بعد 150 عاماً على رحيله ما زالت رواياته تقدم تحليلاً اجتماعياً لتركيبة بريطانيا الطبقية
"He was a sympathiser to the poor, the suffering, and the oppressed; and by his death, one of England's greatest writers is lost to the world".
"كان متعاطفاً مع الفقراء والمكروبين والمقهورين، وبوفاته فقد العالم أحد أعظم كتّاب إنجلترا".
هذه هي الكلمات التي نقشت على ضريح تشارلز ديكنز في "ركن الشعراء" في كنيسة ويستمنستر آبي في قلب لندن بعيد وفاته في مثل هذا اليوم (9 يونيو- حزيران) 1870. وهي كلمات تختزل بحق سيرة هذا الكاتب في جملتين لا يختلف اثنان حول مضامينهما.
طفولة بائسة
ولد تشارلز جون هافام ديكنز في 7 فبراير (شباط) 1812 في حي لاندبورت في ميناء بورتسموث في جنوب إنجلترا، ثاني ثمانية إخوة لأبيه جون ديكنز، الكاتب بصرافة مكتب البحرية في المدينة، ولأمه إليزابيث التي بنى عليها شخصية مهمة في كل من روايتيه "نيكولاس نِكولبي" و"ديفيد كوبرفيلد". وتنقل تشارلز مع أسرته إلى لندن ثم إلى تشاتام في مقاطعة كينت ومن ثم إلى لندن من جديد حيث أجبرها تراكم الديون وتعذّر العيش على السكن في حي كامدين تاون الفقير وقتها.
منزل تشارلز ديكنز الريفي (أرشيفية)
ومنعطف هائل
كما يقال فإن "مصائب قوم عند قوم فوائد". على أن المصائب هنا صغيرة لا ترقى حتى إلى مقام القياس بالفوائد، لأنها في الواقع فوائد الأسرة الإنسانية جمعاء وتراثها الأدبي. فقد أتى الصبي تشارلز، وهو في الثانية عشرة فقط من عمره، إلى منعطف غيّر مجرى حياته وصنع منه ذلك الكاتب المعتبر اليوم من أعمدة الرواية العالمية الرئيسية ولا يضاهيه في الأدب الإنجليزي أحد غير وليام شكسبير.
ملخص القصة هو أن المطاف انتهى بوالده – الذي لم يكن حصيفاً في إدارة المال وغارقاً إلى أذنيه في الديون – في السجن العام 1824. وفي غياب رب الأسرة قطعت والدة تشارلز دراسته كي يدعمها وإخوته مالياً بالعمل في مصنع متواضع لإنتاج الورنيش. وتركت هذه التجربة أثرها النفسي والاجتماعي في نفس الصبي لأنه تعلّم في هذا المصنع معنى الفقر والشدة وقسوة الحياة، وهي الينابيع التي استقى منها لاحقاً مواضيع رواياته، وجعلت منه الصوت المعبّر أكثر من غيره عن الوضع الاجتماعي في عصره.
بعد سنوات قليلة ورث والده قدراً لا بأس به من المال مكّنه من سداد ديونه والخروج من السجن، فعاد الابن إلى المدرسة وتوفر لديه الوقت لهوايته المفضلة وهي القراءة التي شملت ولوجه بشكل منتظم في عوالم "ألف ليلة وليلة" الساحرة. ثم نال ما يؤهله للالتحاق مرسالاً في مكتب محاماة، وكان في الوقت نفسه يدرس التدوين الاختزالي shorthand في مدرسة ليلية. ومكّنه هذا من العمل في 1830 مختزلاً في المحاكم بادئ ذي بدء ثم مراسلاً صحافياً في البرلمان.
في 1833 نشر تشارلز ديكنز أول أعماله القصصية القصيرة على صفحات مجلة "مونثلي مغازين". وفي 1836 تزوج كاثرين هوغارث، ابنة رئيس تحرير صحيفة "إيفنينغ كرونيكل" التي أنجبت له عشرة أبناء (قبل انفصالهما في 1858). وفي العام نفسه اتخذ اسمه المستعار لكتاباته الصحافية "بوز" Boz لينشر به أول كتبه Sketches by Boz (اسكتشات بقلم بوز) وهو مجموعة من القصص القصيرة.
صدمة "أوليفر تويست"
أصابت تلك المجموعة القصصية نجاحاً حدا بدار النشر اللندنية "تشابمان آند هول" إلى أن تطلب منه عملاً مسلسلاً، فخرج بروايته الأولى The Pickwick Papers التي نشرت شهرياً في 20 جزءاً من منتصف 1836 حتى نهاية 1837. وصارت هذه الرواية – وهي مغامرات عدد من الرجال في الريف الإنجليزي – إحدى الأشهر في عصرها والأكثر نجاحاً تجارياً بحيث أصدرتها الدار كتاباً مستقلاً.
أتاحت تجربة الرواية المسلسلة لديكنز ثلاثة أمور: الأول، أن يبتدع فن الـ cliffhanger (أن يختتم الكاتب الحلقة بموقف حرج يدفع القارئ إلى التشوق لمعرفة كيفية الخروج منه بقراءة الحلقة التالية). والثاني، أن يقيس رد الفعل على كل حلقة جديدة وأن يصوغ التالية بناءً على ذلك. والثالث والأهم أنه وجد في ذلك النجاح المدوي الدافع والمبرر ليتقاعد من مهنته الصحافية ذات الأجر المضمون وأن يتفرغ بالكامل للكتابة القصصية.
فاتخذ من الرواية مطيّة لانتقاد تركيبة مجتمعه الطبقية بشكل لاذع. وعلى سبيل المثال كانت روايته الثانية "أوليفر تويست" صادمة للقراء بسبب مستويات الفقر والجريمة والعنف التي صوّرتها. وقيل إنها حرمت المجتمع المخملي من التظاهر بأن بريطانيا الفيكتورية – عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وأكبر القوى الاقتصادية العظمى في العالم – فردوسٌ من الثراء خالٍ تماماً من تلك الأمراض، وأن النظام الطبقي إنما هو ناموس الحياة الطبيعي وإن كان الواقع يقول إن الطبقات العاملة كانت تعيش في بؤس وشقاء.
في حضن اليُسر
في هذا الوضع الجديد نشر ديكنز أربع روايات خلال ثلاث سنوات (أهمها "أوليفر تويست" (1839) و"نيكولاس نِكولبي" في العام نفسه) مسلسلة في المجلات أولاً ثم كتباً. ثم سافر إلى الولايات المتحدة فخرج بـ American Notes (مدوّنات أميركية) التي هاجم فيها العبودية وممارساتها على الرغم من حظرها رسمياً، وصارت الأساس لفصول في روايته "مارتن تشزلويت". وهي الرواية التي اتّبعها خمساً أخرى تدور في فلك أعياد الميلاد وأبرزها "A Christmas Carol" (1843). وبعد فترة قضاها في إيطاليا وسويسرا (44-1846) تنقّل من نجاح إلى آخر بأعمال أهمها "ديفيد كوبرفيلد" (1850) التي عكست أجزاء كثيرة منها سيرته الذاتية، و"أزمنة صعبة" (1854) و"قصة مدينتين" (1859) و"آمال عريضة" (1861).
ابتدع ديكنز أيضاً جلسات القراءة التي كان الجمهور يحضرها بتذاكر لدخولها، يقرأ فيها مقتطفات سواء من قصص منشورة أو أخرى يعمل عليها أو يلقي فيها محاضرات عن قناعاته بكيفية إقامة مجتمع العدل والمساواة.
وعسر في اليسر
مع نجاح منشوراته تجارياً انتقل الرجل الذي بدأ حياته بطفولة عسيرة إلى حال من اليسر مكنته في 1856 من شراء عزبة "غادس هيل بلايس" الفخمة في ريف مقاطعة كينت، وكان قد رآها في طفولته وظل يحلم بالسكن فيها منذ ذلك الوقت. ومع ذلك فلم يطب له العيش فيها دوماً إذ خمدت عاطفته تجاه زوجته كاثرين، بخاصة بعد علاقة أقامها مع ممثلة يافعة تدعى إيلين تيرمان. وعلى الرغم من أنه انفصل عن كاثرين بعد سنتين، لم يصل به الأمر إلى حد الزواج من صديقته الشابة.
لكن السنوات التالية شهدت تدهور صحته حتى أنه رفض في 1862 عرضاً لجولة قراءة عامة في أستراليا مقابل 10 آلاف جنيه (تعادل 100 ألف جنيه الآن). وفي إبريل (نيسان) 1869 أصيب بجلطة دماغية خفيفة تم إنقاذه منها. ومع ذلك فلم ينقطع عن التأليف والقراءة للجمهور حتى 8 يونيو (حزيران) 1870 عندما هاجمته السكتة الثانية بينما كان يعمل على روايته "إدوين درود". فنُقل إلى عزبته الريفية غادس هيل بلايس حيث لفظ أنفاسه الأخيرة صبيحة اليوم التالي.
وعلى الرغم مما أُشيع للناس وقتها من أنه أصيب بالسكتة في منزله اللندني، فقد مضى مؤرخون للقول إنها أصابته في شقة عشيقته إيلين تيرنان، وإنها وخدمها نقلوه إلى غادس هيل بلايس حتى لا يكتشف الجمهور أمر علاقتها الحميمة به. وعلى عكس رغبته في أن يُدفن في قبر رخيص في كاتدرائية روتشيستر في مقاطعة كينت قريباً من عزبته، فقد انتهى الأمر بجثمانه في "ركن الشعراء" بويستمنستر آبي في قلب لندن تقديراً لما قدمه من أجل إثراء فن الرواية الإنجليزية.
ديكنز في مواجهة شكسبير
من الطبيعي للمهتم بالتراث الأدبي العالمي أن يقارن بين ديكنز وشكسبير وحجم المساهمة التي قدمها كل منهما، كون الإثنين أشهر الأسماء على الإطلاق في الأدب المكتوب بالإنجليزية.
قبل كل شيء يتعيّن النظر إلى أن نحو 150 سنة تفصل بين ميلادَيّ هذين العبقريين وأن كلاً منهما عاش في عصر مختلف عن الآخر من حيث القيم الثقافية والاجتماعية والفنية. وعلى الرغم من أن كليهما قاصٌ فقد كانت عبقرية شكسبير تكمن في أنه كتب سائر مسرحياته شعراً، أي أنه كان خالق دراما وشاعراً في الوقت نفسه. ولا شك في أن الفضل يعود في هذا إلى أن فن الرواية لم يكن معروفاً في عصره الذي كان يتلقى أدبياته إما من أفواه الشعراء أو من على خشبة المسرح.
في الجهة المقابلة فقد نُشرت أول رواية إنجليزية ("روبنسون كروزو" بقلم دانيال ديفو) قبل نحو 100 سنة من ميلاد ديكنز وبعد مئة سنة أيضاً على وفاة شكسبير، وعندما جرّ ديكنز قلمه على الورق ليكتب أولى قصصه، كان يقطف من ثمار بستان لم يتوفر لشكسبير أصلاً.
وبينما كانت معظم أعمال شكسبير تتخذ من الحرير والديباج في بلاطات الملوك والنبلاء والأرستقراط موضوعاً لها، غاص ديكنز في عوالم الكادحين الفقراء وصار صوتَ من لا صوت له. ولكن، بينما كان ديكنز محلّلاً ومعلقاً اجتماعياً على تركيبة بريطانيا الطبقية وفقرائها المسحوقين تحت وهدة الحاجة والعوز، كان شكسبير فيلسوفاً اتخذ من أفعال علية القوم مطيّة للولوج في أعماق النفس البشرية وهي مجردة بالكامل من المقام الاجتماعي والسلطوي. وعلى هذا الأساس وحده لا يمكن القول إنه كان "شاعر البلاط" وإنما شاعر الناس أجمعين.
ولعلها مفارقة كبيرة أن شكسبير – على الرغم من ظاهر أعماله المكرّس لحكايات المجتمع المخملي – لم يجد له موطئ قدم في هذا العالم ولم يفتح له النبلاء أبوابهم لأنه افتقر إلى الوراثة التي تؤهله لأن يصبح واحداً منهم، وإنما كان – في المقام الأول – مجرد ممثل مسرحي قادر أيضاً على تأليف المسرحيات. وقارن كل هذا بأن ديكنز، الذي اتخذ من عالم الفقراء منبعاً لأعماله، نال تهافت أصحاب الحسب والنسب عليه وتشرفهم بصحبته. وخذ مثلاً أن أمير ويلز نفسه كان في صدارة أكابر القوم الذين حضروا آخر ظهور له في قراءة عامة في الأكاديمية الملكية في قلب لندن. وأخيراً، على الرغم من أن شكسبير لم يمت معدماً – بفضل أسهمه في مسرح "غلوب" الذي ارتبط بمسرحياته وإلى حد أقل بفضل عائدات مسرحياته نفسها – فقد ترك ديكنز ثروة هائلة لأهله وأقرب أصدقائه جمعها من عائدات قلمه. ولكن، بغض النظر عن الماديات، فقد صار العالم مكاناً أفضل بسبب عبقرية الرجلين. أما إذا صارت المساحة لا تتسع لأكثر من رجل واحد، فربما وهبها معظمنا لتشارلز ديكنز، كونه أقرب إلينا زماناً وموضوعاً.
1341 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع