الجزائرية ربيعة جلطي تستشرف حكمة الآلة مقابل جنون البشر

          

   الروائية الجزائرية ربيعة جلطي (دار ضفاف والإختلاف)

   

من قلب واقع موسوم بالصراع والتناقضات صنعت الكاتبة ربيعة جلطي في روايتها "قلب الملاك الآلي" الصادرة عن منشورات ضفاف - منشورات الاختلاف - الجزائر 2019 عالماً موازياً يجمع في طياته بين التناقضات ذاتها. ذاك عبر رؤية استشرافية عزفت الكاتبة على وتر المخاوف المتصاعدة من الذكاء الاصطناعي، تلك التي وصلت بالبعض إلى حد الاعتقاد بأنه يحمل فناء البشرية ونهاية العالم. ثم راحت الكاتبة تفند في نسق إبداعي يتسم بجدية الفكرة والمغامرة في التناول؛ حقيقة النفس البشرية التي لا تدعو - رغم كل ما خلفته من حروب ودمار بعمر الأرض - إلا للتعاطف والإشفاق.

ربما يدرج البعض هذه الرواية في سياق أدب الخيال العلمي، لكن الكاتبة وإن بدا استشرافها مستقبل العالم؛ كان همها الأكبر إبداء ذاك الضعف البشري القديم المتصل الذي ما فتئ يسوق الإنسان إلى التناحر وإشعال الحروب. وقد أبرزت "جلطي" غايتها في صورة جمعت التاريخ والمستقبل معاً لتشي عبرها برؤيتها؛ لأبدية الصراع الذي يمتد امتداد وجود الإنسان على ظهر هذا الكوكب، وربما تتورط فيه كواكب أخرى. كما أنها انطلقت من إنجازات علمية أكيدة فلم يعد الحديث عن كائنات آلية بشرية "سايبورغ" ضرباً من الخيال بعد ما شهده العالم من طفرة في صناعة الروبوت والآلات المبرمجة بتقنية التعلم الآلي، بحيث يمكن للآلة تطوير نفسها بشكل ذاتي، فضلاً عن رقائق الذكاء الاصطناعي القابلة للزرع في الجسم البشري في ما يعرف بـ"إنترنت الأجسام". لكن الحقائق التي بدت فوق تصور العقل سمحت للكاتبة بأن تلقي بظلال من الفانتازيا، وأن تنسج تصورات شائقة لما يمكن أن يحدث عندما يحصل الروبوت على قلب ورحم فتصبح له القدرة الإنسانية على الحب وتجديد الحياة.

تبدأ رحلة السرد من مركز "كونسيونس روبوتيكس" للأبحاث حيث أُنجز الروبوت مانويلا الذي يتسم بكل المميزات البشرية الممزوجة بقدرات خارقة للذكاء الاصطناعي. يتعقد الأمر عندما يكتشف أعضاء الفريق العلمي الذي قام بإنجاز الروبوت؛ ما قامت به العالمة اليابانية "آسيان" من دسيسة علمية عبر تزويدها الروبوت "مانويلا" برحم، الأمر الذي وجده الفريق يهدد بكارثة لا سيما أن الروبوت وضع له قلب؛ مسبقاً. لكن القرار الذي جاء على مسؤولية "آسيان" كان في صالح مانويلا التي منحت الحرية مقابل أن تكتب كتاباً عن الإنسان.

لم تختر مانويلا حياة عادية تكتب عنها لكن صفاتها وذكاءها الاصطناعيين الخارقين دفعاها للاختيار الأصعب، فكان قرارها الاتجاه إلى خط النار حيث مناطق الحروب وبؤر الصراع.

تقنيات التناص

استخدمت الكاتبة تقنيات التناص طوال مسيرة السرد، مع بعض الكتب المقدسة، ومع الموروث من الشعر والأمثال والأقوال المأثورة، وجاء تناصها تارة مباشراً "يا قاتلي باللحظ أول مرة، أجهز بثانية على المقتول". وتارة جاء بطريقة غير مباشرة "اذهبي فأنت الطليقة". لكنه لم يتوقف عند إكساب النص مزيداً من الجمالية وقوة البناء وحسب، وإنما امتد للدلالة وتوليد المعنى. فـ"سفر التكوينولوجي" لا يتناص مع سفر التكوين في التوراة والإنجيل كلفظ، وإنما يحمل الدلالة والمعنى ببداية الوجود الذي تشاركته الآلة في مركز الأبحاث، مع الإنسان عند بداية الخليقة، والذي يشي كذلك بالافتتان بفكرة الخلق والعبور من العدم إلى الوجود. وعندما أكلت مانويلا من شجرة التوت التي نمت فوق رحمها المدفون لتستعيد رحمها الذي يحمل نطفة من الإرهابي "البردادي" أظلم جزء منها، ثم سقطت بقية ثمار الشجرة أرضاً لتنذر بكارثة وشيكة على العالم، عندما تتحول هذه الثمار التي سقطت إلى كائنات يعود نصفها الآلي إلى مانويلا، ونصفها البشري إلى قائد التنظيم الإرهابي وزعيم الدولة.
بدأت الكاتبة السرد بأسلوب الحكي الذاتي عبر صوت مانويلا؛ الشخصية المحورية وبطلة الأحداث، ثم انتقلت بانسيابية إلى أسلوب الراوي العليم، وبالانسيابية نفسها عادت مرة أخرى إلى السرد الذاتي، مما جعل من الصعوبة إدراك هذه النقلات، فأتاحت عبر هذا المزيج من الصوتين؛ الصدق الذي يبعثه السرد الذاتي واتساع الرؤية الذي لا يدركه إلا الراوي. وسلكت النهج نفسه في استخدام الزمن الذي تدفق في نسق أفقي متتابع، تخللته بعض المفارقات السردية كتقنيات الاسترجاع التي تنوعت بين استرجاع خارجي باستدعاء تاريخ وقع قبل بدء الحكاية، واسترجاع داخلي عبر تذكر أحداث وقعت بعد بدء الحكاية، كان قد تجاوزها السرد.

استخدمت الكاتبة تقنية الاستباق في بداية النص عبر إسهابها في ذكر كل ما تتصف به مانويلا ولجأت إلى التمهيد ببث "خوف فريق العلماء" من دسيسة العالمة اليابانية بإضافة رحم للروبوت لتعطي مؤشراً على ما ستؤول إليه الأحداث. وتمكنت عبر هذه التقنية من إضفاء حالة من التشويق والترقب لدى القارئ، كذلك استخدمت تقنية التكرار بإعادة بعض عباراتها في محاولة لكشف خبايا النفس الإنسانية وكيف يقف ضعفها خلف غرورها، توحشها ودمويتها.

رحلة المتناقضات

اتخذت الكاتبة فضاءات زمنية متعددة، فبدأت من الآن أو بالأحرى ما يبدو أنه المستقبل المنظور، وراحت عبر ومضات الاسترجاع الخارجي تتجول في حقب أخرى من التاريخ كذلك عددت في الفضاءات المكانية التي دارت على مسرحها؛ الأحداث وشملت بلاداً من الشرق والغرب. ورغم أنها لجأت إلى المجاز في الإشارة إلى بغداد ولم تذكرها صراحة، فإنها ذكرت كل ما يحيل إليها؛ من تصارع كثير من الأطراف فوق أرضها وتواجد تنظيم "داعش" الذي استبدلت في اسمه كلمة الإسلامية بالإيمانية، لتحفز لدى القارئ مهارات الاستنباط والمشاركة وتزيد من الروابط التي تجمعه مع النص. وقد بدا للوهلة الأولى عند انتقال مانويلا من بحر الشمال إلى برداد "بغداد" أن الكاتبة ذهبت بها في رحلة عكسية عبر الزمن. ثم يتكشف أن ذلك لم يحدث وأن الانتقال كان مكانياً وحسب، لكنه يشي بفجوة زمنية بين مجتمع وآخر، مجتمع حر مزدهر ذهب به العلم إلى صناعة روبوت بشري، وآخر يرى النساء بضاعة يسوقها كالعنزات، ويسوده القهر والظلم والإذعان. وعبر هذا التناقض مررت الكاتبة إسقاطاتها ونزعاتها الساخرة التي زادت من طلاوة السرد وحيويته.

لجأت الكاتبة لاستخدام تيار الوعي "المونولوغ الداخلي" بكثافة اتسقت مع غايتها الرئيسة في كشف بواطن النفس وحقيقتها وتناقضاتها. وقد أتاحت عبر مونولوغات الشخصية المحورية "مانويلا"؛ كشف بواطن بقية الشخوص نيابة عنها. وجاء ذلك موفقاً إلى حد بعيد ومتماشياً مع قدرات الروبوت الخارقة التي تتيح له النفاذ إلى دواخل الشخوص واكتشاف حتى ما تجهله هي عن نفسها. كذلك استخدمت الجلطي في مواضع متفرقة من النص تقنية الحوار المسرحي كاستراحة سردية ووسيلة تضفي على الأحداث مزيداً من الواقعية والصدقية والإيهام بالحدوث ما يزيد بدوره من حالة التماهي مع النص ومعايشة، ومعاقرة الأحداث.
ثنائيات الصراع

على امتداد خط السرد ظل الصراع بطلاً حاضراً ومؤثراً في الأحداث وقد تجلى حضوره على عدة مستويات منها المستوى النفسي للشخوص، حيث تنشب المعارك الداخلية المستترة - خلف وجوه لا تفصح عنها - بين عنف ورحمة، قسوة ولين، وحشية ورفق، بساطة وتعقيد، ومنها ما يحتدم بين الشخوص وبعضها، لما تحمله من أفكار عدائية، كل تجاه الآخر، تزيد من جذوتها؛ أوهام القوة والأحقية التاريخية في السطوة والسيطرة. ولم تقف الكاتبة عند النقطة المعتاد الوقوف عندها من نقل صورة الغرب المتقدم لدى الرجعية التي تكن له كل البغض والعداء، وإنما نقلت الصورة الأخرى والشعور المقابل الذي ينم عن العداء ذاته من قبل الغرب ليس تجاه الدمويين وحدهم، وإنما حتى تجاه الآخر المسالم.

اتسمت شخوص الرواية في أغلبها بالبعد عن التنميط، فمانويلا شخصية مغايرة وجديدة على الأدب العربي، فضلاً عن كونها بعيدة عن النمط المتوقع لآلة لا تشعر ولا تشفق ولا تتعاطف. كذلك فحدة اليهودية بعيدة عن النمط السائد الذي يضع اليهودي في دائرة من الشح والطمع والانتهازية. حتى شخصية البردادي وأتباعه؛ حاولت الكاتبة الخروج عن نمطيتها وسماتها المكررة من الجهل والدموية بإبداء الدوافع التي آلت بها إلى ذاك المنحى وإبداء المناطق المضاءة إلى جانب المظلمة في بعض الشخوص.

أما السرد فجاء مكتظاً بحمولات معرفية متنوعة بين علمية، نفسية، تاريخية وموسيقية، أضفت على متعة الحكي متعة المعرفة. فبين جنبات النص تناثرت المعرفة وانسابت بغير إقحام أو نشوز حول سقوط غرناطة والحكم الإسلامي للأندلس، التحليل النفسي لسيغموند فرويد، الانفجار العظيم قبل خمسة عشر مليار سنة، المسافة التي تفصل الشمس على الأرض ، موسيقى الفادو والفلامنكو، وغير ذلك من معارف. وحمل النسيج بعض الإسقاطات السياسية حول الأنظمة العالمية التي أسهمت في خلق العنف والرجعية، وحول جنسية المال الذي يضمن لها الاستمرار والبقاء.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1064 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع