رواية - حفل رئاسي - خيوط الشك
كان الوقت متأخراً، لم يسمح للسفير طارق اكمال اتصالات الاستفهام عن المؤامرة، كما ان التعب الذي خلفته الذبحة، بات واضحاً على وجه شاحب، تشبه صفرته نبت الزعفران، وعينان تلتحفان بهالة سواد، تقلصت عضلاتهما حداً، أخافت نسيبه سديد، الذي تعمد قطع الحديث وحثه على النوم. ومع هذا فالنوم لم يساعد على نسيان أمر المؤامرة الخطيرة، والتفكير بصباح ينتظره بلهفة، لإكمال المشوار.
كان مستعجلاً بشكل غير معقول، حتى لم ينتظر السيارة، التي وعدت دائرة المراسم ارسالها، لنقله الى وزارة الخارجية، بالساعة التاسعة صباحا. وبدلاً عن الانتظار طلب من سديد، ايصاله قبل التوجه الى عمله في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، مدفوع بقوة الاستفهام عن حقيقة المؤامرة.
وصلها قبل بدء الدوام الرسمي بقليل، فوجدها تعج بالحركة.
في الطريق الى مكتب الوزير، ظهر السيد عزام، سائر الى مكتبه في نفس الطابق، الذي يحتل الوزير معظمه، كان السلام حاراً، فهم كذلك أصدقاء طريق السياسة، المعبد بالأشواك.
مالذي اتى بك في هذا الوقت وأنت مريض؟.
أنتم الوزارة من استدعاني، وتعرفون جيداً أني مريض أرقد في المستشفى.
تعال لنشرب القهوة في مكتبي، فما زال الوقت مبكراً، فالسيد الوزير الدكتور سعدون حمادي في سفر، ووكيله الأستاذ حامد الجبوري قد لا يحضر قبل ساعة، وربما لا يحضر نهائياً، لأنه ومنذ الاعلان عن المؤامرة، وهو يدير الوزارة من مكتب يجاور السيد الرئيس.
أخبرني ماذ جرى، ولِمَ يتآمر قادة كبار في الحزب مثل عدنان، ومحمد عايش وآخرين؟.
عمرك أطول من عمري، كنت أريد أن اسألك نفس السؤال، فأنت من المحسوبين على الرئيس، وصديق له قديم، والمفروض ان تكون بالصورة أكثر مني.
بالنسبة لي، قال عزام، لم أعرف شيئاً يعينني على أن أعلم، ولما حضرت مع الكادر المتقدم للحزب الى قاعة الخلد، يوم الثاني والعشرين، خرجت مذهولاً، وقد سُدت من حولي منافذ الادراك، وضاقت فرص الاطلاع، فبت حقاً لا أعلم.
لم يجلس السفير عزام على مكتبه، فضّلَ الجلوس على الكنبة جوار طارق، ليتحدثا عن قرب، حديث همس، فهو بعد الخروج من قاعة الخلد مشدوهاً، آمن بضرورة الحديث عن طريق الهمس. قال وعندما خرجتُ من تلك القاعة، التي بدت في نهاية المشهد، ما يشبه بالمسلخ، كنت تائها، مررت بحال أقرب الى الغيبوبة، ذهب مني عقلي، ولم أعد أمتلك القدرة الكافية للسيطرة على حواسي، كان خوفي من أن أكون مجنوناً، يفوق خوفي من أن أكون متهماً، مازالت قدماي ترتجفان، عندما تَحضُرُ ذاكرتي قسراً، مشهد الرفيق فاضل، يتكأ عليّ في نهوضه واهناً، حال المناداة عليه متآمراً.
إنها...........توقف عن الكلام، أبدل صيغة الكلام، بصيغة أخرى حال دخول السكرتير حاملاً البريد، وقال موجها كلامه الى طارق، رأيك في أن تزورني الى البيت، نفطر معاً هذا اليوم، ضروري أن نلتقي في القريب، إذ أن الموافقة على عملي سفيراً في واشنطن قد وصلت بالأمس، ولم يبق سوى موافقة السيد الرئيس الشكلية على الالتحاق، وهي في بريده، ومن المتوقع اتمامها هذا اليوم، أو في الغد على أعلى تقدير.
السفراء المستدعون يصلون تباعاً، أغلبهم وصل قبل دقائق من بدء الدوام، أو بعدها بقليل، وصلوا وزارتهم بعقول يملئ أوعيتها القلق الهائم، يودون تبيان دوافع الاستدعاء، جلس غالبيتهم عند الوكيل الإداري السيد حميد عبد القادر، ومسؤولون حكوميون كبار، يدخلونها لاستبيان مواقف الدول الكبرى من التغيير. فاجأهم علي حسن المجيد بالسلام. نهضوا لرد السلام، بطريقة فيها قدر من الحذر. فتوجه هو بالكلام صوب طارق قائلاً، "أبو نداء" متى وصلت حمداً لله على السلامة، قيل أنك مريض؟.
يقترب منه، يأخذه بالأحضان. أجابه بلهفة صديق قريب، وصلت في ساعة متأخرة من الليل، صحتي جيدة، هواء العراق أشفاني من علة القلب الحساس. يبدو أن الخارجية لا تمتلك المفيد من المعلومات. رأيك التوجه صوب الرفيق برزان لمعرفة كل التفاصيل؟.
لكني جئت بقصد الحصول على مصادر، أرفد بها أطروحتي، التي يفترض تقديمها الشهر المقبل، الى كلية الدفاع الوطني في جامعة البكر، قال المجيد. فأجابه، سوف لن تطير الأطروحة، أعطني قائمة بما تريد من مصادر، وأنا أوفرها لك، وسأرسلها الى مكتبك مباشرة. فجامله بالرد، تفضل، من يستطيع رفض طلب الرفيق العزيز "أبو نداء".
البناية الرئيسة للمخابرات، في الجهة المقابلة من الشارع، الذي تطل عليه الخارجية، رئيسها الجديد، استلم منصبه في اليوم الذي استلم فيه الرئيس مناصبه، قبل أربعة أيام، يديره بحزم يثير الخشية. نشر رجاله المقربون في كل مكان، عمل تنقلات في بعض المناصب المهمة ليلة أمس، منحه الرئيس الجديد كل الصلاحيات لما يتعلق بالمؤامرة، زوده بمفاتيح خزائن أضابيرها، قوائم أسماء مطلوب التحقيق بمديات تآمرهم على الحزب والثورة.
دخلوا مكتبه بعد استئذان المدير المسؤول عنه، فأخذهم بالأحضان، رحب بالسفير طارق مثل شقيق التقى شقيقه العزيز، بعد فراق دام سنوات وقال، "أبو نداء" أحضروك الى هنا، وأنت طريح الفراش، لقد عملت الصح، تعرف رفيقك السيد الرئيس، يزعل على من يحبه، فيما إذا تأخر قليلاً، عن تنفيذ الأوامر.
كيف أتأخر والحزب يواجه مؤامرة، قال طارق... إجابة استهوت نفسه الشكاكة، فأطلعهم فوراً على أسماء، من ثبت اشتراكه خائناً في المؤامرة، حتى لحظة دخولهم مكتبه. كرر عبارة حتى هذه اللحظة، كمن يريد اشعارهم، أن القائمة مازالت مفتوحة، ثم سأل، هل ترضون أعضاء مدللون في القيادة القطرية يخونون؟.
يتفقون مع حافظ الأسد على خيانة العراق، الذي عاشوا من خيره عشرات السنين، أعضاء قيادة قطرية ومكاتب وفروع، ضباط قادة.
إنها مؤامرة قذرة، لو كتب لها النجاح لا سامح الله، لما بقيَّ حزب اسمه البعث العربي الاشتراكي، ولما بقيَّ شيء اسمه العراق، يبدو أنهم مدسوسون في جسم الحزب من سنين، وأنتم كبار الرفاق كأنكم نائمون.
أتدري أبو محمد أني ولحد هذه اللحظة لم أستوعب، كيف يقوم عضو قيادة مثل الرفيق محمد عايش، العفو محمد عايش بالتآمر، قال طارق ثم توقف قليلاً عن الكلام، وكأنه يريد تفادى زلات اللسان، التي قد تُفسر شكاً، ثم أكمل:
طيب محمد عايش، وعرفنا شخصيته التي يمكن أن تكون سبباً في اندفاعه للتآمر، وأنتم أعرف بهذا من كل الرفاق، لكني أود التعرف حقاً، على كيفية اقدام عدنان الحمداني على التآمر، وهو الصديق القريب من الرفيق السيد الرئيس.
ان الخيانة تسري في دماء أولئك المتآمرين، وان علوم المخابرات لا تستثنِ الصداقة من الشك بالسلوك. لقد دققت شخصياً في هذا التآمر، وحصلت على اعترافات صريحة، بتلقيهم أموال من حافظ الأسد، الذي وعدهم بإنزال لواء مظلي سوري لدعم تآمرهم، لكن الله بمشيئته، والسيد الرئيس بحكمته، قد أسهما في كشف المؤامرة قبل التنفيذ بأيام.
رأي قدمه رئيس الجهاز ثم نظر الى المجيد، ومن ثم الى طارق رافعاً، يده اليمنى كمن يلقي خطاباً حماسياً:
أتعلمون رفاق، أنتم بالذات كانت رؤوسكم من بين المرشحة قطعها، لو نجح التآمر لا سامح الله.
سكت قليلا، كأنه يريد تجميع بعض الأفكار ذات الصلة بالمؤامرة، وعندما لم يجد جديداً، سأل طارق رأيه في أن يأخذون وجبة الغداء سوية هذا اليوم، باعتباره ضيفاً عزيزاً.
شكره بقوة، متحجج بكثرة مشاوير لابد من إنجازها، ثم أنه مريض بالجلطة، لا بد من التحسب، وأخذ قليل من الراحة بعد هذه الصدمة المفاجئة بشخوص المؤامرة.
لا تشغل بالك في مصير المتآمرين، قال رئيس الجهاز، سنقطع رأس من يفكر بالتطاول على الحزب والثورة، عهد الخدر والتهاون قد ولى، نحن اليوم في عصر جديد، أمامنا مهام ومشاريع كبيرة لعراق المستقبل، وأمتنا العربية.
شعر وهو في هذا المكتب الفخم، كأن عليه اثبات قدرة على الصبر، والمناورة أكثر من ذي قبل، فعينيّ أبو محمد تحدق به، مثل صقر الجير القطبي الشرس، وشعر في داخله رغبة في إنهاء الحديث، الذي ختمه بعبارة "الله في العون".
سأله كيف تتنقل في بغداد؟. عارضاً تخصيص سيارة، وسائق يكون بالخدمة طوال فترة بقاء قد تطول.
شكره طارق، بتأكيد القول إنك أبو محمد كنت وما زلت سباق في الأفضال، وان المكتب العسكري قد أرسل لي سيارة جديدة، ستكون بالإمرة حتى العودة الى برلين.
تقدم منه خطوة فأخذا بعضهما بالأحضان، واتفقا على لقاء آخر في القريب.
ترك طارق بناية المخابرات مشوشاً، قدرته على التفكير، تناقصت من فرط الشد، حتى لم يعد قادراً على تجميع الأشياء، ما عرفه عن الأسماء والمؤامرة، وتحصيل الأموال، واللواء المظلي السوري، ونظرات الصقر القطبي، زادت عقله المشوش عتمة، وبرزت على سطحه العديد من الأسئلة، التي لم يجد لها جواب. وعندما وجد نفسه في السيارة كمن تاه في شوارع بغداد، تذكّرَ صديقه العميد زهير قائد الفرقة المدرعة، عضو الفرع العسكري للحزب، فقصده شخصية تمتلك قدرة فائقة، على تقصي الأخبار، التي تقع عادة ما بين السطور، وعندما لم يجده في البيت اتجه الى بيت عزيز الياسري، الذي نحيَّ من الحزب جانباً، قبل سنة بأمر من النائب آنذاك، متيقناً أنه الشخص الأقدر على لملمة النهايات الطرفية للشكوك، وبما يفوق زهير قدرة، في هذا الجانب الافتراضي المعقد.
لم يكن عزيزاً كذلك في بيته، أكدت أم علي خروجه مبكراً في ساعات الصباح الأولى، من دون علم منها بالجهة التي قصدها قائلة، هكذا هو عزيز ألم تعرفه؟. فطلب منها إبلاغه السلام، ورغبته القوية بمشاهدته في القريب العاجل، وطلبت هي إيصال السلام أمانة الى السيدة "أم نداء".
يستغرب هذا الغياب. نظر الى ساعته فقد بلغت الثالثة بعد الظهر. اتجه عندها الى بيت نسيبه في العامرية منهكاً من كثر التفكير، وعدم القدرة على حل اللغز الخاص بالمؤامرة. وهو في طريق العودة، بانت له هيئات وأشكال متباينة ومتعددة، لمسار المؤامرة الآتي في الذاكرة المهمومة، والغارقة في الغموض حد الاعياء. هم بتناول الغداء، لكن القلب الموجوع لم يعطه الوقت الكافي لتناول وجبة السمك المسكوف. ها هي آلام الصدر تفتح عليه نافذة من جديد، والجلطة التي حذره الطبيب الألماني من احتمالات حصولها، في حال عدم الابتعاد عن مصادر الاثارة النفسية، قد حصلت بالفعل. علامات لها باتت معروفة من قبله إثر التجريب. لم يكن أمامه من بد سوى الطلب، من سديد احضار السيارة، ونقله الى أقرب مستشفى، فالأصابة بالجلطة القلبية ثانية باتت واضحة. وحل اللغز اشبه بالمستحيل، نهايات له تشعبت مثل أذرع اخطبوط بحر الصين.
يتذكر المستشفى الالماني، وتلك الاجهزة التي استولت على جسده في الجلطة الاولى، قارنها بهذه الموجودة في مستشفى اليرموك التعليمي، فشعر بغصة في أعلى الحلق، طلب على إثرها من سديد، الاتصال بالعميد زهير ليستحصل الموافقة على نقله، الى مستشفى الرشيد العسكري، التي تصنف الاولى بالأجهزة والمعدات، ووفرة الاختصاصيين بين باقي المستشفيات العراقية.
حل الصباح عادياً، ومع حلوله ظهر في باب الغرفة الخاصة بالعناية المركزة، نسيبه الآخر سنان، رفع من على فمه كمامة الاوكسجين، كلمه بصوت خافت، يكاد لا يسمع الا من قريب. سأل عن سديد وأسباب عدم حضوره، وأسباب تأخره منذ عصر الأمس.
لم يحدث شيء، قال سنان مرتبكاً بعض الشيء، وأضاف إنها مجرد آلام في الرأس الزمته الفراش، وقد طمأن الطبيب في تشخيص آلامه، نوبات شقيقة تعاوده بين الحين والآخر.
كانت اجاباته تحوي محاولات هروب، من موقف لا يريد الافصاح عنه. وبعد أن أتم سنان محاولة الهروب بنجاح، سأل عن صحته هو، التي اقلقت أهل البيت. أما هو فقد سأل من جانبه، عن موضوع نقله الى مستشفى الرشيد، فتلقى الإجابة واضحة، من أن الأمر يتعلق بما يقرره الأطباء المختصين.
ثلاثة أطباء يحيطون الجسد الممدود على السرير، بوصلات أسلاك ربطت بالأجهزة الخاصة بمتابعة القلب، يجرون فحوصاً مستعجلة، يفهم من كلمات يتبادلونها باللغة الإنجليزية أنهم يعطون موافقتهم على النقل بسيارة اسعاف خاصة، لتعب واضح على القلب.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/36141-2018-07-02-07-02-28.html
4759 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع