من تاريخ الدبلوماسية والدبلوماسيين في العراق خواطر وذكريات عن الدبلوماسية سهى الطريحي
كنتُ قد كتبت مقالا في صحيفة المشرق العدد 1536 في 2009\6\4 بعنوان (ذكريات مذكرات محمد حسن الطريحي) تناولت فيه علاقتي مع العميد المتقاعد محمد حسن الطريحي والد سهى واسيا في سنواته الاخيرة بعد ان بلغ الثمانين من عمره حيث كنت التقيه في نادي العلوية يوم كنا نحضر ندوات الدكتور الشهيد الحارث عبد الحميد ومحاضراته عن الباراسايكولوجي (علم الخارقية) كما يسميه المرحوم علي الوردي حيث كان الطريحي يتمتع بقدرة خارقية في التنبؤ والتخاطر. وكذلك يحمل خزينا هائلا بدأ يظهر عليه بعد هروبه واختبائه في سرداب في النجف لاشهر لا يرى فيها نور الشمس الا يوما واحدا في الشهر يوم كان صديقه صاحب الدار يرسل عائلته الى كربلاء ليخرج الطريحي الى صحن الدار وليرى نور الشمس ويغتسل في الشهر مرة واحدة وكان يأكل التمر والجوز والخبز فقط. ومن ثم هروبه الى ايران والعيش في خانات الصوفية والنساك والمنقطعين عن الدنيا وهمومها. وكذلك رحلاته الى الهند والاختلاط مع البوذيين والهندوس الذين يؤمنون بمراحل التناسخ. وكان يقول لي انه يتمنى الموت حتى يتحرر نهائيا من الجسد ويتحد مع المطلق والملكوت. وانه انهى حياته السادسة.. فكنت اقول له كيف تعرف انك تعيش المرحلة السادسة والانسان عندما يموت يبلى جسده السابق ويصبح ترابا فكان يجيب ان الروح عندما تتقمص الجسد الجديد تطبع هذه الروح على كف اليد الخطوط بعدد مرات الحيوات السابقة وهذا ما كان يشرحه له الهنود من خلال قراءتهم لخطوط الكف. وكان يشرح لي سر الاهرامات التي بنيت للفراعنة وما تحويه من اسرار وهندسة يعجز الفكر الانساني الحالي عن حل طلاسمها لان الفراعنة كانوا يؤمنون بالبعث ولذا حرص الملوك ان يأخذوا معهم في الهرم الزوجة والخدم والذهب حتى يبعثوا ملوكا وليس سوقه كباقي الناس.. وهكذا ورثت سهى عن ابيها هذا الخزين الكبير من المعرفة والتجربة اضافة لكونه متحررا من التقاليد البالية وكان عضوا بارزا ومؤسسا لجماعة الاهالي والوطن الديمقراطي يوم كان (كامل الجادرجي) عضوا في حزب الاخاء مع ياسين الهاشمي.. الرفيعي وعبدالفتاح ابراهيم كانا من دعاة الاشتراكية ومن المؤسسين للحزب وهكذا اورث الاب بناته سهى واسيا كل الافكار التي يؤمن بها اضافة لذلك اتاح لهم الحرية لانه اتخذهم اصدقاء له وكان يمدهم بالكتب وله مكتبة عامرة وهكذا وجدت سهى نفسها في عالم الافكار والكتب حتى ان زملاءها كانوا يسمونها (ارضه الكتب) لم يبق كتاب الا وتناولته عرفت كرشنا وكافور وغاندي ونهرو.. بعد احالة الطريحي الوالد على التقاعد عاد الى الحياة المدنية واشتغل بالصناعة وانشأ مصنع الكوكاكولا ومصنع الصمون الذي استورده من المانيا وقام بالمقاولات وبناء الدور وفتح الله عليه الرزق وكان شعاره (اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب).. بنى دارا واسعة في منطقة 52 ضمت حديقة كبيرة غناء وحوض سباحة وهو ثاني حوض سباحة في بغداد حيث كان الاول في بيت (نوري فتاح باشا) وكان يؤم المسبح الجيران من النسوة والفتيات يسبحن في بيتهم ويتعلمن السباحة. التحقت سهى الطريحي بالثانوية الشرقية وزاملت من الصديقات (منى الخضيري وحياة شرارة ابنة محمد شرارة وشقيقة بلقيس شرارة الذي تزوجها رفعت الجادرجي وثمينة ناجي التي تزوجها سلام عادل وحياة النهر) جلب الطريحي الى البيت ماكنة وشاشة سينما وكان يعرض فيها افلام شارلي شابلن ولوريل وهاردي في حين كانت الام تتوسع في قبولاتها وكذلك الاب له قبولاته الخاصة اليومية.. ممن كان للسباحة في بيتها بنات احمد الراوي وبلقيس الراوي التي تزوجها الشاعر السوري نزار قباني والتي ذهبت ضحية تفجير ارهابي في بيروت. درست سهى 3 سنوات في كلية بيروت للبنات وكانت طالبة مشاكسة لكنها مثقفة ولعلها تفوق بعض اساتذتها.. ردت يوم على مدرس التاريخ الذي قال ان ضرب اليابان بالقنبلة الذرية هو الذي انهى الحرب. فقالت له سهى لكنها فتحت الباب لحرب عالمية قادمة قد تدمر وتنهي البشرية اذ سينتشر هذا السلاح بين الدول. انشق الصف ما بين مؤيد للرأي الذي طرحته سهى وبين مؤيد للمدرس مما حدى بالمدرس ان يرسب سهى في مادة التاريخ. وقبلها كانت سهى قد عارضت قيام الطالبات بزيارة سفن الاسطول السادس الامريكي الراسية في الشواطئ اللبنانية حيث قامت ادارة الكلية بتدبير هذه الزيارة بدفع من المديرة (مس مورلاند) مما اثار هذه المديرة على سهى واصطفت مع مدرس التاريخ من اجل ترسيب سهى لمواقفها المناوئة في الكلية وهكذا تركت سهى بيروت لتسافر مع والدها الى مصر لتكملة الدراسة فيها وبتوجيه من نقيب المحامين العرب الاستاذ المصري محمد فؤاد جلال صديق الوالد واحد معارف صديق شنشل. تم قبولها بعد ان تم نصحها بان تسجل في جامعة القاهرة الامريكية يوم كان عميدها (بطرس غالي) الذي اصبح امينا عاما للامم المتحدة.. لكن (المس المورلاند) بعد ان علمت بقبولها تبعتها الى القاهرة واخبرت ادارة الجامعة بان سهى شيوعية وانها تقرأ للكاتب (كراهام كرين) كتابه الامريكي البشع الذي يندد فيه بالامبريالية الامريكية.. لكن مساعيها باءت بالفشل بالرغم من اعتمادها على المكارثية السائدة في ذلك الحين. بعدها التحقت بكلية الاداب جامعة بغداد ودرست على يد الدكتور مهدي المخزومي وناجي معروف والدكتور شاكر مصطفى سليم والدكتور علي الوردي الذي كان يسميها الخنساء. وزاملت وصادقت من الطلبة اليسار واليمين شيوعيين وقوميين اضافة لوجود نزار عباس والشيوعي رشدي العامل والبعثي عبد الجبار محسن.. في هذه الفترة رافقت وفد الشبيبة العالمي وترجمت لهم عند مقابلتهم الزعيم لانها تكتب وتتكلم اللغة الانكليزية بطلاقة قدموا لها الهداية ومداليات تحمل صور لينين وحمامات السلام.. دخلت نادي العلوية بعد فتح باب العضوية للعراقيين ردت على احد الانكليز بعد ان قال: ان النادي اصبح اسطبلا وكان ان منع من الهيئة الادارية فردت عليه سهى: ان استعماركم حول النادي الى حظيرة.. عام 1959 تم تعيينها في وزارة الخارجية في زمن الوزير هاشم جواد. عملت مديرا لقسم المساعدات الفنية.. في نهاية عام 61 نقل هاشم جواد عددا من موظفات الخارجية الى السلك الخارجي مثل السيدة فيحاء كمال الى نيويورك وسمية الزهاوي الى بون وسرية الخوجة اول سفيرة عراقية وعربية في واشنطن ونقل السيدة بديعة افنان زوجة حسين افنان مستشار الملك فيصل الاول الى جنيف.. وكان هدف الوزير هاشم هو اظهار وجه العراق الحضاري وكان هاشم من اشد انصار المرأة كزعيمه عبدالكريم قاسم. يوما وجد الوزير سهى تقرأ لكاتب شيوعي عالمي فقال لها هل انت شيوعية؟ فأجابت عفوا انا مثلك ومثل والدي لا ننتمي لكني اشتراكية التطلعات فهذا لا يعني انني شيوعية. حتى انت اتهموك في العهد الملكي بالشيوعية وضحك الوزير هاشم جواد من صراحتها وجرأتها. اواسط عام 1961 تم نقلها الى جنيف التي فتح فيها ممثلية برئاسة ابراهيم الولي.. ارسل لها والدها سيارة مرسيدس من المانيا الى جنيف مما اثار حسد وغيرة الاخرين لان سيارتها احدث من سيارة الممثل الدائم والقنصل ايضا.. حضرت جميع اجتماعات الامم المتحدة وكانت هذه اول تجربة دبلوماسية في الخارج. وكانت تحضر جلسات منظمة العمل الدولية واليونسكو فرع جنيف.. استلم الزعيم وزارة الخارجية بعد غياب وزيرها هاشم جواد لمدة شهر حيث اصدر الزعيم قائمة تضم عددا من الدبلماسيين واحالتهم على التقاعد وكان من ضمن المحالين (عدنان الباجة جي وكاظم الخلف) استشاط هاشم جواد غضبا على هذا الاجراء وحلف بانه سوف لا يعود الى العراق ما لم يلغ الزعيم هذه الاحالات وكان له ما اراد وكان جواد معروفا بعصبيته ومواقفه الثابتة.. في مؤتمر التعاون والتجارة للامم المتحدة (الانكتاد) حضرت ممثلة اسرائيل هذا المؤتمر لكن سهى طالبت من الوفود اخراجها لانها ليست من المجموعة الاسيوية واصرت على اخراجها ونجحت في مسعاها برغم توسلات وفود امريكا اللاتينية.. قبل حرب الخليج دونت سهى اخر مقابلة للسفيرة الامريكية كلاسبي في تموز 1990 حيث سلمت كلاسبي (نزار حمدون) برقية قبل تمتعها بالاجازة جاء فيها (ان خلافكم مع الكويت هي قضية داخلية بين العرب وما يهمنا هو النفط) قبل تسليم البرقية الى رئاسة الديوان اي الى صدام قالت سهى لنزار حمدون ما يهمهم هو تدفق النفط وهم مستعدون لخوض الحرب من اجل ذلك.. بعد يومين تم استدعاء كلاسبي الى وزارة الخارجية وقالت لها سهى (ان السيد الرئيس صدام يود مقابلتك) فأعطتها قلما ودفتر ملاحظات حيث كانت كلاسبي مرتبكة قليلا بالرغم من تظاهرها بالهدوء وقالت لسهى (انك ترعبينني مثل مربيتي عندما كنت صغيرة ثم قالت ان الدبلوماسي الجيد يحتفظ بدفتر الملاحظات في عقله ليسجل كل شيء).. في اليوم التالي عادت كلاسبي لتودع السيد نزار حمدون للتمتع بالاجازة وقالت: (كل شيء لوزارة الخارجية والبيت الابيض متمنية ان اراكم على ما يرام بعد عودتني) وهكذا قامت قيامة الحرب ولم تعد كلاسبي ولتعيد الولايات المتحدة العراق الى عصر الظلام كما هددت ان لم ينسحب صدام من الكويت لم تعد كلاسبي بعد ذلك ولم يعد هناك عراق لصدام حسين..
المشرق /صلاح الدين سلمان
568 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع