انطباق المثل العراقي على آراءه "عرب وين وطنبورة وين".
رد حليم بالسخرية ذاتها، طالباً التوقف عن الشك، وضرورة شد الرحال الى بغداد، حيث اللقاء على شاطئ أبي نؤاس، وتناول السمك المسكوف الذي يحبه، مؤكداً أنه قد حصل على حجز الى باريس يوم غد، ومن بعده بليلة سيغادر الى بغداد، وان اللقاء الأول سيكون في الوزارة حتماً، ومنها الى أبي نؤاس.

...........................


سمح الطبيب الى حرم السيد السفير، مشاهدة الزوج الملفوف بأسلاك المتابعة العلاجية، من فتحة زجاجية جانبية حال مروره، وكتابة بعض الملاحظات على الصحيفة الطبية، المثبتة أعلى الجزء الأمامي من السرير.
رأته وقد غطَّ في نومه، كمن فقد الوعي تماماً، فقيل لها من أثر المهدئات التي تناولها، مع أدوية مُمَيّعة للتجلط الدموي.
حاولت الالحاح بالدخول على الطريقة العراقية في مثل هكذا مواقف، منعها ممرض، أنتُدبَ لأن يكون واقفاً في الباب، خصيصاً لتنفيذ مهمة منع الزيارات. طلب منها الانتظار ساعتين، حتى حلول موعد الفحص القادم من قبل الاخصائي "ديتريش"، الذي يقرر وحده إمكانية تنفيذ الزيارة المباشرة من عدمها.
انتظرته قلقة حتى فاق من غفوته الاصطناعية، وتلاشى في داخله الألم، واسترخى جهازه العصبي بعد شدٍ وصفه الطبيب، بما يفوق المعقول.
غير المعقول، أن يغفو الحبيب بهذه الطريقة، وهي باقية مشلولة، غير قادرة أن تفعل شيء.
العالم من حولها قد أنتهى، لم يعد بالنسبة لها يمثل أي شيء.
ساعات قليلة هي التي قضاها راقداً، تماثلت في مشاعره المبعثرة كالسنيين، وتماثلت لها عقود من السنين.
يحضر الطبيب المختص في موعده، يجري الفحوص المطلوبة، فيقطع وصل التوتر الجارف، ويسمح للزوجة بزيارة قصيرة لا تتعدى الدقيقة الواحدة، مع امكانية زيادتها خمس أخرى في المساء، إذا ما أظهرت الفحوص استقراراً ملموساً في الحالة الصحية التي لم تستقر بعد.
زيارة الدقيقة الواحدة لا تكفي، لإخفاء الدموع التي لم تنقطع منذ سماع الخبر، كأنها سيل جارف. اكتفت بتقبيل يده اليمنى، بأسلاكها الموصولة بعدة أجهزة في غرفة الانعاش، طالبةً ألا يتركها وحيدة والبنات، فهي لن تستطيع العيش بدونه.
دنت منه وبصوت خفيض قالت:
الله لو أمكن استبدالي بك راقدة على هذا السرير، لما حزنت.
لو خيرني القدر تلقي الاصابة عوضاً عنك، لما توانيت.
ربي اجعل يومي قبل يومه، واجعلني خادمة له، ما حييت.
آه لو تقبلني المستشفى ماكثة عند قدميك، حتى تتعافى، لبقيت.
عهدتك قوياً، وستبقى قوياً بإذن الله، وستعود أباً وحبيباً الى القلب كما كنت... نحبك بجنون.
يشد بيده الموجوعة على يدها الواهنة.
حاول الابتسام بوجهها الجميل، فجاءت ابتسامته باهتة بوضوح، مثل مفجوع يجامل سفيها في موقف عزاء.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/35200-2018-04-28-10-08-43.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

723 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع