عائشة البصري: كورونا مشهد روائي ثريّ ومثير

          

العرب/شريف الشافعي:على غرار الفنانين ومختلف المبدعين هناك بعض الكتاب العرب الذين بدأوا بتناول جائحة كورونا في نصوص وأعمال أدبية، حيث يكتبون عن الحدث وهو في طور التشكل. وهذا ما يمثل تحديا كبيرا على غرار ما خاضته الكاتبة المغربية عائشة البصري، في روايتها الأخيرة “كجثة في رواية بوليسية”. “العرب” التقت الكاتبة المغربية وحاورتها حول روايتها الجديدة.

تحيك عائشة البصري سردياتها الروائية بأسلوب شعري يعتمد التخييل والتعمق الفلسفي والغوص النفسي والمونولوج الداخلي، كونها شاعرة في الأساس، ويقودها الاستغراق الشعري إلى تضفير الخبرات الحياتية والتجارب والمعارف الذاتية في نسيج الشخوص والأحداث الروائية التي تأتي غير منفصلة عن واقعها الشخصي المباشر.

تقتحم البصري في كتابتها الإبداعية مناطق شائكة، ففي روايتها “كجثة في رواية بوليسية”، الصادرة مؤخرا عن الدار المصرية اللبنانية تتناول المرحلة “الكورونية” وتداعيات الحجر الصحي وانتشار الجائحة العالمية وآثارها على البشر في لحظة زمنية “تتأرجح بين الموت والحياة”.

وقدمت نموذجا لامرأة مذبذبة بين الحضور والتلاشي، فهي تارة حية تصارع أعراض كورونا العنيفة، وحينا في غيبوبة تسترجع ذكريات عشر سنوات من الماضي القريب، وفي بعض الأحوال هي جثة أو ميّتة إكلينيكيا أو كليا منذ 2010 حتى 2020 في معزلها الغامض.

زمن كورونا
يأتي استلهام الكاتبة جائحة كورونا والعزل المجتمعي روائيا وشعريا على هذا النحو المدهش، ليفتح التساؤل حول تأثيرات الأحداث الكبرى (الأوبئة، الحروب، الثورات، الكوارث، إلخ) على الأدب، وما إذا كانت “الكورونية” بلورت بالفعل فضاء إبداعيا مكتملا ومشتركا إنسانيا لخلق خيوط أدبية وفكرية وفلسفية في هذه الفترة الوجيزة، أم لا يزال الوقت قصيرا لبلوغ هذا المنال.

تشير عائشة البصري لـ”العرب” إلى أن حقبة تاريخية جديدة قد باتت على الأبواب، وهذه الحقبة ستبلور فضاء إبداعيا مختلفا، ومعظم ما سينشر خلالها سيكون تحت عنوان “زمن كورونا”، لأن الأمر يتعلق بتدوين حدث استثنائي في حياة الإنسانية، علما بأن هذا النوع من الكتابات ليس جديدا، فالآداب والكتابات حول الجوائح والكوارث والأوبئة والمجاعات والحروب ليست طارئة بل لها تاريخ.

في هذه الجائحة، كما توضح عائشة البصري، دخل الكتاب مرحلة “الكورونية”، ونُشرت كتابات في الموضوع منذ الأيام الأولى للجائحة. والكثير من الأدباء في العالم الذين عاشوا هول الفايروس والحجر الصحي مبكرا، إما استهلّوا كتبهم في الموضوع وإما أنهوها، مثل كتاب “عدوى” للروائي الإيطالي باولو جيوردانو.

كما أن الكاتب المغربي الطاهر بن جلون نشر في بداية شهر أبريل “رسالة إلى الصديق البعيد” في موقع “فرانس أنتير”، يتحدث فيها عن معاناة صديق له مع وباء كورونا، وعرفت الساحة الثقافية نقاشا بين الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين والفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي حول التعاطي مع أزمة كورونا.

وترى الكاتبة المغربية أن هذه الكتابات ما زالت عند حدود التساؤل، لكنها توظيف واضح للفلسفة والفكر والإبداع في مواجهة وباء كورونا، وتقول “كما كتبتُ في إحدى تدويناتي، فلا أحد من الكتاب سينجو من كورونا، لأن من سينجو من الإصابة بالفايروس، لن ينجو من التأثير النفسي لأجواء لحظة زمنية تتأرجح بين الموت والحياة. والأكيد أن الكلمة التي سيطلقها كاتب لن تدمر ذلك الكائن المجهري الصغير، لكنها ستسجل اللحظة وأثر الكارثة. الحياة تخسر ضد الموت، لكن الذاكرة تنتصر في معركتها ضد العدم؛ كما يقول تزفيتان تودوروف”.

لم تستطع البصري تجاهل ما يحدث في العالم، ومقاومة الكتابة عن التداعيات النفسية للجائحة عليها وعلى الآخرين، فتحت تأثير أجواء الموت والعزلة والأخبار التي تصلنا كل يوم عبر القنوات الفضائية، ضبابية المستقبل وحتى الشك في الغد، الخوف من شيء غامض، فايروس صغير لا يرى بالعين المجردة، عدم اليقين في المستقبل، فقدان الإيمان بالأنظمة الاجتماعية والاقتصادية، بالأنظمة الدولية، وحتى بالعلم، كما لو أن عالما من ورق انهدّ فجأة فوق رؤوسنا، فجأة وجدت ذاتها تقود شخصية روائية إلى عالم الموت والصراع مع وباء كورونا.

وتوضح أنها منذ الأسبوع الأول للحجر المنزلي، أوقفت كتابة رواية كانت على مشارف النهاية، لتدخل رواية جديدة تدور أحداثها في زمن كورونا: “فتحتُ باب الموت على مصراعيه ودخلت، دون سابق نية، عوالم رواية جديدة. كان يكفي أن توفر لي الجائحة الشرارة الأولى ليتكفل الخيال بالباقي. رغم أنه ليس من عادتي أن أكتب عن موضوع آني، أو ظاهرة في طور التكوين، كما أنه لم يسبق لي أن اشتغلت في هذا الحيز الزمني الضيق، فغالبا ما تأخذ مني الرواية سنتين أو أكثر. هذه الرواية اكتملت في داخلي بسرعة، قد يكون تأثير الجو العام، الخوف المرعب من العدوى، قد يكون السباق مع الموت. فبشكل من الأشكال هذه الرواية يقترن فيها مصير الرَّاوية ومصير الشخصية الرئيسية، في سباق مع الزمن وصراع ضد الموت”.

بصمة شعرية
ثمة إشارات إلى تماهي الذات الساردة (المرأة/ الجثة) مع الشاعرة الروائية الكاتبة، وهذا يثير تساؤلا إضافيا عن تضفير المونولوج الشعري وتقنيات القصيدة في النص السردي الروائي، وكأنّ الروائية لا تنسى أبدا أنها شاعرة، والمؤلفة تستحضر ذاتها أحيانا في شخصياتها.

تؤكد البصري لـ”العرب” أنها عندما تكون بصدد كتابة نص روائي، تبذل قصارى جهدها لتشيد عالما روائيا ببصمتها الخاصة كشاعرة، لأنها لا تؤمن برواية خالية من روح الشعر، لكنها لا تتقصد مطلقا أن تبني معمارا روائيا بقصائد نثر كلبنات متراصة، إذ تحرص على ألا تغتال لغة الشعر لغة السرد، لكنها تعترف بأن المهمة كانت صعبة في البداية.

في رواية “كجثة في رواية بوليسية” كان هناك تضمين صريح لأبيات شعرية إلى جانب مقاطع قصصية، كما أن خلفيات هذه الرواية رؤى تسجيلية خاصة نابعة من خبرة ذاتية في وصف فضاء الموت، الأدوية، التحاليل المخبرية، المستشفى، الأمراض.

تقول الكاتبة المغربية “إننا لا نكتب من فراغ، بما أن الرواية تحكي حياة أو جزءا من حياة كاتبة، فكان من الطبيعي أن أوظف تجارب الكتابة كعنصر من بين العناصر الأخرى التي اعتمدتها في الرواية، فضلا عن استغوار تجارب السفر والقراءات المتعددة والمعاناة والألم”.

وتضيف “عندما تتسلل الذات الكاتبة إلى النص لا تطلب الإذن من أحد حتى من الكاتب نفسه. كيمياء الكتابة لها أسرارها التي لا يحيط بها الكاتب كلها، فالكتابة لها وعيها ولا وعيها أيضا. لا أظن أن هناك نصّا أدبيا سردا أو شعرا ، يمكنه أن ينجو من الذات الكاتبة. دائما نعثر على أنفسنا بصيغة أو بأخرى في النصوص التي نكتبها”.

بعض الكتاب الذين شكلوا نماذج كونية لاستقلال ذات الكاتب عن كتاباتهم مثل كافكا وبيكيت، تم العثور عليهم في مواقع متعددة من كتاباتهم. وحين يقرر كاتب أو كاتبة ألا يسمح بعبور ذاته إلى النص الذي يكتبه، لن يستطيع أن يمنع نفسه من الحضور في المعجم الذي يستعمله وفي الجمل التي يركبها بإيقاعه وأنفاسه، وكذلك في الشكل وفي البناء. لكن يبقى المتخيل هو الأساس.

تبدو حياة العزلة لدى عائشة البصري بمثابة تعطيل للقلب والروح وتجميد للحواس، وتلك فلسفة الموت في تجربة روايتها الكورونية، وإن المتتبع لمسارها الإبداعي سيلاحظ أن ثيمة الموت حاضرة بقوة في كتاباتها الشعرية كسؤال وجودي، ناتج عن ذلك القلق الفطري الذي ضخمه حضور الموت من حولها أكثر من الحياة.

تلفت الكاتبة إلى أن حضور الموت في أعمالها الروائية يكاد يكون سورياليا أكثر منه تعبيرا عن قلق وجودي، فالفصل الأخير من رواية “ليالي الحرير” مثلا يدور في مقبرة مونبارناس، حيث يلخص خوان (الشخصية الرئيسية) فلسفة الموت المقصودة من الرواية “الموت ليس وجودا آخر، بل هو مجرد عبور إلى وجود ثالث، لا يمكن أن نسميه حياة ولا موتا، لأنه المجهول. ليس هناك شيء نهائي، لا الحياة ولا الموت، ولا حتى ما بعد الموت”.

وجعلت المؤلفة من الموت فضاء تتحرك فيه شخصيات رواية “كجثة في رواية بوليسية”، فضاء البرزخ الذي يربط بين عالم الموتى وعالم الأحياء هو في العمق الفضاء الحقيقي للرواية، حيث تتنقل الساردة بينهما بسلاسة، فنجدها في فقرات كثيرة ليس لديها اليقين هل هي ميتة أم حية. وتشير إلى أن رواية “كجثة في رواية بوليسية” لا تهاب الموت، بل تحدق فيه وتحاول ترويضه وجعله أليفا عبر السرد، وهي أفضل طريقة لتجاوز المحنة الإنسانية الحالية والرعب الكبير بسبب جائحة كورونا ومجاورة الموت.

وتذكر عائشة البصري في حوارها مع “العرب” أن الكتابة السردية في هذا السياق غالبا ما تستعين بالفانتازيا والغرائبية لبناء عوالم وفضاءات الموت، “تستهويني الفضاءات الغرائبية، وتعجبني الكتابة داخل الخط الفاصل، ذلك الما بين الملتبس: بين الحلم واليقظة، بين الجنون والعقل، بين الموت والحياة، وبين ميتتين كما في هذه الرواية. أما شخصياتي فهي تلك الأشباح التي تتجول بين هذه العوالم الشيقة”.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1587 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع