مصاطب الرمل .. خمس سنوات في ليبيا - الفصل الرابع محمد سهيل احمد
أسير الـوادي
يشكل وادي جارف خطا متوازيا مع شاطئ البحر الابيض المتوسط الذي تفصله عن الوادي مسافة ثلاثة او اربعة كيلومترات ، والأمر نفسه ينطبق على طريق طرابلس ــ بنغازي الدولي . والغريب ان تسمية وادي لا تنطبق تماما على هذه الواحة التي تمتد لما يزيد عن العشرين كيلومترا باتجاه الغرب . لم التق مرتفعات شاهقة ولا روابي على امتداد الطريق الإسفلتي المتأنق من حيث التبليط بل شاهدت مزارع زيتون تتخللها مساحات يزرع فيها الشعير والدلّاع الأرقط ( الرقي او البطيخ الاحمر ) وانواع قليلة اخرى من الخضروات . والمنطقة قليلة السكان معظمهم من البدو الذين ينتمون الى قبيلة القذافي وهم يتمركزون في القسم الغربي من الواحة والتي يطلق عليها تسمية السبعة اكتوبر . وهي منطقة مزارع ووديان خفيضة اذكر ان سليمان الاورفلي مدير مدرستنا الطيب حدثني عن بعضها كوادي الحمير ووديان اخرى ذات صلة وثقى بالرمال الحمر التي تشكل ارض جارف مانحة إياها خصوبة يندر توفرها في الصحراء التي تبتدئ بعد بضعة كيلومترات جنوبا . كما قيل لي ان العقيد معمر محمد عبد السلام ابو منيار القذافي مولود في احدى قرى الوادي اسمها ( جهنم ) قريبة من مكان يسمى ( شطيب الكراعية ) وهي البقعة التي ترعرع فيها العقيد ورعى فيها أغنام القبيلة والـ ( بِلْ ) او الإبل قبل ان تتفتح عيناه على الحياة العسكرية التي قادته بدورها الى الزعامة السياسية . الواقع ان مدير المدرسة دعانا نحن المدرسين العراقيين الى رحلة قصيرة في هذه البقعة الغربية حيث مررنا على مزارع خضر معتنى بها قال لنا إنها تضم بيت استراحته ، وبضعة بيوت لا تخلو من الأناقة غير انها تفتقد الى تلك الأبهة التي يستشعرها الناظر وهو يمر ببيت احد الأمراء في بلدان اخرى ، ولعل تلك البساطة مبعثها السايكولوجية البدوية المتأصلة في الشخصية الليبية والدليل على ذلك ان العقيد اعتاد الإقامة في خيمة كلما حضر مؤتمرا او مناسبة هامة واذكر انه أقام واحدة في احد المؤتمرات المقامة خارج البلاد !
كانت رحلة استثنائية بددت الكثير من غيوم السأم التي طوقت أيامي في منطقة لم اشعر بأنني عينت فيها مدرسا بل جرى اقتيادي اليها كأي أسير او سجين مع افتقادنا لأية مقهى او أي مكان للهو البسيط . وما اذكره هو ان الرحلة كانت عناقا مع الطبيعة استنشقنا فيه هواء الصحراء نقيا وامتلأت انوفنا بروائح الدخان المنبعث من وجبة ( الخبز والجمر ) التي قام المدير ــ خلال الرحلة ــ بإعدادها شخصيا حيث قام بدفن أرغفة كبيرة الحجم في رمال الصحراء مغطيا إياها بأغصان اشجار متيبسة واشواك عوسج عملاقة ثم عمد الى إشعال النار فيها لبعض الوقت ليخرجها شهية ناضجة قمنا بالتهامها مع ( الشرمولة ) وهي اكلة تعمل من لحم التونا تضاف اليها الطماطم والهريسة أي الفلفل ومن ثم تقدم مع المشروبات الليبية المشابهة للبيبسي والميراندا والكوكا كولا .
وتعد اكلة ( الكسكسي ) من أشهر الأكلات الليبية إضافة الى اكلات أخرى تتميز بخشونة مواد إعدادها كأكلة ( البازين ) التي تعتمد الشعير مادة اساسية لها .واكلة ( العصبان ) التي تستخدم أمعاء الأغنام في اعدادها . اما ( الزميتا ) فهي زاد البدوي المترحل في صحارى ليبيا الشاسعة وتعتمد على مادتي الشعير والدبس في اعدادها ، وتعد من الوجبات المشبعة والعسيرة الهضم في آن معا .
كان عاما دراسيا قاسيا لاختلاف البيئة او الوسط الذي عملت فيه اضافة الى عدم توفر وسائل التسلية ناهيك عن ان الدولارات القليلة التي أحضرتها معي أخذت بالنفاد كما كان علينا الانتظار لبضعة شهور قبل ان نتسلم اول راتب ليبي , وما حدث هو أنني تسلمت راتبيٍ الأول بعد مضي ما يقارب الثمانية شهور بنهاراتها ولياليها . كان البيت الذي نسكن فيه مقاما على ربوة مفروشة بالحصباء الغليظة اعتدنا ان نراكم بعضا من أحجارها من اجل الجلوس عليها وتمضية الوقت بأحاديث منوعة عن اجراءات التعيين والإقامة التي كان لابد من اتمامها بالذهاب الى دائرة تعليم سرت ذات الصلاحيات الأوسع ، لكن كيف الوصول الى سرت بعد ان علمنا ان سائق الباص الغى خط جارف سرت الذي يبدو انه كان خط المواصلات الوحيد بين المدينة وضواحيها مما كان يضطرنا الى الذهاب مع اهالي الوادي ممن يمتلكون السيارات وفي بعض الأحيان بيكبات البيجو الرصاصية القديمة الطراز ، مجانا او لقاء أجور متفق عليها ؟
ودفعا للسأم القاتل قمت بابتياع مذياع بطارية صغير الحجم طويل الهوائي تمكنت عن طريقه من الاستماع لإذاعات بعيدة غير ان أوضحها كان إذاعة الكويت ! كنت في أوقات الأصيل أغادر بيت السكن الى تلك الربوة مصطحبا مذياعي الصغير مقتعدا صفيحة تنك فارغة مغروزة في رمل الرابية مطلا على المزرعة الشاسعة المساحة والأقرب إلينا والتي يسكنها أولياء بعض طلبة مدرسة قضوار السهولي التي كنت اعمل فيها مدرسا لمادة اللغة الانكليزية . كنت المدرس الوحيد للمادة في مدرسة تضم عددا كبيرا من الطلبة يتطلب تدريسهم تعيين ثلاثة مدرسين إضافيين في الأقل ولكن كان عزائي في ان توزيع الحصص على المراحل الدراسية لم يكن مكتظا : ثلاث حصص في الأسبوع لا اكثر . وعموما ألغيتْ مادة اللغة الانكليزية في المدارس الليبية لعدد من السنوات على يد احمد ابراهيم احد أقرباء القذافي ، كردود افعال للغارة التي شنتها الولايات المتحدة على ليبيا سنة 1986 ايام حكم رونالد ريغان . غير ان التربية الليبية اعادت العمل بتدريسها قبل فترة قصيرة من مقدم قوافل العراقيين للعمل كمدرسين في مدارس ليبيا .
بشكل عام بقي التعليم في ليبيا مضطربا غير مستقر ، فبين الفينة والفينة كان النظام يستقدم بضعة مدرسين أفارقة لتعليم اللغة الانكليزية والمواد الاخرى إضافة الى وجود عدد من أبناء السودان وجنسيات اخرى متفرقة . غير ان التواجد المصري كان الأكبر وبالذات في مدينة بنغازي والمدن الشرقية المتاخمة لمصر في حين ينحسر ذلك التواجد كلما تقدمنا غربا ولهذا كان عدد المدرسين المصريين لجميع المواد لا يتجاوز أصابع اليد في منطقة جارف وما حولها . وعن تجربة مدرستنا مع المدرسين الأفارقة يروي مدير المدرسة سليمان الطرفة التالية : من بين المتعاقدين مع الجانب الليبي عيّن مدرس للغة الانكليزية من غانا يدعى ( كوابينو دان فو ) وكانت انكليزيته جيدة بشكل عام وتدريسه لا بأس به ، غير انه كان عصبيا سريع التوتر. وفي مرة من المرات احضر ثلاث بيضات الى غرفة المعلمين لغرض استخدامها كوسيلة تعليم مساعدة . ولخشيته من ان يتناولها احد زملاء الغرفة أخفاها في دولاب الغرفة توقعا لزيارة احد مفتشي المادة ، وبالفعل قدم المفتش للمدرسة فاصطحبه المدير إلى إحدى حصص المدرس الغاني الذي أسرع بالاستئذان لإحضار بعض الطباشير الملون اضافة الى البيضات الثلاث ولكنه عاد للصف ممتقع الوجه وقد امسك الغيظ بتلابيبه اذ بحث عن البيضات فلم يجدها . وفيما بعد علم ان فراش المدرسة الذي كان في ذلك اليوم المستطير في حالة خلاف مع زوجته أدى الى عدم
تقديم وجبة الإفطار لزوجها الفراش فداهم غرفة المعلمين وقام بالتهام البيضات الثلاث مع الخبز والشاي بطبيعة الحال ما أدى الى ان المفتش كتب تقريرا سيئا بحق كوابينو الذي قدم استقالته في اقرب فرصة ممكنة ليعود الى موطنه بخفي حنين !
يـتـبــــــــع
للراغبين الأطلاع على الجزء الثالث:
https://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/65156-2024-10-10-16-44-33.html
995 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع