الحياة/عبدالحميد صبحي ناصف:أثارت العمارة والفنون الإسلامية في الدول العربية اهتمام الرحالة الأوربيين منذ قرنين، غير أن الدراسات المنظمة للآثار العربية بدأت في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، وكان في طليعة القائمين بهذه الدراسات:
«هنري تيراس، و (ك. أ. س) كريزويل، و (م. س) ديماند، وجستون فيت، وجان سوفاجيه، وليفي بروفنسال»، وغيرهم من المستشرقين الذين يرجع الفضل إليهم في البحث عن الآثار العربية الإسلامية ووضع مناهج دراستها، وتحديد أصولها وتاريخها، ودراسة خصائصها، وقد حمل العلماء الأجانب عبء الكشف عن آثار كانت مندثرة بل والتدخل لدى الهيئات المسؤولة في حكومات الدول العربية للعمل على حفظ الآثار.
ومما سبق يتضح لنا دور المستشرقين العظيم في حفظ الآثار وبقاءها حتى يومنا هذا كما قال العالم الجليل أحمد فكري حول ذلك الدور:
«وأرى من واجبي أن أقر بأفضال العلماء الأجانب والمستشرقين وأن أسجل مرة أخرى ما نشرته منذ خمس وعشرين سنة من أنهم أغلونا بدين كأنه قلادة في عنقنا» مآخذ على بحوث المستشرقين في دراسة الآثار العربية الإسلامية وقد كانت دراسات المستشرقين والعلماء في مجال الآثار الإسلامية تقتصر أول الأمر على وصف الآثار وتحقيق تاريخها، ونشر صور موضحة لها ورسوم تخطيطية توضحها، ثم بدأت حملة البحث والاستقصاء عن المصادر الفنية لتلك الآثار وأصولها، والواقع أن ماكس فان برشم أول من اتجه إلى هذا، وهو الذي نشر مقالين في سنة 1891م عنوانهما « مذكرات في الآثار العربية « ثم جاء جاييه فنشر كتاباً في سنة 1893 بعنوان: «الفن العربي».
وقد صرف العلماء جهوداً مضنية في دراسة المصادر وجرتهم هذه البحوث إلى دراسات مقارنة لعناصر العمارة والزخرفة في الفنون السابقة للإسلام، وخاصة الفنون الساسانية والهللينية والهندية والرومانية والبيزنطية والقبطية ولهذه الدراسات أهمية قصوى.
وعلى رغم الاعتراف بفضل ودور هؤلاء المستشرقين إلا أننا نجد أن كثير من بحوثهم قد حوت العديد من الأخطاء والمغالطات، ولعل ذلك يرجع إلى:
1- جهل أصحابها باللغة العربية أو عدم إتقانها.
2- وعدم إدراكهم بأصول الشريعة الإسلامية وأحكامها.
3- كما أن بعض البحوث قد طبع بطابع التحيز، مما يثير الشك حولها ويوصمها على الأقل بعدم التزام المنهج العلمي القائم على الحياد.
- المأخذ الأول: إنكار أي فضل للعرب في إقامة مبانيهم وتشكيل فنونهم (نظرية الفراغ العربي):
وقد طغى في العديد من أبحاث المستشرقين عقيدة راسخة هي إنكار أي فضل للعرب في إقامة مبانيهم وتشكيل فنونهم، ولعل أكثر الأمثلة غرابة في هذا الاتجاه ما سجله كريزويل عن بناء قبة الصخرة وزخارفها، إذ أنه قسم عناصرها إلى نسب مئوية وادعى أنها: (22 في المئة من المصادر الرومانية، و22 في المئة من المصادر البيزنطية، و55 في المئة من المصادر السورية المسيحية) ويبقى 1 في المئة لم يحدده العالم الأثري.
ويلاحظ أن الذي شجع هؤلاء العلماء على إنكار فضل العرب ما ذكره ابن خلدون في مقدمته أن العرب كانوا أبعد الناس عن الصنائع، وأنهم كانوا لا يجيدون صناعة البناء، وأن دولتهم كانت بدوية في أول أمرها يفتقر أمر البناء إلى غير قطرها وأنهم لذلك استعانوا بالفعلة المهرة في إقامة عمارتهم وتشكيل فنونهم، وقد استند هؤلاء العلماء إلى آراء ابن خلدون دون تمحيص علمي لها ولقيمتها التاريخية، كما أنهم لم يعيروا أهمية لمدلول « لفظ العرب « في مقدمته، وهم «العرب البدو».
ولقد تسلطت على علماء الآثار من المستشرقين نظرية تجريد العرب من كل فضل في عمارتهم وفنونهم، حتى أنهم اتفقوا على إسقاط صفة العروبة عنها، واستبدلوا بها صفة الإسلام، وأصبح الفن العربي عندهم تعبيراً خاطئاً صحته الفن الإسلامي، وادعى بعضهم أن بلاد العرب كانت تمثل فراغاً معمارياً قبل الإسلام، وأن العرب أنفسهم لم يجلبوا شيئاً معمارياً أو فنيا قط إلى البلاد التي فتحوها بعد الإسلام ؛ إذ يؤكد كريزويل مثلاً: أن الذي بني الكعبة قبل الإسلام بناء حبشي اسمه باقوم، وأن طريقة بنائها نقلت نقلاً عن الحبشة، أما بعد الإسلام فقد بني عبد الله بن الزبير الكعبة من جديد في سنة (65هـ / 684م) ولكنه فضل في تلك المرة - كما يدعى كريزويل- أن يستخدم عمالاً من الفرس، وحينئذ لم تكن تستخدم الحجارة في البناء في بلاد الفرس، ولم يفسر كريزويل كيف أن هؤلاء العمال الفرس تعلموا البناء بالحجارة في حين ظل العرب بعد الإسلام يعرضون كما يدعى عن تعلمها.
- المأخذ الثاني: الانحراف عن الأسلوب العلمي والمغالاة أحياناً أو باتخاذ الاستثناء قاعدة عامة:
ومما يؤخذ على بحوث المستشرقين كذلك تمسك الكثير منهم بنظرية «الفراغ العربي» وإنكار أي أثر للعروبة في العمارة والفنون الإسلامية، وقد دفع هذا الإمعان في التنكر للعروبة بعضاً منهم إلى الانحراف كثيراً عن الأسلوب العلمي والمغالاة أحياناً، أو باتخاذ الاستثناء قاعدة عامة، ومن ذلك، ما ادعاه بعضهم من أن العرب لم ينشئوا المساجد في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) كما أنهم اتخذوا الكنائس في أول الأمر لإقامة شعائرهم، أو اقتسموها مع المسيحيين ويستند هؤلاء المستشرقون في ذلك على رواية بعض المؤرخين العرب، وقد قام العالم الجليل أحمد فكري بالرد عليهم بـ:
1- أن هؤلاء المؤرخين لم يشيروا لغير ثلاث أو أربع كنائس اقتسمها المسلمون مع المسيحيين لفترة قصيرة، فقد أشار «المقدسي» إلى أول هذه الكنائس في «حمص»، وأشار «البلاذري» إلى الكنيسة الثانية وكانت في «حلب» وذكر أن المسلمين اتخذوا نصفها جامعاً، وكذلك أشار «ابن عذارى المراكشي» إلى الكنيسة الثالثة وهي كنيسة « قرطبة».
2- وأضاف فكري قائلاً بأنه لو صحت هذه الروايات فهي لا تدل على قاعدة عامة، وإنما تشير إلى حالات استثنائية ضئيلة جداً بالنسبة للمئات من المساجد التي أقيمت في القرن الأول وحده من الهجرة، ولكن بعض المستشرقين جعل من هذه الروايات مبدأ عاماً، ومن خلال حفائر مسجد قرطبة اتضح بما لا يدع مجالاً للشك وبالبرهان القاطع أن نظام هذا المسجد لا يرتبط في شيء قط بنظام الكنيسة التي كانت موضعه ؛ مما اضطر أحد المستشرقين أن يعترف بأن: قصة تحويل كنيسة قرطبة إلى مسجد لا تعدو أن تكون أسطورة، طاب لبعض الرواة ذكرها، تشبهاً بأسطورة كنيسة دمشق على عهد خالد بن الوليد «.
- المأخذ الثالث: أن اشتراك العمال المسيحيين في أعمال البناء العربية وزخرفتها بمثابة قاعدة ثابتة:
وقد جعل بعض علماء الآثار الإسلامية من المستشرفين أن اشتراك العمال المسيحيين في أعمال البناء العربية وزخرفتها قاعدة عامة، ولم تكن في الحقيقة التاريخية سوى استثناء ومن ذلك: ما ذكره كريزويل من أنه: «كان يعمل في زخرفة قصر الطوبة أربع جماعات من العمال؛ منهم جماعتان من القبط كانوا متأثرين بالفن الفارسي»، ولم يستطع كريزويل أن يحدد موطن الجماعتين الأخريين، ويقول أن السبب في ذلك هو الطابع الإيراني الذي يبدو على أعمالها، ولكنه يفترض إن إحدى هاتين الجماعتين كانت فارسية، والأخرى عراقية، وإذا افترضنا هذا بدا لنا ذلك القصر مجرداً من عروبته وكأنه مزيج غريب وخليط عجيب.
- المأخذ الرابع: مغالاة بعض المستشرقين في تشويه الحقائق:
وقد ظل العرب في رأي كثير من علماء الآثار المستشرقين جهلة طوال القرون لم يتعلموا «صناعة البناء»؛ ولهذا نرى بعضهم يضطرب حين تعرض عليه عناصر جديدة من هذه الصناعة لم يكن لها شبيه أو نظير فيما سبق قبل الإسلام، ومن أمثلة ذلك:
ما قيل عن عقود جامع قرطبة المزدوجة، وهى عقود فريدة في تاريخ العمارة الإسلامية، لم يعرف لها نظير قبل بنائها في سنة (169هـ / 785م)، ولكن جورج مارسيه- حجة العلماء في الآثار الإسلامية بالمغرب والأندلس قد عز عليه أن تكون هذه العقود ابتكاراً عربياً، فادعى أنها اقتبست من قناطر مريدا (مارده) والمعروفة بجسر المعجزات (لوس ميلاجروس) ونشر رسماً يؤيد ادعاءه هذا، ولكن فكري أثبت أنه رسم مصطنع، كبرت فيه عقود قرطبة وضخمت بحيث تبدو في الرسم نظيرة وشبيهة لعقود القنطرة العتيقة، أما الحقيقة فهي غير ذلك لما يلي:
1- الحقيقة أنه لا مجال للشبه والصلة بين عقود قناطر مارده وبين عقود جامع قرطبة، وهو ما يتضح للعين من خلال المقارنة بين تخطيطهما الحقيقي.
2- أن العقود المزدوجة في مسجد قرطبة تؤدي وظائف محدودة لا توحي العقود الضخمة في قنطرة مارده بها.
3- كما أن عقود قرطبة المزدوجة تمثل تطوراً منطقياً للعقود الهندسية العربية؛ ومن ثم فهي «ابتكار فريد في تاريخ العمارة»، وقد أثبت السيد عبد العزيز سالم صحة رأي فكري قائلاً: «إن العقود القرطبية أصيلة مبتكرة، وعلى هذا الأساس لا يصلح أن نقارن بين عقود جامع قرطبة وعقود جسر المعجزات بمارده وذلك لعدة أسباب وهي:
1- اختلاف وظيفة كل من البنائين من جهة.
2- اختلاف طريقة الأداء من جهة ثانية.
3- اختلاف الأحجام والنسب بينهما من جهة ثالثة.
4- اختلاف لظروف لزمنية التي أقيم فيها كل منهما من جهة رابعة، وهكذا فالمقارنة على هذا النحو تعد تعمداً واضحاً لتجريد جامع قرطبة من مظاهر الأصالة والابتكار به.
وقد دفعت المغالاة من جهة أخرى فريقاً آخر من المستشرقين إلى تشويه الحقائق، ومن أمثلة ذلك ما فعله ديولافوا والذي أراد أن يقدم بالبرهان أن تخطيط المسجد صورة منقولة من تخطيط الكنائس، فنشر رسماً مقتطعاً من مسجد قرطبة يبدو فيه التخطيط الخاص به كأنه رسم تخطيطي لكنيسة، ومن ينظر لأول وهلة إلى الرسمين يخيل إليه أن المسجد منقول من الكنيسة، ولكن أحمد فكري يستمر في استخدام الأسلوب والمنهج العلمي الدقيق والمباشر لكشف الحقائق، فقد أثبت بالبرهان أن رسم ديولافوا رسماً مشوهاً أو رسماً مضللاً لمسجد قرطبة، وهو في الواقع قصاصة لجزء من الزيادة التي أضيفت إلى المسجد الأول بعد مائتي سنة من تاريخ إنشائه، وهذه القصاصة نفسها التي اعتبرها ديولافوا مسجداً قائماً بذاته هي بمثابة جزء من 22 جزء من المسجد القائم بأكمله، ويبدو تضليل المستشرق (ديولافوا) واضحاً إذا قورن تخطيط الكنيسة بتخطيط مسجد قرطبة بأكمله وبمقياس رسم واحد.
- الأخذ الخامس: اتجاه بعض المستشرقين إلى التحيز والمغالطة والافتراء، والرد من خلال شهادة أحدهم:
ويستند بعض المستشرقين في طريقة معالجتهم للمصادر في أقوالهم إلى الافتراضات التي لا يستند إلى أساس علمي، بل وفي بعض الأحيان وصلوا إلى حد التحيز والمغالطة بل والافتراء، ومن ذلك افتراء كريزويل على المقريزي، فقد ذكر المقريزي في خططه «أن ثلاثة أخوة قدموا من الرها بنائين بنوا باب زويلة وباب النصر وباب الفتوح»، وعندما ترجم كريزويل النص إلى اللغة الإنكليزية أضاف إليه كلمة «مسيحيين»، وهذا بمثابة مثال صارخ للتحيز.
وقد أتى أحمد فكري ببرهان صادق على مزاعم المستشرقين فيقول:
«يخيل إلى القارئ لكتب المستشرقين في الفنون العربية الإسلامية أنه في حلقة سباق يجري فيها العمال تارة من الشرق، وتارة أخرى من الغرب أو من الشمال والجنوب، فلا يكاد يستقر في القاهرة حتى يقفز فيها من حي إلى حي فيلقى في كل منها نتفه من فنه ثم يختفي أو يفر عائداً إلى بلاده، أما العمال من أهل القطر العربي فإنه لا يستقر لهم قرار فنجدهم كأنهم يركبون البراق فيحملهم يوماً إلى بيزنطة، ويوماً إلى فارس أو إلى الهند أو إلى الأناضول، وكأنهم يلتقطون من كل بلد يهبطون فيه ما تصل إليه أيديهم من نافذة مخلوعة، أو عتبة منزوعة ثم يعودون لبلادهم»، ولقد أدى تحيز بعض علماء الآثار المستشرقين وتنكرهم للعروبة إلى اختلاف آرائهم وتناقضها، وفي ذلك نأتي برأي أحد هؤلاء المستشرقين وهو عالم بارز في مجال الآثار الإسلامية، ومن ثم فهو على نسق: «وشهد شاهد من أهلها»، وهو بريجز في كتابه «تراث الإسلام» إذ يقول: «إن أولئك الذين يجحدون فضل العرب في تاريخ العمارة يعتبرون أن العرب كانوا مجردين من أي تعبير فني، وأن مبانيهم أقيمت على أيدي العمال القبط أو البيزنطيين أو الفرس، وأن أقوى حجة ضد هؤلاء الكتاب هي أنهم لم يتفقوا إلا على تجريد العرب من كل فضل لهم، ولكنهم أنفسهم اختلفوا أشد الاختلاف في منابع هذا الإيحاء المشترك:
- وبينما يحدد جاييه هذا المنبع في «مصر القبطية»،
- يحدده ديولافوا في «بلاد فارس» و«شمال الجزيرة»،
- ويحدده هافل في «الهند»،
- و ريفويرا في «روما»،
وكل من هؤلاء مقتنع تماماً بسخافة آراء الآخرين».
621 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع