خصائص السرد القصصي و أبعاده في المجموعة القصصية ذكريات و مواجع على ضفاف عدن للدكتور محمد عبدالرحمن يونس
بقلم الدكتورة أمل عباسي
ناقدة، قاصة، شاعرة من المغرب
بين أقواس الحلم والحقيقة تتمركز المجموعة القصصية : ذكريات ومواجع ضفاف على عدن للدكتور محمد عبد الرحمن يونس، وهي إبداع سردي يحمل صدق الإحساس بالأشياء المحيطة وعمق الرؤيا الأدبية المعروضة في قالب إبداعي شيق ينضح بمعارف الناقد ـ القاص المتمرس الذي يجيد اختيار وتقديم الأشياء ويتتبع أمداء الواقع المتحلية برداء الإبداع السلس البليغ .
( ذكريات ومواجع ضفاف على عدن ) تعبير فصيح عن سيولة فكر صاحبها وتدرج معارفه ومعارجه، تحت كل قصة قصيرة منها كاعب، تشرك متلقيها في عوالمها وشخصياتها، ما يؤنسه فيها حضور ( التوبوس) أو تجليات المكان بكل جماله وقبحه، رحابته وضيقه، وضوحه وغموضه، وكأن القاص يعيد صناعة أثاث ذاكرة متلقيه الذي أضاع الماضي بنزوعه نحو النسيان..نسيان الماضي العربي بثقله وعظمته، تلك خاصية أحالت المجموعة القصصية بوتقة انصهرت فيها : وقائع المادي وحيثيات المعنوي، ظلال الماضي وتجليات الحاضر، سوداوية الواقع وبرزخية الحلم، إنها ثنائيات شكلت أعمدة وركائز مضمرة، أبانت عنها المعاجم السردية التي طغت على المجموعة القصصية فأعطت للمكتوب رونقه وجماله وللسرد بعده وخصوصيته، منها :
ـ المعجم البصري : ( مدت عينيها صوب الأفق ..كانت ساحرة، وأخذت الشمس تعانق ضوء البحر بتلذذ وكسل فاترين ...)، ( ... وكانت العصا لا تزال تعانق الفضاء، والدولاب يشع ملتصقا ببطن الأرض عاريا ).
ـ المعجم السمعي : (أخذت تغني مقطعا من أغنية وهرانية )، (ولعبوا، وصرخوا، وتشاجروا)، ( فانفلتوا أحصنة وحشية وقططا تموء طالبة حلالا وحراما ...)، (وأتاه صوت والده حزينا عميقا : " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " .
ـ المعجم النفسي : ( ما أصعب أن ينتظر الفرد امرأة يعشقها حلما وخيالا لخمس سنوات)، ( كأن شوقي ملعب جياد فقدت أسرجتها)، ( حزم حقائبه ودع أمه..هبطت الأحزان على قلبه الصغير ..حزينا راقب الموانئ والمطارات)، (أطياف سوداء كابوسية هجمت عليه، سجون وجدران وفجائع، فانقبض قلبه).
ـ اللازمة : وظف القاص كلمة تكرر ـ تقريبا ـ في كل قصص المجموعة، وهي (النورس) على دأب الشعر أو الموشحات، ولهذا التوظيف مدلولين :
ـ النورس دال على مدلول السفر الكثير والتكرر للقاص، مما طفح على سطح السرد، فقد أسعفته رحلاته إلى البلدان المختلفة كي يجمع زادا معرفيا ـ تجاربيا لا يستهان به، وهو سفر ليس حقيقيا فقط، بل أيضا هو سفر افتراضي اكتسبه القاص من قراءاته المتنوعة للسرود العربية وغير العربية، وهو الأمر الذي عكسته لغته الشفيفة والأنيقة التي مزجت بين النثر واستحضار النظم (الفصيح أو الدارج ـ المحلي) مما طبع المجموعة بطابع عولمي أجناسي خالف ما نجده عادة في خزاناتنا السردية العربية .
ـ النورس أيضا أيقونة ورمز سردي يحيلان على الحرية، وهو المطمح الكبير الذي تسجله المجموعة القصصية التي صورت الإنسان المعاصر في صورة العبد التابع لشهواته النفسية ـ الداخلية و المجتمعية ـ الخارجية، ليبقى النورس صورة ـ نموذج يطمح القاص إلى تمثلها بعيدا عن شذوذ وضيق الواقع بمختلف تجلياته : السياسية، الاجتماعية، النفسية، الاقتصادية، الفكرية ....إلخ.
لقد عكس جنس القصة القصيرة عند الدكتور محمد عبد الرحمن يونس اهتمام الذات الكاتبة بمناقشة كل ما ترصده عينه الفاحصة من مشاهد وأحداث، تتفاعل معها وتُفاعلها، وهنا نستحضر قولة (إدغار ألان بو) بخصوص جنس القصة القصيرة: (إنها عمل روائي يستدعي لقراءته المتأنية نصف ساعة أو ساعتين ) ليخرج القاص هنا عن هذه القاعدة، فقراءة قصة واحدة من قصص ( ذكريات ومواجع ضفاف على عدن ) تتطلب أياما لفهم عمق رسالتها وتمثل بنية شخصياتها واستئصال عقدتها من بين أوصال دواليب سردها بل وشهورا لإيجاد حلول جادة لقضايا تطرحها، أخذتها من صلب واقعها المحيط بكل مأساويته وأضفت عليها طابع الإبداع السردي وغنج اللغة العربية بكل جمالها وبلاغتها ، فنصف ساعة لا تكفي للتعرف على أحلام مليكة بنت الأخضر في وهران، والتجوال في المدينة ومعرفة أبوابها، وإيجاد العلاقة بين المنقار والبؤبؤ، وفهم نفسية جانيت، واستحضار مواجع بطل ذكريات ومواجع على ضفاف عدن، وتقبل شتاءات في المنفى، فنصف ساعة لا تكفي.
لقد خلق القاص لشخصياته منشأ إنسانيا خاصا وبرجا عاجيا ، يستعصي على القارئ البسيط فهمه، إذ هي شخصيات موجهة للقارئ العالم المتمثل للوقائع الميتالغوية، والذي يضاهي الكاتب حنكة وجدارة، بل نجد القاص يبحث من خلال قصصه عمن يشاطره همومه وسفره، أشجانه وطموحاته في فهم واقع مرير بدا له متشعبا، فجاءت تقنية التكثيف والتلخيص لتجمع الأشلاء المبعثرة وتحدد الهدف، قال العرب يوما : ( خير الكلام ما قل ودل، لا ما كثر وزل)، وهو المطمح الكبير للمجموعة القصصية، فتقنية التكثيف والاختزال المعتمدة في هذا المقام أسست لرؤيا جامعة مانعة .. سهلت على المتلقي الفهم المباشر ـ وحتى غير المباشر ـ للمضامين السردية، وهي نظرية سجلت حضورها في أعمال الكبار مثل : جيمس جويس (1941) وفرانز كافكا (1923) وإرنست إمنكواي (1961)،
أما بخصوص الزمن المستعمل في مجموع القصص، فقد اعتمد القاص على الزمن المفتوح : زمن الحكي، زمن الوصف، الزمن الخارجي : زمن الأحداث والوقائع ، والزمن النفسي تشخص ذلك الديالوجات المختلفة للشخصيات بصنفيها الرئيسي والثانوي، حيث مكن هذا النوع من الزمن القاص من توظيف السرد الحلزوني الذي يبدأ بالفكرة ليعود إليها بعد تحولات سردية مختلفة، فمثلا في أقصوصة كوابيس، جاءت البداية كالآتي:
(يحاصرني الجند ..تشرئب أعناقهم، تلمع رماحهم كوميض برق ..يصطفون في أنساق متلاحمة، تتشابك الرماح وتتعانق الخوذ .....)، أما النهاية فكانت كما يلي : (في الفضاء كانت بعض النوارس تعلو وتهبط معانقة صفحة الماء، وكانت الشمس تجر ذيولها متثاقلة ذابلة نحو خط الأفق الغربي ...انتهت القصة، أما الكوابيس فلم تنته بعد ).
وهكذا تنتهي هذه القصة مسجلة البداية نفسها، بل وتبقى مفتوحة على ما لانهاية، ففي الاستمرارية حظوظ إشراك المتلقي في عملية السرد وتبادل الأدوار مع الكاتب.
يرى فتحي الأبياري (أن القصة القصيرة تعالج جانبا واحدا من الحياة يقتصر على حادثة واحدة، لا تستغرق فترة طويلة من الزمن)، بينما يكسر القاص هنا هذه القاعدة، حيث تعالج القصة الواحدة مجموعة من الأحداث في خط سردي واحد، مثلا في قصة (سفر ومواجع)، انتهك القاص حرمة الطابوهات، وطرح عدة قضايا: منها : طبقية الجامعات و إيديولوجيات بعض محتكريها والمحسوبين عليها بالخطإ، تدني قيمة الشواهد الجامعية أمام مطالب الحياة حتى البسيطة منها، أتعاب وتبعات عوالم الشهوة، أحلام الشباب بالفردوس المفقود والسفر خارج أوطانهم للبحث عن سبل عيش رغيد، عجرفة موظفات الشركات وخروج المرأة المُتاجرة بشرفها وجمالها ـ في الكثير من الأحيان ـ عن شرنقة الحياء، وهي متواليات سردية تسير في خط سردي موحد بالرغم من اختلافها لترسم الصورة الكلية والفسيفساء العامة للعوالم السردية الفرعية، مما يعطي للمجموعة القصصية جدة وخروجا عن المألوف العام، فأحداث المجموعة القصصية لا تنتهي بانتهاء القصة بل هي أحداث متناسلة يولد بعضها بعضا .. تبدأ في قصة وتتطور في أخرى و تظهر في الموالية بشكل وعنوان مختلفين دون أن تهمل دور المتلقي في إتمام نوستالجيا الخطاطة السردية التي رسمت خط البداية.
و إجمالا، تعتبر المجموعة القصصية (ذكريات ومواجع ضفاف على عدن) للقاص والناقد الدكتور محمد عبد الرحمن يونس جغرافية أدبية عامة للأمكنة والأزمنة والأحداث والشخصيات، تحتفي بمكونات القصة احتفاء نفسيا واجتماعيا وسياسيا، تستقي من اليومي المعيش ما يغني عوالمها وتقدمه في قالب أدبي يتوج عرش اللغة البليغة ويستنفد من متلقيه شوقه وصبره ويعول على ذكائه لإتمام بياضات لم تذكر صريحة بل أُضمرت لتحقق متعة السفر الأدبي وتعنت الحكي الذي لا يقدم نفسه بسهولة بالرغم من سلاسة اللغة التوصيلية في المجموعة القصصية، وهنا يحضر السهل الممتنع ليجمع بين السارد ومتلقيه ويخلق دائرة التلقي كما عبر عنها كل من (ياوس) و(إيزر).
المجموعة القصصية ( ذكريات ومواجع ضفاف على عدن ) تضاهي قصص الكبار، ومنها قصة (الحيلة) لموباسان التي ظلت لزمن تشغل النقاد نظرا لحسن توظيفها لكل تقنيات الكتابة القصصية، ولاعتمادها على الزمن الطويل الممتد بالرغم من قصر القصة، وهذا ـ في نظري ـ ما حققته هذه المجموعة التي اختارت لمجمل قصصها خيطا ناظما وكأنها درر في عقد فريد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذكريات و مواجع على ضفاف عدن، قصص قصيرة . للدكتور محمد عبد الرحمن يونس، منشورات دار مقاربات للصناعات الثقافية ، فاس/ المغرب، الطبعة الأولى .
1409 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع