تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء الثامن عشر
هجوم فاشل
يغص الجامع بالحضور من كل المشارب والاعمار، محاولات تجري لجعله بديلاً عن مبنى المحافظة. شيوخٌ عشائر سبق وان نصبهم الحزب والمحافظ المنتهية ولايته في الامس القريب وَدعّمَ شيختهم، وصلوا على رأس جماعات من أبناء عمومتهم، دخلوا المدينة بالهوسات والاهازيج الشعبية، يسعون تورية الى نقل ولاء الطاعة من صدام الغائب عن الساحة الى الحاكم الجديد غير الموجود في الساحة. ثوب الحاكم الجديد لم يتبين لونه بعد، هؤلاء الشيوخ لايهمهم الثوب، ولا يقفون عند اللون إن كان أصفر أم أخضر أو أحمر بلون الدماء، هم جاهزون لتقديم الولاء لمن يحمل الراية الملونة ويعطي دنانير أكثر. يَصلونَ الجامع، يتحيرون بوجهتهم، لم يجدوا حاكماً جديداً بين الموجودين، يصطفون مع الواقفين، عسى ان يكونوا أصحاب حظوة عند الحاكم الذي ستنتجه الأحداث. لا أحد يصنفونه كبيراً في هذا الجامع، عدة مجاميع يبدو على هيئاتها حسن التنظيم، وسط كل واحدة شخص كبير، يتبعه من فيها باخلاص، يتحكم بهم، لا يستطيع التحكم بغيرهم. كريم بينهم واشجعهم واكثرهم عطاءً لهذه الانتفاضة، ليس له جماعة، ولا ينفع ان يكون على رأس جماعة، فتكوينها أصعب من فن أستخدام البندقية، وأعقد من سبل الاقتحام غير المنظم لمركز شرطة. يتذكر السيد، المجاهد، والورقة التي زوده بها في البصرة قبل ثمان وأربعون ساعة. يطوف على الجماعات الموجودة، لم يجد في كلام احداها، وشكل تنظيمها صلة بذاك السيد، يترك الجامع الكبير، يبدأ مشوار التفتيش في جوامع أخرى عله يجد ضالته في التعرف على الخطوة القادمة، فهو في حيرة من أمره، اذ دخل المعركة مدفوعاً بالثأر لصديقه، وبتأثير الانسياق مع الحاجة رضية هستيريا، فوجد في داخله المكسور رغبة ملحة لاكمال فكرة القضاء على النظام الظالم حتى النهاية، ولم يعد في عقله مكان للتراجع، لقد تعود اكمال المشاوير التي يبدؤها، لا يؤمن بالتوقف وسطاً، ولا يرغب بالالوان المتداخلة.
يقف حائراً. يسأل نفسه وصديقه الجالس الى جواره في سيارة التويوتا العائدة للوالد بعد أستبدالها بسيارة الباترول البعثية لاغراض أمنية:
- كيف لي اكمال مشوار أحسه عصياً مع كل خطوة أخطوها الى الامام؟.
يرد سالم بدعابة لتلطيف الجو الملبد باحاسيس الاحباط:
- لا تأبه، اللي شبكنا يخلصنا.
الجوامع في غالبيتها مغلقة وأخرى لا أحد فيها، عدا الموجود في حي الاسكان، أصبح مثل خلية نحل لا يكل شغيلتها. فيه شباب داخلون وغيرهم خارجون، وفيه سيارات تُفرِغُ أسلحة، وعتاد يوزع دون حساب.
يدخل كريم، يعينه حدسه في التيقن على انه وجد المكان المقصود. يسأل عن المسؤول، يجده في أحد غرف الجامع، رجل وقور نصف لحيته أبيض.
يقدم نفسه:
- أنا كريم، قادم وصديقي سالم من البصرة. وهذه ورقة أحملها من السيد. يرد عليه المسؤول:
- تفضل أجلس.
يطالع في الورقة، وفي حرف وضع جنب عبارة مكتوبة بخط اليد( حاملها من طرفي)، ينم عن رمز متفق عليه. ينهض المجاهد المسؤول من مكانه، قائلاً:
- أهلا بك بطلاً، وبصديقك بطلاً، أخباركم وصلتنا من البصرة، كنا ننتظركم من الامس، قلقنا عليكم في الطريق غير الآمن، بعض مفارز الطاغية وعسكره منتشرون على الطريق.
يجيب كريم عن نفسه ونيابة عن سالم:
- شكرا لكم، السيد حملني كثير السلام اليكم.
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
يُعَبر كريم عن عظيم ايمانه بالقدر وبالله سبحانه. يصف مشاركته باسقاط المحافظة. يعترض على احراق جسد المسؤول الحزبي، ويوضح كيفية دخوله المستشفى العسكري، ورفضه قتل الضباط الجرحى الراقدين فيها، ثم يختم حديثه بالتأكيد على مبادرته في تخليص الشباب المنتفضين قليلي الخبرة من عملية أسر كادت ان تقع فيها اثر هجوم سريع بالدبابات والقوات الخاصة على المستشفى المذكور.
- هكذا هي الثورات، تتخللها أعمال يراها البعض تجاوزاً وخطأ، وينفذها آخرون كنوع من الثأر ورد العقاب، أجابة يقدمها ابو منتظر "المسؤول الأعلى لقوات الفرقان في الناصرية" بشكل سريع، وكأنه لا يريد الخوض في تفاصيلها مع كريم، فيعبرها بتقديم شرح مفصل للموقف في عموم الناصرية، يؤكد فيه انتهاء السلطة داخل المدينة.
يؤشر اسبقيات عمل اليوم باتجاهين:
- أسبقيتنا الأولى توزيع معونات ومواد اعاشة من تلك التي سيطرنا عليها من مخازن الدولة الرئيسية، ستكون البداية من حي التنك، سكانه الأفقر في المدينة، والفقراء كما تعرفون، وقود الثورة، المكتوين بنارها.
- والثانية وهي الأهم، ستكون مهاجمة مقر فرقة المشاة (٣١) التي عسكرت خارج المدينة ليلة أمس، بعد انسحابها من الكويت، في انتظار اكتمال ما تبقى من وحداتها، بغية اعادة التنظيم، وترصين المواقع ومن ثم أخذ دورها في مهاجمة الانتفاضة حسبما افاد أحد المجاهدين المنتسبين الى سرية مقرها. لابد من مهاجمتها قبل اكمالها الاستعدادات، وبالمرة الحصول على اسلحة، تلزمنا في تجهيز متطوعين التحقوا بنا حديثا.
يكمل عرض الموجز، بتشويق غالب، ويترك الى كريم اختيار الالتحاق باي من المهمتين، وكأنه يختبر شجاعته ميدانياً.
كريم المقاتل، هاوي اللعب بالاسلحة منذ الصغر، لا يعير موضوع الاختبار الذي احسه في العرض أي اهتمام، عده تحدياً، فضل الخيار الثاني دون الرجوع الى سالم، لأن التحدي من وجهة نظره شخصي، لا يستوجب الرجوع الى أحد في خوض تجربته. يؤكد:
- أنا عسكري ولو بسيط، لكني أملك خبرة قتال معقولة، وعلى الاستعداد للعمل الآن. يحمل بندقيته واثقاً من نفسه، يتبعه سالم مثل ظله، يلتحقان بالمجموعة التي تتهيأ الى تنفيذ المهمة في باحة صغيرة خلف الجامع.
ثلاث مجموعات قتال للهجوم على مقر الفرقة شكّلها حميد الخبير بفن القتال وسط الأهوار، حصيلة عشرين متطوعاً كانوا واقفين في الانتظار.
كريم على رأس احداها.
الثانية يرأسها سالم.
الثالثة أبقيت بامرته المباشرة.
السلاح المتيسر، لكل مجموعة رشاشة خفيفة صدأت من كثر الاستخدام في الأجواء الرطبة للهور. الدوشكا المحمولة على عجلة عسكرية تمت السيطرة عليها في الأمس لم تصدأ بعد، تُلحق وعجلتها مع المجموعة التي يرأسها حميد نفسه. الشروع بعد صلاة الظهر مباشرة.
موضع الفرقة يظهر من بعيد، جنود ارهقتهم محطات الانسحاب، وبددت طاقتهم مرارة الخسارة، يقيمون متاريس أسلحة ثقيلة اغلبها بلا عتاد، آخرون يَنصبون خيماً اسودت من دخان الحرائق التي نشبت في آبار النفط الكويتية، الا خيمة القائد، بقيت ناصعة البياض، عصية على الاتساخ.
سيارات النقل العسكرية التابعة لها لم تفرغ حمولتها بعد. الجنود غير كافين لانجاز مهام الحراسة والتحصين، وافراغ الحمولة، وهم فوق هذا متعبون، توزعوا على اعمالهم وجبات. مدرعتان تقطران مدرعتين، توزعتا على أربعة أركان لحراسة الموضع، فكونت نقاط حصينة لاربعة اضلاع لا يحسبها القائد حصينة، وهو القابع في خيمته يجتر الافكار المغموسة بالخذلان. قلقٌ، لم يذق طعم النوم، يأمر باقامة ساتر ترابي نصف دائري حَولَ كل ناقلة مدرعة تعمل او لا تعمل، ويؤكد على ضرورة اقامته فوراً دون أي تأخير.
يقف حميد المدفوع للهجوم بحماسة الجهاد، خارج مرمى النيران، يستطلع الأهداف، يناقش آمري المجموعات، لا يعير اهتماماً للسواتر والمواضع الدفاعية المحفورة على عجل، يفضل الهجوم مواجهة برتل يكون هو والدوشكا بمقدمته، تتعقبه المجموعتان. حدد خط الشروع، أكوام تراب لمواضع قديمة تبعد سبعمائة متر عن الضلع الامامي لمنطقة إعادة التنظيم، يفتح النار على المدرعتين الاماميتين. تتقدم العجلات الاخرى جنبه بنسق نحو الاهداف، الغاية التي ارادها في صفحة الهجوم الأولى احداث ثغرة يتم منها الدخول، تساعد على ارباك الجنود المدافعين، تزيد من هبوط معنوياتهم الهابطة في الاصل، وبما يمهد الى انضمام البعض منهم لصفوف المنتفضين، والتعجيل بسقوط الموضع بأقل الخسائر. المشكلة من وجهة نظره تتعلق بالضباط، وليس بالجنود، أعطى أوامره بالتركيز على تصفية اي منهم يحمل سلاحاً يفتح منه النار.
المنطقة مكشوفة، وساحة الرمي من أمام المدرعات تعطيها مجال رؤيا قتالي بعيد، يتنقل الجنود المسلحون بين الخيم والسيارات، وهم ليسوا قليلين.
قبل أن يعطي حميد الاشارة الخاصة بالهجوم، ينبهه كريم:
- الهجوم بالمواجهة أثناء النهار وفي هذه الارض المفتوحة غير صحيح، أقترح تأجيله حتى حلول الظلام للحصول على فرصة التقدم أكثر الى الساتر، وربما مباغتة المدرعات، وتفادي التأثير المباشر على مقاتلينا قليلي العدد.
يرده بقوة:
- لا وقت لدينا من أجل التأجيل، ولا يوجد مبرر لفعله. نحن أكثر منهم ايماناً. ألم تقرأ القرآن، وتعلم كيف أن أعداداً قليلة غلبت أعداد كبيرة بقوة ايمانها. هكذا هو الاسلام الذي سنقيم شرعه باذن الله.
الهجوم الآن، قالها بامتعاض أحسه كريم في تعابير وجهه العبوس، فحاول أستيعابه بتقديم مشورة أخرى تتعلق بالتنفيذ:
- أرى أن نتقرب الى الموضع أكثر، ونضع الدوشكا في الزاوية التي على يميننا لتكون فاعلة في اسناد مجموعتينا في آن معاً. وأن تتوزع المجموعات الثلاثة على الركن الامامي للموضع والركنين الجانبين، ويكون لكل منها خط شروع منفصل، لتشتيت الانتباه، وبعثرة الجهد الدفاعي بثلاث اتجاهات. هذا يضمن لنا خرق أحد أضلاع الساتر بسعة يمكن أستثمار النجاح فيها لدخول باقي المجموعات.
يزداد الامتعاض قولاً:
- لا هذا غير ممكن. نحن متفوقون باصرارنا. أنا القائد الان، لا أحد يملي علي الاوامر والتوجيهات سوى المجاهد أبو منتظر، هكذا تعلمت في معسكرات التدريب التي تخرجت منها قبل شهرين.
كريم العسكري المحترف في المجموعات الثلاثة، يذعن للأمر الواقع، فهو قد تعلم من جانبه التنفيذ المطلق للاوامر خلال خدمته التي استمرت سبع سنين.
يتلقى الرتل المهاجم اشارة الشروع. يقترب من خط السبعمائة متر. تبدأ الدوشكا بالرمي على المدرعتين، ويتراكض الجنود المدافعون الى السواتر الترابية غير المكتملة، والحفر الموجودة. ترد الناقلات الموجودة في جهتي المواجهة برمي كثيف، يتوقف فجأة من تلك الموجودة على اليمين لمقتل الرامي، فتُكَثِفُ الاخرى رميها على الثوار المنتفضين. يبدأ الجنود الرمي من اماكنهم، وتعاود الناقلة المتوقفة رميها، بعد ان صعد اليها احد الرماة مكان زميل قضى تواً.
تشكل السيارتان الاخريان نسقا مع الدوشكا، فيتضاعف الرمي، ويرتبك من في الموضع. ضباط يركضون، ويصدرون أوامر صارمة بالصمود. تقترب العجلات الثلاثة المهاجمة خمسين مترا من حافة الموضع.
حميد في المقدمة يعلي التكبير بصوت مسموع. يستشهد المجاهد الواقف خلف الدوشكا، فيتوقف رميها، فيحاول آخر الحلول محله، لكنه يفشل في مواصلة الرمي لعدم معرفته بآلية عملها، ويستشهد هو الآخر. تتباطئ حركة العجلتين الاخريين. يعتلي حميد الكرسي الخاص بالرامي لتعويض الشهيدين، بحماس منقطع النظير، فيصاب بجرح في جهة اليمين من الصدر، يسقط بسببه على الارض. يحاول كريم التقرب لانقاذه. يشتد الرمي. يقفز من السيارة. يحمله على كتفه، يضعه في الحوض الخلفي للعجلة، وقبل أن يفقد الوعي، يعترف بخطأه، ويطلب ايقاف الهجوم والعودة الى الجامع على الفور. يعطي كريم اشارة التوقف والاستدارة، ثم الانسحاب.
يوقف الجنود الرمي بمجرد استدارة المهاجمين، لان الموقف لا يسمح بالتعقب، وهم لا يريدون التأزيم.
العجلات الثلاثة تصبح خارج مرمى النيران، تتوقف قرب سيارة حميد التي تعطل محركها، باختراق رصاصة من العيار الثقيل مبردة الماء. حصيلة الهجوم ثمانية شهداء من كل المجموعات، وجرحى بينهم حميد اصابته بليغة، وثلاثة جرحى اصاباتهم خفيفة، يستقلون جميعهم عجلتين، يعودون الى الجامع. الطبيب المستدعى يعجز عن انقاذ حميد القائد الفعلي للهجوم، الذي ودع دنياه مصحوب بدعاوى الموجودين في أن يكون شهيداً مثواه الجنة.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/46020-2020-09-14-11-02-11.html
3318 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع