تعريف بكتاب النظرية العسكرية والمذهب العسكري والعقيدة العسكرية
منذ أكثر من عامين شغلت فكري ثلاث مواضيع عسكرية مهمة هي: النظرية العسكرية والمذهب العسكري والعقيدة العسكرية. وسبب ذلك أن موضوع النظرية العسكرية لم ينال قسطا من الدراسة والبحث عربيا، وما موجود عبارة عن مواضيع متفرقة محدودة. أما المذهب العسكري فإنه الآخر لم يبحث بمفهومه كمذهب، بل جاء كرديف للعقيدة العسكرية. أما العقيدة العسكرية فقد كَتب عنها عدد من الباحثين العراقيين والعرب. ولكون هذا الموضوع له علاقة وترابط وثيق مع الموضوعين السابقين، لذا وجدت أن الضرورة تقضي بتناوله ليشكل الموضوع الثالث، وهكذا جاء الكتاب يحمل في عنوانه النظرية العسكرية والمذهب العسكري والعقيدة العسكرية.
كانت البداية صعبة خصوصا مع النظرية العسكرية والمذهب العسكري بسبب محدودية المصادر التي أخذت مني فترة ليست بالقليلة من الوقت للعثور عليها، وبمرور الوقت تغلبت على تلك الصعوبات، لأتوصل بعد أكثر عامين إلى هذه الكتاب الذي أضعه بين أيدي القارئ الكريم.
وسأحاول من خلال هذه المقدمة تعريف القارئ بمواضيع هذا الكتاب حتى تكون لديه صورة أولية قبل الدخول في قراءة التفاصيل.
النظرية العسكرية: هي جزء من العلم العسكري، وهي عبارة عن نظام فكري استباقي لمجموعة من المفاهيم والتعريفات والإفتراضات التي تعطينا نظرة منظمة لفكرة معينة، أو ظاهرة معينة للعديد من المواضيع المتعلقة بفن الحرب في مجالاته السوقية (الإستراتيجية) والعملياتية والتعبوية (التكتيكية)،
ويمكن وصف النظرية العسكرية بأنها تحليل شامل لجميع جوانب الحرب، وأنماطِها والعلاقات المتبادلة بين مكوناتها أو عناصِرها المختلفة، كما إنها تجسد العلاقات السياسية والإقتصادية والإجتماعية داخل المجتمع وفيما بين المجتمعات المختلفة، تلك العلاقات التي قد تخلق صراعا وتؤدي إلى الحرب. والنظرية العسكرية السليمة تشرح كيفية خوض وكسب الحرب، وقد تشمل أيضا إستخدام القوة لمنع إندلاع الحرب. كما تتباين النظريات العسكرية وفقا للغرض منها ونطاقها، فالنظريات العامة للحرب تتعامل مع مختلف الحروب كنموذج واحد بغض النظر عن الغرض من الحرب أو حجمها، بينما هناك نظريات عسكرية تركز على أنواع محددة من الأعمال العدائية وإستخدام القوة العسكرية في مواجهتها كالتمرد، ومكافحة التمرد، ومكافحة الإرهاب، ودعم السياسة الخارجية، وعمليات السلام، ونظريات كل من الحرب البرية والبحرية والجوية التي تهدف إلى شرح طبيعة وصفة وخصائص الحرب، في كل وسط مادي من الأوساط المذكورة.
وهكذا نجد أن لكل قسم من أقسام فن الحرب الثلاث السوق (الإسراتيجية) وفن العمليات والتعبية (التكتيك) نظرياته العسكرية الخاصة ، التي تطورت عبر التاريخ.
إن نظريات فن الحرب تساهم في التطور التاريخي للقوات المسلحة، وطرق إدارة الحرب، خاصة المسائل، التي أحدثت تغيراً جذرياً في التنظيم والتسليح، أو الفكر العسكري. كما إن تاريخ فن الحرب يكشف النقاب عن الجديد الذي سيصبح موضع تجربة في المستقبل، والحكم على صلاحيته ووضع تصور عن التطور المنتظر لهذا الجديد. ومن غايات دراسة تاريخ فن الحرب، دراسة تطور النظريات العسكرية وأهميتها. فالنظرية العسكرية الحديثة تُستمد من تاريخ الحروب، الذي يحتوي على خبرات قتالية سابقة، وتاريخ نظم التسليح، وفكر عسكري يشمل النظريات العسكرية، التي طبقت عبر التاريخ. وعندما تُطرح النظرية العسكرية الحديثة، فإنها تمر بمراحل إختبار عملية، ودراسة تحليلية لتطبيقها، من خلال إستراتيجية عسكرية، ونموذج عملياتي أو تعبوي ضمن إطار العقيدة العسكرية، وما تفرضه أو تتطلبه من تطوير في القوات المسلحة من حيث التسليح أو البناء التنظيمي.
أما المذهب العسكري فهناك إختلافات في تعريفه ومفهومه ، والسبب متأتي من الترجمة من الإنكليزية إلى العربية، لأن مصطلح العقيدة العسكرية ( Military Doctrine) تُرجم إلى عقيدة عسكرية في بعض الأحيان، وتُرجم في أحيان أخرى إلى مذهب عسكري، وهكذا أصبح القارئ والباحث يجد نفسه في حيرة بين هذين المصطلحين .. وحتى لا نضيع بين معنى المذهب والعقيدة من خلال ما نقرأه، نجد أن مصطلح مذهب في اللغة العربية يعني مجموعة من الآراء والنظريات العلمية والفلسفية ارتبط بعضها ببعض ارتباطاً يجعلها وحدة منسقة.. والمذهب في اللغة والجمع: مَذَاهِبُ: طريقة، قصد، رأي، وجهة نظر ، والمذهب هو جزء من العقيدة، وفي اللغة الإنكليزية أُستُخدِمَ مصطلح (Doctrine) الذي ورد معناه في قاموس اللغة الإنكليزية (المذهب) ويعني : اعتقاد أو مجموعة من المعتقدات وخاصة السياسية منها أو الدينية ، التي يتم تدريسها وقبولها من قبل مجموعة معينة.
لذلك نقول بأن المذهب العسكري، من وجهة نظرنا، هو غير العقيدة العسكرية، كما سبق ذكره، حيث يصبح المذهب العسكري بمثابة الطريقة أو الأسلوب الذي تقاتل بموجبه القوات المسلحة بصنوفها المختلفة في الحرب في مختلف الظروف والأحوال، إستنادا إلى العقيدة العسكرية، لذلك يصبح المذهب العسكري بمثابة العقيدة القتالية (كيف نقاتل)
إما العقيدة العسكرية فهناك العديد من المفاهيم والتعريفات لها، أتفقت أغلبها بالمفهوم ولكنها تباينت في المضمون، بسبب إختلاف وجهات النظر والمصادر المعتمدة، ولكني بعد دراسة للعديد من تلك الأراء وجدت أن المفهوم المناسب للعقيدة العسكرية هو: أن العقيدة العسكرية هي مجموعة وجهات النظر والأفكار العلمية والفلسفية والنظرية التي تتبناها الدولة للتعبير عن فكرها وأهدافها السياسية ووجهة نظرها في كل ما له علاقة بفلسفة الحرب وبالحرب التي يحتمل أن تخوضها، وهي معبرة عن النظرة المستقبلية لما ينبغي أن يكون عليه أمنها الوطني، وهي تحدد بشكل واضح كل ما يتعلق بأعداد الدولة للحرب، وترسم الصورة العامة لما ينبغي أن تكون عليه الإستراتيجية العسكرية خصوصا في مجالات بناء القوات المسلحة وإستخدامها. كما تحدد المبادئ العامة للعقيدة القتالية في جانبيها العملياتي والتعبوي (التكتيكي). إ نها التعبير العملي للفكر والأهداف السياسية للدولة في المجال العسكري.
هنالك علاقة وترابط وثيق بين النظرية العسكرية والمذهب العسكري والعقيدة العسكرية.
فالمذهب العسكري يتغير بتغير النظريات العسكرية وطرق وأساليب القتال ويتغير بتغير السلاح وخواصه وقابلياته، وكثافة المعدات والتشكيلات، وطبيعة الأرض، وطبيعة التهديد، ومدى القدرة على إدامة المجهود القتالي، وغير ذلك من الأمور التي يجب على المذهب العسكري العمل في بيئاتها المختلفة، أي أن المذهب العسكري مُطالبٌ بالعمل في منطقة تقع بين عقيدة عسكرية وبين طبائع وبيئات مادية.
والعقيدة العسكرية تمد المذهب العسكري بمشروعية الطريقة التي ستستخدم في تنفيذ العمليات وصولا إلى إنجاز المهام شاملة الأهداف والنتائج تاركة السلوك الحربي محكوما بين تلك الأهداف والمبررات الدافعة وتلك النتائج الناشئة عن الحرب. إنها تجعل من الحرب إما عملا مشروعا أو غير مشروع، فهي تقوم مقام الإيديولوجية السياسية أو الجانب العسكري منها في بعض الدول، وهي تضبط أهداف ونتائج القتال وتجيز قوانين الإشتباك، وتربط ذلك بقيم دينية وإنسانية وأيديولوجية، وهي تضمن عدم الدخول في مشروع قتالي (حرب)، ولو كان مبرراً ومشروعا ما لم تصل تلك الدولة إلى قدر من التكافؤ في القدرات القتالية مع العدو، لضمان تحقيق الأهداف.
إذاً العقيدة العسكرية هي التي تحدد للمذهب العسكري (العقيدة القتالية) المشروعية وتمنحه الصفة الأخلاقية والإنسانية، بدءاً بالاستعدادات وبناء القوات والتدريب وانتهاءً بالعمل القتالي نفسه ونتائجه الناجمة عنه أو العمل غير المشروع وما يترتب عليه من نتائج سلبية. وبناءً على ذلك، فإن العقيدة العسكرية، وبسبب موقعها ومفهومها الذي يترجم وجهة نظر الدولة السياسية /العسكرية في الحرب، تكون هي القادرة على الإجابة على سؤالين هما ..(لماذا نحارب) و(متى نحارب) ، أما المذهب العسكري (العقيدة القتالية) فعليه الإجابة على السؤال المهم وهو (كيف نقاتل أو كيف نحارب ). هذا الجواب يكون من خلال تطبيق نظريات عسكرية في ميادين المعركة سواء على المستوى السوقي (الإستراتيجي) أو العملياتي أو التعبوي (التكتيكي). والنظرية هي التي ترسم للمذهب طريقة أو أسلوب تطبيق تلك النظرية، لذلك يمكن القول بأن المذهب العسكري هو النظرية في التطبيق، والمذهب العسكري يمثل العقيدة القتالية بنفس الوقت التي هي تطبيق للنظريات العسكرية في القتال (النظرية في التطبيق)، وهو بمثابة دليل عمل، لذلك يمكن القول مذهب عسكري أو عقيدة قتالية ..هذا المذهب أو العقيدة القتالية أضافة لذلك يوفر إطارا مرجعيا للقوات المسلحة، في كل ماله علاقة بالحرب المشتركة وهو يساعد على توحيد العمليات المشتركة وغير المشتركة ، وتسهيل تنفيذها .
يمثل المذهب العسكري في الأساس الخطوط الرئيسية والعملية لتقديم إطار عمل قياسي موحّد داخل المؤسسة العسكرية الواحدة ، والتي تساعد على إتمام المهام المختلفة أكثر من كونها مجرّد قوانين ونظريات جامدة ، كما يعمل المذهب العسكري على الربط بين النظريات والتاريخ والتجارب والخبرات العملية ، كما يهدف لتعزيز التفكير الإبداعي والإبتكاري داخل المؤسسة العسكرية لإيجاد حلول غير نمطية (من قبل القادة الناجحين)، في مواجهة المواقف القتالية المتعددة، علاوة على إمداد المؤسسات العسكرية بأساليب وسياقات عمل ثابتة وواضحة تمكنهم من تنفيذ عقيدة القتال (المذهب القتالي) بصورة دقيقة، بما يمَّكن قيام القوات المسلحة بتنفيذ العمليات المختلفة ووضع القواعد المحددة التي يستخدمها القادة العسكريين وواضعي الخطط القتالية أثناء إدارتهم للمعارك. وحتى تكون الصورة متكاملة قمت بعرض التطورات التي حصلت على النظريات العسكرية ضمن اطار فن الحرب عبر المراحل التاريخية القديمة (قبل الميلاد) وما بعده وصولا إلى القرن العشرين وما حصل خلاله وما بعده، وختمت الكتاب بفصل تناولت فيه حرب الجيل الرابع التي عشناها ولا زلنا نعيش أجواءها وظروفها، حتى يكون القارئ أمام صورة بانورامية عن تطورات النظريات العسكرية عبر كافة المراحل التاريخية.
قمت بترتيب الكتاب بثمان فصول: الفصل الأول بعنوان النظرية العسكرية تناولت فيه تعريف النظرية العسكرية وتطورها تاريخيا وأهميتها، أما الفصل الثاني فتضمن المذهب العسكري والعقيدة العسكرية تناولت فيه تعريف ومفهوم المذهب العسكري وعلاقته بالنظرية العسكرية والعقيدة العسكرية كما تناولت تعريف العقيدة العسكرية وعلاقتها بالمذهب العسكري، والعلاقة بينها وفن الحرب والاستراتيجية والعوامل المؤثرة على بنائها، مع بيان نماذج من العقائد العسكرية. أما الفصول (3 -7) فقد تناولت فيها تطور نظريات فن الحرب بدءاُ من العصور القديمة وحتى عصرنا الراهن مع عرض لبعض المعارك المهمة، مركزا على أهم الدروس التي ظهرت خلالها. وختمت الكتاب بالفصل الثامن وهو بعنوان حرب الجيل الرابع الذي وجدته مهما جدا خصوصا لمنطقتنا العربية التي عاشت ولاتزال في أجواء هذه الحرب. ختاما أمل أن يسد هذا الكتاب جزء من متطلبات المكتبة العربية ومن الله التوفيق.
الفريق الركن د. محمد عبد القادر الداغستاني
765 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع