مؤلف الرواية في رسم غرافييتي على حائط منزل
الرواية تتميز بكثافة السرد فيها، وانشغالها الواضح بتجسيد كل هذه الأحداث في هذا المكان الصغير المغلق والمفتوح في آن معا،
العرب/ مفيد نجم:بالقدر الذي تحوز فيه شخصية ميلوش هرما في رواية قطارات تحت الحراسة المشددة لبوهوميل هرابال (ترجمة بسام حجار/ منشورات المتوسط) على بطولة الرواية، من خلال ارتباط نمو أحداث الرواية بالتحولات التي تطرأ على هذه الشخصية، فإن هناك أكثر من شخصية تتقاسم معه صناعة أحداثها، هي شخصية مدير محطة السكك الحديدية ونائبه هوبيكا، ذلك أن أحداث الرواية تدور كلها في مكان واحد، هو محطة صغيرة للقطارات في مرحلة بداية هزيمة الألمان في الحرب العالمية الثانية.
وإذا كان عنوان الرواية الذي يتألف من جملة اسمية يحمل معنى مكانيا، فإن هذا العنوان يمثل عتبة أولى تحيل على عالم الرواية، كما هو يحيل عليها، خاصة أن صيغة الجمع التي يتألف منها توحي بمعنى حركي يرتبط بإيقاع السرد وحركته في هذه الرواية.
عالم مكاني
تجري أحداث الرواية على إيقاع حركة القطارات العابرة التي لا تكاد تتوقف، قطارات بضائع وقطارات جنود أو عتاد وذخيرة، وقطارات ركاب. الثابت في هذه الرواية هو المكان محطة القطارات البسيطة وشخصيات العاملين فيها والمتحرك هو الزمن والأحداث التي تجري وما تستدعيه من شخصيات فرعية. يتولى بطل الرواية ميشا أو ميلوش العامل المتدرب في المحطة مهمة السرد، باعتباره الشخصية التي تتحرك خلال السرد، وتقوم بدور الشاهد على أحداث الرواية، وعلى الأفعال التي تقوم بها شخصياتها.
يبدأ السارد بوضع القارئ في فضاء أحداث الرواية من خلال رسم صورة لملامح الهزيمة التي بدأ يواجهها الألمان في الحرب العالمية، كما يظهر ذلك في سقوط إحدى المقاتلات الألمانية في المنطقة، ينتقل بعدها إلى استعادة مشهد جده البطولي في مواجهة الجيش الألماني قبل دخوله إلى براغ عبر محاولة ممارسة التأثير المغناطيسي الذي كان يمتهنه على طلائع هذه القوات، التي سحقت جثته بجنازير دباباتها.
وعلى عادة الرواية الواقعية تهتم الرواية بسرد تفاصيل المكان والتعريف بشخصياتها للإيهام بواقعيتها، كما تسعى لتقديم صوة وافية عن الواقع الاجتماعي في الريف التشيكي آنذاك، على الرغم من أن أحداث الرواية تدور في مكان واحد، وتتعلق بشخصيات ثلاث رئيسية، تحمل كل واحدة منها سمات خاصة بها تميزها عن الأخرى، فشخصية مدير المحطة العضو في إحدى المنظمات الدينية المناهضة للأخلاق الجديدة، التي بدأت تظهر من خلال سلوك الجيل الشاب، تقابلها شخصية نائبه هوبيكا الخبيرة بتنظيم حركة القطارات وغير المبالية، والتي قامت بطباعة جميع أختام المحطة على مؤخرة عاملة التلغراف في المحطة. أما شخصية البطل فهي تمتاز بخجلها وانعزاليتها، حيث يلعب الجنس دورا أساسا في تحولاتها وسلوكها وعلاقتها بذاتها ومع الآخرين.
تحولات بطل الرواية
تظهر محاولات الاحتلال الألماني عسكرة الحياة المدنية، من خلال الطابع العسكري الذي فرضه على علاقات هذه الشخصيات مع بعضها البعض أو مع الجنود الألمان داخل المحطة. يبدأ الراوي/ البطل بسرد حكاية بداية عمله في المحطة وشعوره الدائم بأنه مراقب، ما جعله يفشل في أول اختبار جسدي مع محبوبته ماشا، فيطغى عليه شعور دائم بفقدان رجوليته، وإحساسه بالعجز، يدفعه إلى مكاشفة أي امرأة يلتقي بها لتقديم العون له، كما حدث في لقائه مع المرأة لانسكي، التي يطلب منها المساعدة باعتبارها امرأة كبيرة بعد أن اقترح الدكتور برابك عليه ذلك. وبينما تتهرب لانسكي من معاشرته بسبب بلوغها سن اليأس فإن الفتاة فيكتوريا التي جاءت تحمل إليه حزمة المتفجرات، التي اتفق مع هوبيكا على استخدامها لتفجير القطار الألماني المحمل بالذخيرة، هي التي تعينه على تجديد هذا الاختبار وعبوره بنجاح كبير”وأحسست أني أغرق في نور يزداد سطوعا وأطير وأرتفع من دون توقف والأرض ترتج ولم يكن سوى قصف رعد وهديره، كان الصخب لا ينبعث من جسدي ولا من جسد فيكتوريا بل من الخارج، إذ بدا المبنى بأكمله مهتزا من أساسه وزجاج النوافذ يرتج وحتى الهواتف تطلق رنينها ابتهاجا بدخولي المظفر والمبجل إلى الحياة”.
القاتل والقتيل معا
يسهب الكاتب في وصف وضع بطل روايته بعد تنفيذه مهمته في تفجير قطار المتفجرات، وكيف وقع من أعلى عامود المحطة وتدحرج إلى أن أصبح إلى جوار الجندي الألماني الجريح في الحفرة التي سقط فيها بعد أن أصابه بطلق في بطنه، وكأن هذه النهاية هي ما كانت تخطر على بال معاون مدير المحطة هوبيكا.
في هذا المشهد يستيقظ الوجه الإنساني عند بطل الرواية كما يظهر من خلال الصور التي تستدعيها صورة الجندي الألماني، وهو يحاول أن يغالب مصيره المحتوم “جعلني أتذكر أشياء ما كنت أود أن تراودني، أمي ستنتظرني في الصباح واقفة خلف الستارة ولكنني لن آتي ولن أنعطف عند زاوية الشارع حالما أصل إلى الساحة”. لكنه ولكي يهرب من هذا الشعور المعذب يطلق النار أكثر من مرة على الجندي حتى يسكته إلى الأبد. يكشف الروائي هنا عن الوجه المرعب والقاسي للحرب، كما يكشف عن المعاناة التي يعيشها القاتل والقتيل في نفس اللحظة، حيث تتجلى درامية المصائر الإنسانية “وحتى آخر لحظة حين بدأت أتلاشى عن نفسي أبقيت يدي في يد هذا الميت” وهو يردد عبارة رئيس المحطة التي تدين من أشعل الحرب.
تتميز الرواية على الرغم من صغر حجمها (107 صفحة من القطع المتوسط) بكثافة السرد فيها، وانشغالها الواضح بتجسيد كل هذه الأحداث في هذا المكان الصغير المغلق والمفتوح في آن معا، حيث تتداخل الحكايات والمصائر والوجوه وكأن حركة القطارات الكثيفة التي تنظم حركة الشخصيات فيه هي صورة عن كثافة اللحظة الزمنية التي كانت تعيشها أوروبا بعد أن أدمتها الحرب، لكن كل ذلك لم يمنع من أن تتجلى طرافة الحياة ومفارقاتها من خلال حيوات شخوصها ومواقفهم وعلاقاتهم في هذا المكان المعزول.
614 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع