القصة الحقيقية لقصيدة الاديب أنور شاؤل التي حررت من السجن الاديب مير بصري
لعدة سنوات هناك قصة مشوهة يستمر تداولها في وسائل التواصل الاجتماعي وفي الصحف الالكترونية وحتى التلفاز مفادها ان الاديب الراحل أنور شاؤل كان مسجوناً في بغداد وان قصيدته المشهورة "ان كنتُ من موسى قبست عقيدتي" التي قرأها مهدي صالح عماش وأعجب بها وأخبر رئيس الجمهورية احمد حسن البكر الذي أمر بإطلاق سراحه.
بالرغم من عدة محاولات عديدة مني ومن عارفين آخرين لتصحيح القصة لكن يستمر تداولها في شبكات التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك والواتسآب. فقد طلب مني الصديق العزيز جلال جرماكا صاحب الكاردينيا ان ألقى الضوء على هذه القصة وملابساتها.
ملخص القصة: ان القصيدة المعروفة هي لأنور شاؤل ولكنه لم يكن في السجن اطلاقاً. من اعتقل ومكث في السجن فهو الاديب المعروف مير بصري. قصيدة أنور شاؤل جلبها صديق لعماش وكانت السبب في اصدار امر بإطلاق سراح مير. البكر لم يكن في القصة..
سأكون هنا ناقل القصة كما وردت على لسان أصحابها:
مقتطفات من الفصل المعنون "رباعية شعر تجند في عملية انقاذ " من كتاب أنور شاؤل - "قصة حياتي في وادي الرافدين" - 1980
لم تعد العرائض والشكاوى ذات مفعول أو مدلول ولم يعد بمقدور رئيس الطائفة ملاقاة المسؤولين بسهولة ليعرض عليهم ما يتحتم عرضه من شؤون طائفته. وراح وضع اليهود يتدهور بسرعة وساد أبناء الطائفة، قاطبة، جو من الهلع والفزع! وكيف لا تهلع القلوب وتفزع النفوس وزبانية مدير الامن العام (ناظم كزار) أتبع لليهودي من ظله والاعتقالات مستمرة والتحقيقات على قدم وساق وأخبار (قصر النهاية) الذي كان فيزمن مضى قصرا ملكيا يعرف ب (قصر الرحاب)، تتحدث صباح كل يوم برواية جديدة وبمأساة جديدة!
وفي هذا الجو الخانق صحوت ذات يوم على طرق حفيف في الباب، فتطلعت من الشباك فإذا بي أرى " أبا محمد" سائق سيارة صديقي مير بصري الاديب والشاعر المرموق ورئيس اللجنة الادارية لليهود العراقيين... تعوذت من هذه الزيارة المبكرة وسارعت لفتح الباب ودعوت " أبا محمد " للدخول مستطلعاً الخبر فأنبأني بأن شرطة الامن داهمت في منتصف الليلة البارحة دار الاستاذ مير وقامت بتفتيشه تفتيشا دقيقا طال حتى مطلع الفجر، ثم اعتقلت الاستاذ مير وحملته الى جهة مجهولة!... هلعت للخبر وحزمت أمري للسعي من آجل صديق حميم له منزلته لدي ومكانته لدى الاخرين، انما كيف يتسنى لمثلي أن يقوم بمثل هذه المهمة العسيرة وفي هذه الظروف الحرجة!
أجل آلمني جدا أن يقع صديقي مير في محنة كهذه وهو هو ذلك الانسان الطب الذي عمل الكثير للمجتمع بوجه عام ولطائفته بوجه خاص. وكان أول من اتصلت مستعيناً بهم رئيس الطائفة الحاخام ساسون خضوري فأستعاذ بالله واكد انه لن يألو جهداً في البحث عن مخرج للأفراج عن مير وانه في جهده الموعود انما يقوم بواجبه نحو مير وبواحدة من مهامه اليومية في تلك الحقبة الدامية، يراجع ما استطاع المراجعة ويطالب ما استطاع الى ذلك سبيلا... وكان أملي ضئيلاً في أن يستطيع رئيس الطائفة القيام بمسعى يؤدي الى اطلاق سراح مير، آية ذلك فشل مساعيه، معظم مساعيه ان لم نقل كلها، في اطلاق سراح آخرين من اليهود المعتقلين يومذاك من بينهم ولده البكر شاؤل ناجي (أبوزهير) الذي زج يه في السجن في تلك الفترة بالذات فأمضى في غياهب (قصر النهاية) سنة كاملة رهن التحقيق!
وخطر لي أن أطلب النجدة من صديقين من المسلمين، أحدهما هو الدكتور (مصطفى جواد)، عالم ومحقق وباحث كانت تربطه بي وبمير صداقة يشار اليها بالبنان، والثاني رجل قانون مرموق كان هو الاخر من أصدقائنا الطيبين. ورجوت هذين الصديقين، وكلاهما من ذوي الحظوة لدى كبار المسؤولين، أن يتوسطا لدى من يجب أن يتوسطا لديه ورحت أترقب النتيجة ويدي على قلبي فكان جواب الدكتور مصطفى جواد اعتذاراً معللاً بأن تدخلا منه كهذا لصالح يهودي متهم في وقت كهذا قد يفسر بأنه تقاضى رشوة من ذلك اليهودي! ولذا فهو لا يسعه المعاونة في قليل او كثير... تلقيت هذا الجواب غير المتوقع بأسف شديد وعلمت آنذاك أن الدكتور مصطفى جواد، رحمه الله، كان عملاقاً في التحقيق اللغوي والبحث التاريخي ولكنه لم يكن كذلك في السماحة والنجدة والوفاء.
ولكيلا يمنى الصديق مير بصري بكسر خيال من جوهر علاقته الوثقي بالدكتور مصطفى جواد لم أحدثه حتى اليوم بحديث مراجعتي له واستغاثتي به ساعة المحنة والامتحان.
أما الثاني الذي لجأت اليه فكان الصديق الوفي، ولأرمز اليه بحرف (س) الذي دلل على انه مثال الاخوة والوفاء، يسمع صرخة الصديق ويهرع لنجدته عند الضيق، واليك قصة مسعاه لتحرير الصديق مير أرويها وأثبتها هنا تسجيلاً للواقع واعترافاً بالجميل.
كان ذلك في أوائل شباط 1969 عندما جاءني الى البيت الاخ موريس خلاصجي من رجالات الطائفة العاملين وعضو اللجنة الادارية لليهود العراقيين ليخبرني ان الصديق الذي رمزت اليه بحرف (س) يطلب صورة من رباعيتي الشعرية المعنونة "الدين والوطنية أو يهودي في ظل الاسلام" التي انشدته اياها في لقائنا قبل أيام عندما حدثته بمحنة الصديق مير، فلبيت الطلب وتساءلت: وما شأن رباعية شعرية في وقت كهذا أصبحت فيه الكلمة المسموعة للمدفع الرشاش؟
ومرت أيام وأنا بانتظار ما يستجد من الامور حتى علمت ان الصديق (س) طلب الابيات لإيصالها الى نائب رئيس الوزراء (الفريق صالح مهدي عماش) الذي كان من هواة الشعر ورواته وناظميه أحيانا... قدمها اليه نموذجاً حياً لإخلاص مواطن يهودي للوطن الذي يعيش فيه.
وهذه هي الرباعية:
إن كنت من موسى قبست عقيدتي فأنا المـقــيم بظلّ ديــن محمّد
وســــــماحة الاسلام كانت موئلي وبلاغة القرآن كانـت موردي
ما نــال من حــبّي لأمّــة أحــمـــد كوني على دين الكليـم تـعبدي
سأظل ذيّاك الســـموأل في الــوفـا أسعدتُ في بغداد أم لم أسعد!
أطلع الفريق عماش على الابيات فأعجب بها كثيراً وقال انها يجب ان تنشر انما اقترح تعديلاً في عجز البيت الرابع " اسعدت في بغداد أم لم أسعد " لدلالته على الشكوى من الوضع! وهنا جرى الحوار التالي بين الصديق (س) ونائب رئيس الوزراء الفريق عماش أورده حسبما روي لي في حينه:
الصديق: ان هذه الجملة، يا سيادة الفريق، هي روح القطعة الشعرية ولا أخال ناظمها يوافق على تعديلها...
الفريق عماش: اذن فلتنشر كما هي.
الصديق: بهذه المناسبة هل تسمحون لي بكلمة أعلق بها؟
الفريق عماش: قل... ما هي كلمتك؟
الصديق: هل تعلم يا سيدي أن هناك شاعراً آخر يهودياً يحمل مثل هذه الوطنية وهذا الحب للغة العربية والاسلام هو " مير بصري"...
الفريق عماش: إني سمعت باسم " مير بصري " وقرأت له.... فأين هو الان؟..
الصديق: هذا هو بيت القصيد، انه معتقل منذ شهرين في مديرية الامن العامة رهن التحقيق..
الفريق عماش: وبأية تهمة؟
الصديق: أية تهمة؟ الله اعلم..!
وللفور أصدر الفريق عماش أمرا بنشر رباعيتي في جريدة (الجمهورية) احدى كبريات جرائد الحزب. وأوعز الى مدير الامن العام، عبر نداء تلفوني شخصي، بإطلاق سراح مير بصري بكفالة ان لم يكن موقوفاً لأمر مهم...
وفي اليوم التالي المصادف 17 شباط 1969 نشرت جريدة الجمهورية رباعيتي تحت عنوان " يهودي في ظل الاسلام " وتم إطلاق سراح مير بصري بكفالة مالية وقعتها انا في زيارة فريدة قصيرة قمت بها شخصيا لزنزانات مديرية الامن العامة وعدت منها مستصحبا معي آخي وصديقي مير بصري الذي لم يستدع، والحمد لله، الى دوائر الامن مرة ثانية."
******
مقتطفات من الفصل المعنون "54 يوماً في السجن " من كتاب مير بصري "رحلة العمر من ضفاف دجلة الى وادي التيمس" 1992
" في أول يوم من سنة 1969 عدت الى الدار مساءً فوجدت معاون الأمن مخلف منير العاني وجلاوزته يفتشون دارنا غرفة فغرفة. كان الوقت عصيباً: فقد أعلن رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر في خطاب شديد له انه سيمحق التجسس لأمريكة وانكلترة ويقضي على العملاء وأذناب الدول الغربية. وقد ألقي القبض على عشرات الرجال والصبيان، من يهود ومسلمين ومسيحيين، بتهمة التجسس وألقوا في غيابات السجون حيث عذّبوا تعذيباً مؤسياً تمهيداً لمحاكمتهم. واتهم اليهود بأنهم عبروا الحدود الى إيران في جهات شط العرب وتدربوا على حمل السلاح والقاء القنابل والمتفجرات، ثم عادوا الى البصرة ليقوموا بأعمال التخريب ويتجسسوا لحساب اسرائيل. وكانت كل تلك التهم ملفقة لا أساس لها من الصحة، والغرض منها توطيد أركان الحكم البعثي الذي استولى على مقاليد الأمور قبل بضعة أشهر.
فرغ معاون الأمن من تفتيش دارنا وأخذ بعض الأوراق وطابعتين عربية وانكليزية واعتقلني في تلك الليلة في موقف الأمن. وكانت التهمة الموجهة الّي ان احدى السيدات الأمريكيات زارتني قبل سنة أو نحو ذلك، فماذا أعطيتها من المعلومات السرية التي يستفيد منها "العدوّ الأمريكي المتربّص بالعراق شراً؟"
قلت: ان هذه السيدة تكتب أطروحة عن تأريخ العراق القديم لتقديمها الى بعض الجامعات الأمريكية. وقد جاءت بصورة رسمية واتصلت بوزارة التربية ورجال العلم والأدب للمباحثات في الموضوع الذي تتناوله. ثم أية معلومات سرية عندي عن الجيش أو غيره لإعطائها لها؟
وقد انتهى التحقيق في ساعة متأخرة من الليل ولم يتكرر بعد ذلك. وأودعت السجن 54 يوماً لم يسألني أحد شيئاً. وأذكر، والحق يقال، أنني كنت في محبسي موضع الرعاية والاحترام، فلم يمسني أحد بسوء، بل كان المساجين يحفون في ويخدمونني ويخففون عني ما أقاسي من وحشة وغيظ وشجن. وقد سمح لأسرتي بزيارتي، وكانت ترسل لي كل يوم بالطعام، فإذا حضر جلس معي عدد من المعتقلين لتناول الغداء.
كان المسجونون يؤخذون الواحد بعد الآخر للتحقيق، فاسمع أخباراً فظيعة عن تعذيبهم واهانتهم على وجه تاباه الإنسانية. وكان مخلف العاني أحد اركان التهويل والتعذيب.
ومضى على توقيفي نحو من شهرين وأنا منسيّ في سجن الأمن فلا سؤال ولا جواب. حلمت ذات ليلة حلماً غريباً: رأيتني ساقطاً في جبّ وأنا أتلمّس الخروج منه بلا جدوى. وبعد لأي مدّ لي رجل يده ورفعني برفق، فإذا بي حرّ طليق في أرض الله الواسعة. وكان أصدقائي خلال هذه المدة يسألون عني ويحاولون إنقاذي من مخالب الأمن. وقد مضى جعفر الخليلي الى الدكتور مصطفى جواد ورجاه أن يواجه الرئيس البكر الذي كانت له دالّة عليه، فاعتذر بمرضه وعدم قدرته على الذهاب. ونظم أنور شاؤول، الذي عيّنته قبل سنتين مشاورا حقوقياً لرئاسة الطائفة الموسوية، أبياتاً من الشعر:
(رباعية أنور شاؤل أعلاه)
وقدم هذه الأبيات الى المحامي سلمان بيّات الذي أوصلها الى الفريق صالح مهدي عمّاش نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية عن طريق آخيه سكرتير مجلس الوزراء صلاح الدين بيّات. استحسن عماش هذه الأبيات، وكان هو نفسه أديباً شاعرً، فحدثه صلاح بيات بأمر اعتقالي فاستغربه لأنه لم يكن يعلم عنه شيئاً. وفي الحال كلم مدير الأمن العام حامد العاني تلفونياً وأمره بإطلاق سراحي.
وفي اليوم الثاني وجدت على كيس الطعام الذي أرسلته العائلة كلمة مآلها أن الوزير سأل عنك. لم أفطن الى تلك الكلمة المثبّجة على الكيس حتى نبّهني اليها أحد الذين كانوا يتناولون الغداء معي. استبشرت خيراً بعد هذا، ولم يلبث معاون الأمن أن استدعاني الى غرفته وقال: إنك هنا منذ ما يقارب الشهرين بدون ذنب جنيته، فلماذا لا تطالب بإخلاء سبيلك؟ قلت: مع من أتكلم ولمن أطالب؟ فناولني قلماً وورقة وقال: اكتب عريضة لنقوم بما يجب. قلت: نسيت الكتابة خلال هذه المدة.
قال: عجباً. وكتب هو نفسه العريضة وناولني القلم وطابعاً مالياً بقيمة 50 فلساً وقال: وهل نسيت كيف توقع أيضاً؟ فوقعت وربطت بكفالة اسمية تفضل بإمضائها الأخ أنور شاؤل وذهبت الى الدار مطلق السراح، في 24 شباط 1969. وقد أعيدت أوراقي، لكن الطابعتين حجزتا لأن الرجل في العراق لا يستطيع امتلاك آلات طابعة يكتب بها المناشير والرسائل!
كانت تلك تجربة قاسية لم آلفها في حياتي وخلّفت في نفسي مرارة على مدى الأيام.
وعلمت بعدئذٍ ان سبب اعتقالي لم يكن مجيء السيدة الأمريكية الى دارنا وانما كانت الرغبة في حجزي احتياطاً خلال مدة محاكمة المتهمين بالتجسس وادانتهم واعدامهم. كنت، وأنا رئيس اللجنة الادارية لليهود العراقيين، مع رئيس الطائفة الحاخام الأكبر ساسون خضوري الوحيدين اللذين نرفع صوتنا ونراجع المسؤولين من رجال الحكم بشأن الرجال والشبان اليهود الذين لفقت عليهم تهمة التجسّس، فكيف السبيل الى اسكاتنا؟ كان الحاخام يتجاوز الثمانين من عمره. فأكتفت دوائر الأمن بتوقيف ولده شاؤل ناجي في قصر النهاية الرهيب وتعذيبه تعذيبا مؤلماً ولم يطلق سراحه الا بعد عدّة أشهر. وقد سكت الحاخام ساسون مضطراً مشفقاً على ولده، أما أنا فأوقفت لئلا أستطيع الكلام. وأخلي سبيلي بعد انتهاء مهزلة المحاكمة والشنق، حين ضجّت المحافل الدولية بالتنديد بالعراق وسلطاته وطالبت بإطلاق سراح مئات الموقوفين واعادة الحقوق المدنية الممنوعة لأبناء الطائفة اليهودية الباقين في بلادهم."
430 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع