قصة الجمعية البغدادية..لذاكرة منتسبيها و روادها
لقد فكرتُ في الكتابة عن الدور الذي قامت به الجمعية البغدادية، خاصة بعد أن فقدنا عدداً كبيراً من أعضائها المؤسسين الذين رحلوا عن هذا العالم خلال العقود الماضية. لعلني أستطيع أن أسجل بهذا المقال ما قام به هؤلاء من نشاط فكري و ثقافي.كانت الجمعية بالحقيقة جمعية تراث و فنون و لم يقدّر لها العيش إلا خمسة أعوام، و خمسة أعوام في عمر أي تنظيم قصير جداً، و إن كانت شمعة خفتت و أنطفأ ضياؤها بسرعة، لكنها ظلت مضيئة في قلوب و مخيلة أعضائها المنتسبين إليها.
فبعد الأحداث الدامية التي شهدها العراق، بالانقلاب على رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم والقضاء على عهده، في شباط عام 1963، اختفى عدد من المفكرين و المثقفين اليساريين في غياهب المعتقلات و السجون التي أدت إلى موت البعض منهم، و فُصل عدد كبير من الناس من أعمالهم ووظائفهم. و لو أن تلك الأحداث لم تدم أكثر من بضعة أشهر، لكنها تركت سحابة معتمة في أجواء العراق، و انتهت بانقلاب عبد السلام عارف عندما شعر أن مقاليد الحكم ستفلت من بين يديه. مرّ على العراق في فترتي حكم عبد السلام عارف و أخيه عبد الرحمن عارف، نوع من الهدوء النسبي، و شعرت الفئة المثقفة بفراغ كبير، فقد كانت بحاجة إلى سدّ تلك الثغرة الفكرية التي تعاني منها. كان هدف تأسيس الجمعية في أن تكون مقراً يجتمع فيه الفنانون و محبو الفن و أصدقاؤهم، لكي يمارسوا النشاطات الفنية و الثقافية. كما كان الهدف أيضاً في إحياء بعض الطقوس التقليدية و تهذيبها، و الحفاظ عليها.
بداية الفكرة
عاد إلى العراق في بداية الخمسينيات فئة كبيرة من الذين درسوا في الجامعات الغربية، خاصة الفنانين من الرسّامين و النحّاتين و المعماريين. كانت تتوق تلك الفئة إلى مكان يجمعهم، فلم يكن في العراق جمعيات تجمع المثقفين بصورة عامة، و قد عجزت الأندية التي كانت متوفرة في بغداد عن جمع كافة المفكرين و المبدعين، إذ كانت أندية يلتقي فيها أصحاب المهنة الواحدة. فكانت تلك الجماعات تعمل بمعزل عن بعضها البعض، و ليس هنالك مؤسسة ثقافية شاملة لجميع تلك الفعاليات.
لذا اضطر بعض أولئك المبدعين والفنانين والمعماريين المشتتين على الاجتماع في دور بعضهم البعض، ينتقلون من بيت إلى آخر، واتخذت تلك اللقاءات طابعاً أسبوعياً، بُحث فيها ما كان يدور في أوربا من آخر التطورات والنظريات الفنية والفلسفية التي تتعلق بالناحية الأستطيقية/الجمالية. كانوا في نقاش وجدل مستمر، كما شمل النقاش تطوير و خلق فنّ عراقي، بريشة حديثة، لكنه فنّ غير تقليدي. إذ كانت فئة لا يجمعها خط سياسي معين، فبينهم اليساري الذي يؤمن أن وظيفة الفن هي خدمة المجتمع، و منهم من يؤمن أنّ الفنّ يجب أن يتعالى عن ذلك، و لا يعني بمشاكل الحياة اليومية. كانت تتخذ تلك اللقاءات في بعض الأحيان شكلاً عنيفاً من النقاش، خاصة في نهاية الأمسية، بعدما احتسى بعضهم كمية كبيرة من الجعة و الكحول. استمرت تلك اللقاءات الأسبوعية عند عودة المعمار قحطان عوني من الولايات المتحدة و المعمار رفعة الجادرجي من لندن إلى بغداد. اللذان كانا صديقان قبل سفرهما للدراسة.
كان قحطان عوني شخص يفيض بأفكار جديدة، منذ عودته من الولايات المتحدة بعد أن أنهى دراسته المعمارية في جامعاتها، و صديق رفعة منذ سنّ الطفولة، يصغيان للموسيقى الكلاسيكية و يتتبعان التطورات الفنية في داخل و خارج البلد. و عندما عادا إلى بلدهما عادت لقاءاتهما، بعد أن تخصّصا بالعمارة. كان قحطان مليئاً بالحيوية و النشاط، متفائلاً بالمستقبل بعد عودته إلى بغداد، يحاول أن يقوم بخدمة يؤدّيها لبلده و لأصدقائه و يحاول أن يطبِّق ما يحوم في داخله من أفكار. فاستأجر بناية الكمرك القديمة الطراز، كانت بناية واسعة مطلة على نهر دجلة، و حوّلها إلى مطعم. فأعاد تصميم القاعات الكبيرة و جعل منها مطعماً و مرقصاً في آن واحد، و دعا في ليلة الافتتاح جميع أصدقائه و معارفه من الفنانين و المعماريين و النحاتين و الكتّاب ليكون في المستقبل ملتقى لتلك الفئة، لكنّه فشل في إدامته، إذ كانت بناية ضخمة مكلفة، من الصعب إدامتها، تحتاج إلى تفرّغ، فلم يكن قحطان بالشخص الذي عنده مثل هذا التفرّغ. بعد أن فشل في إدامة المطعم، فكّر في جعل دار والده مطعماً، ليصبح مكان لقاء و اجتماع لتلك الفئة من المثقفين.
ففتح أبوابه لعامة الناس في نهاية عام 1963. كانت إدارة دار والده أسهل عليه من إدارة بناية الكمرك، لأنّه حوّل الطابق الثاني إلى مكتب معماري، فأصبح بإمكانه أن يوفق بين الاثنين.
بدأت تلك الفئة تلتقي في مطعم قحطان عوني، و أصبحت معظم دعوات العشاء تقام فيه مطعمه. كان مطعمه معتمداً على تقديم اللحوم المشوية المنوعة. لكن بدأت مدخنة المطعم تقذف بدخانها المتواصل، جاعلة منه لولباً أسوداً متصاعداً في أجواء شارع طه. مما أضطر والد رفعة السيّد كامل الجادرجي أن يكتب رسالة إلى قحطان يخبره فيها عن شكوى الجيران من الدخان الأسود المتواصل الذي عمّ شارعهم و بيوتهم.
كان قحطان عوني يزور رفعة في الأسبوع مرّتين أو ثلاثة مرات صباحاً أثناء الفطور، و ذلك بعد أن استقال رفعة من وظيفته الحكومية بسبب انقلاب 1963. كانا يتحدّثان عن آخر التطوّرات المحلية و العالمية في الفنّ، فبحثا الرسالة التي استلمها قحطان من كامل الجادرجي، و وجدا أن عليهما أن يجدا مقراً آخراً غير دار والده.
خلال إحدى الامسيات عندما كان كل من رفعة و قحطان و نزار على جودت مجتمعون في المطعم، أقترح أحدهم تأسيس جمعية تمارس الفن، تبلورت الفكرة بعد أن بحثاها مع عدد من الأصدقاء من الفنّانين و المفكرين. و هكذا وُلدت فكرة الجمعية.
فقدّم الطلب و صدرت الموافقة على تأسيسها من قبل وزارة الداخلية. و اقترحت عدّة أسماء لتسمية الجمعية، منها جمعية التراث و الفنون، لكن مدحت الحاج سري اقترح تسميتها بـ "الجمعية البغدادية".
فقصّة الجمعية هي قصّة كوّة صغيرة نشطت في مجال الفن في بغداد لفترة قصيرة جداً من الزمن.
تأسيس الجمعية:
اجتمع بعض أصدقاء قحطان و رفعة في مطعم قحطان، و بحثوا التفتيش عن موقع للجمعية، فاقترح عليهم رفعة الجادرجي دار محمود صبحي الدفتري في محلة الحيدرخانة، و هي دار تقليدية كبيرة جداً، بحدائق في وسطها. و لكن بعد زيارة الدار، وجدوا صعوبة في إدامة المبنى، لأنه كان مبنىً قديماً متهرئاً بسبب تركه من قبل العائلة، و عدم توفر موقف للسيارات. فاقترح محمد سليم الراضي دار حكمت سليمان في حي الصليخ، الذي تتوفر فيه المواصفات التي تحتاج إليها الجمعية.
انعقد أول اجتماع في الدار فحضر كل من:
الدكتور كمال السامرائي: دكتور متخصّص بالأمراض النسائية، لكنّه كان متتبّعاً التراث العربي، فقد ألّف كتاباً بمجلدين بعنوان "مختصر تاريخ الطب العربي" كما كان له اهتمامات في الموسيقى العربية.
الدكتور خالد القصاب: و هو طبيب جرّاح تخصّص بمرض السرطان، رسّام و عضو في جمعية "إس بيSociety Primitive " التي أسّسها الرسّام فائق حسن بعد عودته من دراسته في باريس في الأربعينيات من القرن الماضي. كما كان يشارك بالعرض في المعارض التي كانت تقام في بغداد.
الدكتور و الفنان خالد القصاب
الدكتورة لمعان أمين زكي: طبيبة أطفال، لها من رقة الخلق و الصبر مّا جعلها مثالية في هذا الحقل، كما كان لها اطّلاعاً واسعا في التراث البغدادي الشعبي، كانت موسوعة في هذا المجال، لكن للأسف لم تسجّل شيئاً من معرفتها.
السيّد فيصل الدملوجي: و هو من المهتمّين بالحفاظ على التراث العراقي، بالرغم أنّه سياسي بالدرجة الأولى، كان نائباً في المجلس في العهد الملكي، و لكن لم يطغَ اهتمامه السياسي على الاهتمام الثقافي.
الدكتور محمّد مكية: المعمار و المدرّس في جامعة بغداد الذي كان له فضل كبير في تأسيس الفرع المعماري في جامعة بغداد. متتبّع للحركات الفنّية العالمية، و مكتبته زاخرة بالكتب التاريخية المهمّة من الطبعة الأولى.
السيّدة سعاد العمري: كانت من سيّدات مجتمع بغداد، لكنّها لم تبالِ بقيم طبقتها التي تفرض قيوداً تكبّل المرأة، فقد أصبحت مديرة محلات أوروزدي باك، و شقت بذلك الطريق أمام المرأة في العمل التجاري و أثبتت بعملها هذا للمجتمع العراقي التقليدي أنّ ذلك لا ينتقص من شخصية المرأة.
السيّد محمّد سليم الراضي: الذي كان من أوائل المتخصّصين بالزراعة من إحدى الجامعات الأمريكية. و لو أنه لم يستمر في ذلك الاختصاص، بل انتقل إلى السلك الدبلوماسي، فعمل سفيراً في الهند لمدّة ثماني سنوات، كما كانت تجمعه صداقة عائلية مع الرئيس "نهرو". كانت زوجته سعاد الراضي لا تقلّ عن نشاطاً عن زوجها، إذ كانت في الهيئة التأسيسية لمنظمة الهلال الأحمر.
السيّد محمّد عبد الوهاب: محامي و تاجر، لكنّه ضليع في معرفته للموسيقى الغربية، كان عضواً مهماً في الاجتماعات الشهرية الموسيقية التي كانت تقام في بيوت مجموعة من المثقفين.
السيّد نزار علي جودت الأيوبي: درس العمارة في جامعة هارفرد، و التقى بالطالبة التي كانت تدرس معه العمارة "ألن جودت" التي ساهمت مع زوجها في تطوير العمارة، و جلبت معالم "الباوهاوس" إلى العمارة في بغداد.
السيّد مدحت حاج سري: كان أمين عاصمة بغداد، و اهتمّ بتحديث مدينة بغداد، و إيجاد ترقيم صحيح لها، و لو أنّه كان ضابطاً، إلا أنّ اهتمامه المتواصل في المحافظة على تراث بغداد و إنعاشه، جعله أن يكون رئيساً للجمعية.
المعمار قحطان عوني: معماري، خريج جامعة كاليفورنيا، أقدم على نشاطات ثقافية متعددة، كان رساماً جيداً، و اشترك بمعارض فنية، له اسهامات مهمة في تطوير العمارة العراقية.
المعمار رفعة الجادرجي: معمار، خريج مدرسة همرسمث في لندن، أسس الاستشاري العراقي في الخمسينيات، أقدم على نشاطات ثقافية كثيرة، له دور في تطوير العمارة العراقية. كما باشر في بداية الستينيات تصميم الأثاث الخشبية و افتتح معرضاً لها باسم "إيا"، سعى منذ تصماميه الأولية أن يصهر بين الحداثة و المعالم التراثية مما يضفي خصوصية عراقية إلى الحداثة.
واختار المجلس السادة التالية أسماؤهم:
المعمار قحطان عوني، المعمار رفعة الجادرجي، الدكتور كمال السامرائي، الدكتور خالد القصّاب، الدكتورة لمعان أمين زكي، السفير محمد سليم الراضي، العقيد مدحت الحاج سري، المعمار نزار علي جودت ، المحامي محمّد عبد الوهاب، و النائب السابق فيصل الدملوجي.
و اختار المجلس رئيساً مدحت حاج سري، و نائب الرئيس محمّد سليم الراضي، و سكرتيراً رفعة الجادرجي.
كما تألفت عدّة لجان و كلّ لجنة كانت تتألف من أربعة أعضاء: الثقافة و التراث بإشراف الدكتور محمّد مكية، المسرح: جبرا إبراهيم جبرا، الفنون: الرسّام إسماعيل الشيخلي، الموسيقى: محمّد عبد الوهاب و نائل سمحيري، السينما: محمود عثمان و رفعة الجادرجي، النادي: لمعان البكري. و عُيّن "البير" محاسباً للجمعية، و كان بالإضافة إلى ذلك مسؤولاً عن نظافة الجمعية و عن جلب الأفلام من دور السينما، و ضبط هوية أعضاء الجمعية، و غيرها من الأعمال الروتينية اليومية. و كان يتلقى التوجيهات الأساسية من سكرتير الجمعية رفعة الجادرجي.
كما عُيّن الطبّاخ "عيسى" طبّاخاً دائماً للجمعية. كان عيسى طبّاخ الخطوط الجوية العراقية، و عمل قبلها طباخاً في السفارة الأمريكية، و عندما التحق بالجمعية، ارتفع مستوى الطبخ في المطبخ لدرجة من التقانة و الجودة و التنويع، مما أدّى بمعظم أعضاء الجمعية أن يقيموا دعواتهم في الجمعية بدل بيوتهم، و أدّى ذلك إلى خلق جو من التعاون.
و منذ تأسيس الجمعية، حاول المؤسّسون إيجاد حلّ للمحافظة على مستوى الجمعية، لكي لا تحيد عن أهدافها و عن الخط الذي عليها أن تتبعه بمجرّد تغيير أعضاء المجلس من خلال الانتخابات، لذا جعل المجلس العضوية نوعين:
أعضاء من درجة (أ) لا يتجاوز عددهم المئة عضواً، لهم الحق في التصويت، و هم الذين يديرون نشاطات الجمعية و يحافظون على اتجاهها الفنّي. شرط أن يكون هذا العضو فعالاً في مجال إحدى الفنون.
أعضاء من درجة (ب) لا يحق لهم التصويت، أو اختيارهم في الهيئة الإدارية، أما عددهم فغير محدود، و هم بصفة أعضاء زوّار، يتمتّعون في جميع نشاطات الجمعية الفنية و الاجتماعية و الأدبية.
أثار هذا التقسيم منذ بداية تأسيس الجمعية غضباً و نقاشاً حاداً و احتجاجاً من قِبَل الأعضاء (ب)، ممّا أدّى إلى غضب البعض و سخط الآخر و الحقد على الجمعية و مؤسّسيها. كان ذلك بمثابة ناقوس خطر و إنذار بنهايتها السريعة. كان الغرض الرئيس من هذا التقسيم، هو الخوف من انزلاق الجمعية عن نهجها الذي من أجله وُجِدَت، و تسرّب عناصر لتخريبها، لكن خلق هذا التقسيم في الوقت نفسه نوعاً من التكاتف و التعاون بين أعضاء (أ)، فقد حُدِّدَت عضوية (ب) بعشرين ديناراً عراقياً سنوياً، أمّا عضو (أ) فقد كان ضعف ذلك أي أربعون ديناراً سنوياً.
كان هذا المبلغ زهيداً، إذا ما قيس بالفعاليات و النشاطات التي كانت تقوم بها الجمعية، و التي كانت تفوق المبالغ التي تحصل عليها من الأعضاء. و عندما كانت الجمعية تجابه أزمة مالية، كان يتصل سكرتير الجمعية رفعة الجادرجي بمؤسّسي الجمعية من الأعضاء، ليتبرّعوا بالتساوي المبلغ الذي تحتاج إليه الجمعية. لم يكن الأعضاء يتثاقلون أو يبدون انزعاجهم من تلك التبرّعات الإضافية، بل كان معظمهم يدفعونها برحابة صدر، و إن لم تسد الحاجة تلك التبرّعات، كان رفعة و قحطان يدفعان ما تحتاج إليه من مصاريف من حسابهم الخاص. فأصبحت الجمعية بالنسبة لأعضائها كالطفل الذي بدأ يترعرع و هو بحاجة دائمة إلى عناية و جهود متواصلة.
اتخذت دار حكمت سليمان الواقعة في حي "الصليخ" شمال مدينة بغداد، مقراً للجمعية التي كانت مقابلة لداره الواقعة على نهر دجلة. و الدار مبنيّة من اللبن و الطابوق، ذات جدران سميكة، تقي بذلك البرد في الشتاء و تحمي من حرارة قيض بغداد. يحيط الدار سياج مرتفع، من ثلاثة جوانب، و ينتهي الجانب الرابع بالبستان الذي يعود للسيّد حكمت سليمان.
تبدأ الدار برواق (مجاز) يؤدّي إلى فناء الدار، على جانبيه غرفتان، ثم فناء الدار الذي على جانبيه غرفتين أيضاً. و قد صمم رفعة الدار في إعادة تصميم علاقات الأحياز، ففتحت بعض الغرف و توسعت البعض منها، كما تغيير بعضها إلى مرافق. فأصبحت الغرفة التي على اليمين في بداية مدخل الدار مشرباً.
صمّم قحطان عوني المشرب و أثاثه. فطُليَت جدرانه باللون الأبيض، و تدلّت من سقفه أشكالاً خشبيةً متداخلةً ببعضها، مكوّنة أشكالاً هندسية مكعّبة و مسدّسة و مثّمنة متداخلة بعضها البعض، على شكل متحرّك تختفي تحت تلك المجسّمات التكعيبية مصابيح الكهرباء. كان قحطان يحاول أن يجمع بين الثُريا الكلاسيكية و بين الأشكال الهندسية الحديثة. فبنى في الجهة المواجهة للمدخل حاجزاً خشبياً من الصاج، بارتفاع أكثر من متر، يقف خلفه النادل لتقديم ما يطلبه الأعضاء من مشروبات و وُضِعَت على رفوفه الخشبية، صف من القناني لأنواع المشروبات المختلفة. أمّا الجانبان الآخران فقد صُفت بكراسي من خشب الصاج المغلف بالجلد الأسود بتصميمٍ حديثٍ مع الطاولات الصغيرة التي صفت أمامها.
أصبح المشرب الملتقى الدائمي لأعضاء الجمعية قبل بدأ أيّ نشاط ثقافي، و زار ذلك المشرب عدد كبير من الشخصيات ذات الشهرة المحلية و العالمية، من الفنانين و الادباء، و كان من بينهم روبرت كولبنكيان، الذي جاء إلى الجمعية بدعوة من قبل رفعة الجادرجي إلى بغداد، كان روبرت كولبيكيان عضو في مجلس إدارة مؤسسة كلبنكيان التي كانت تمتلك 5% من حصة نفط العراق.
كان روبرت كولبكيان، يتردّد على بغداد في تلك الحقبة، إذ موَّل بناء ملعب الشعب في مدينة بغداد، و لا زال الملعب الرئيس فيها. و كان رفعة المفاوض نيابة عن الحكومة العراقية حول بناء الملعب و لذا كان اتصال عمل بينهما.
حينما كان روبرت كولبكيان في المشرب بصحبة رفعة، سأل أيّة خدمة ممكنة يستطيع القيام بها للجمعية؟ إذ تبرعت مؤسسته بمبالغ مالية لعدة مؤسسات في العراق. أجابه رفعة: توقيع إسمك على جدار المشرب، خلف النادل. تردّد كولبكيان بادىء الأمر، ربّما لأنّ الجدار كان أبيضاً مصقولاً، ناصع البياض، عندئذ أخرج رفعة قلمه من نوع pental من جيبه و وقّع اسمه، فتشجّع كولبكيان و أخذ القلم من رفعة و وقّع اسمه. و أخذ القلم ينتقل بين أيدي الحاضرين يوقّعون أسماءهم على الجدار، بصورة عفوية تدلّ على التفرّد، في اختيارهم المكان و حجم و لون التوقيع. و منذ ذلك الحدث أصبح توقيع الاسم القاعدة لكلّ من يزور الجمعية. و امتلأ الجدار بالأسماء، التي كوّنت سجلاً لتاريخ الجمعية من خلال حياتها القصيرة.
أمّا الغرف المطلة على الجهة الأخرى من الرواق، فقد فتحت على بعضها البعض، و حوِّلت الغرف الثلاث إلى قاعة كبيرة، تُستعمَل لفعاليات مختلفة. و بُنِيَ في نهايتها مسرحاً صغيراً لغرض إقامة المسرحيات و المحاضرات و عرض الأفلام، و الحفلات الموسيقية، في فصل الشتاء. و كانت تلك القاعة تُستعمل كمطعم في الأيام الاعتيادية.
كان الرواق يؤدّي إلى شرفة "طارمة" بارتفاع مترين عن الحديقة. جعل هذا الانخفاض الحديقة من أبرد حدائق بغداد في الصيف. كانت الحديقة تمتاز بأشجارها الباسقة الارتفاع من النخيل الشامخ بسعفه، و شجر الحور بأوراقه الوارفة، التي تتألأ عندما تكسيها أشعّة الشمس بصفرتها و لمعانها، و تعطي ظلاً و برودة ممتعة أثناء النهار. تنساب على جانبها ساقية، تجري مياهها ببطء، فتقطع الحديقة لتسقي البساتين المحاذية لها.
كان غروب الشمس في الجمعية رائع الجمال، فتنحجب الشمس عن أنظارنا، رويداً رويداً، و تتلألأ أشعتها الحمراء بين أغصان الأشجار، لكن كان البعوض يحتلّ المكانة الأولى، و يقلب متعة الغروب و جماله، إلى الحذر و الوقاية من مشاركته بنهش اجسادنا.
كان خرير ماء الساقية الممتزج برفيف الأغصان المتدلية من الأشجار و برودة الليل و سكينته يضفي جمالاً و سحراً على تلك الليالي. كما كانت المصابيح الخافتة متناثرة بين أشجار الحديقة، و لم يكن إلا مصباح المشرب ساطعاً بإضاءته، إذ كان لليالي الجمعية سحر خاص بها.
كان المشرب الصيفي يقع في بداية الحديقة، و كان الزوّار يطلبون المشروبات المتنوّعة، التي تجلب لهم من قِبَل النادل على الطاولات الموزَّعة في زوايا الحديقة. أو كانوا يحملون في معظم الأحيان كؤوس الجعة أو الويسكي أو العصير، يجلسون بهدوء و يرتشفونها ببطء.
افتتاح معرض الرسم:
كان التعاون بين أعضاء الجمعية كأعضاء أسرة واحدة، فعندما افتتح رئيس الوزراء السيّد عبد الرحمن البزاز معرض الرسم الذي أقيم في صيف عام 1964، طلب رفعة من أعضائها التعاون، فوزّع الأعمال على عضوين مسؤولين عن القاعة، و عليهما ألا يتحرّكا مهما حدث، باعتبار أن الجمعية مسئولة عن الناحية الأمنية، فلم يسمح بتدخل موظفي الأمن بل ظلوا منتظرين خارج الجمعية. لكن بدخول رئيس الوزراء إلى الجمعية، فرغت القاعات من الأعضاء المسؤولين عنها، و إذا بهم يسيرون خلف وفد البزاز، كانت تلك تجربة تدلّ على صعوبة فرض النظام و تطبيقه و إتباعه من قبل الأعضاء.
كما هيأت لجنة النادي المؤلفة: من السيّدة لمعان البكري، و السيّد محمّد سليم الراضي، بالتعاون مع نزهت عقراوي و سعاد الراضي و نيرة عبّاس، الترتيب و الإشراف على الحفلة.
فنظّمت نزهت عقراوي الطاولات على جهة من الحديقة، التي تشرف على ساقية الماء التي تمرّ بها. و وزّعت كراسي الجلوس حول الساقية، و غطيت الطاولات بأغطية بيضاء، ثم وضعت الفاكهة على الثلج في أواني من الصفر/النحاس المزخرف، كما وضعت بينها أطباق الكليجة المنوّعة التي جلبت من قِبَل أعضاء الجمعية. و نشرت بينها الأزهار و الأغصان التي زيّنت أغطية الطاولات و أضافت لها جمالاً و أناقة.
كان الافتتاح ناجحاً، و اغتبط أعضاء الجمعية بذلك النجاح، كان افتتاحا يختلف عمّا اعتاد عليه المسؤولون في السلطة، من غير ضجيج و من غير حفاوةِ مغالِ بها.
قاعة السينما الصيفية:
صمم رفعة قاعة السينما الصيفية في بداية صيف عام 1964، في موقع يقع في نهاية الحديقة بجانب الساقية التي تحيطها الأشجار الشامخة الارتفاع. محافظاً على الأشجار المحيطة بها. كان مدرج السينما من أجمل قاعة عرض للأفلام في بغداد، بالرغم من صغر حجمها، فقد كانت تسع مئة شخص تقريباً. و صمّم غرفة العرض على شكل لولبي مدوّر، لكي لا تعطي انطباع غرفة اعتيادية، إنّما شكل نحتي منسجم مع ما يحيطها من أشجار. ثم تلتها المدرجات من الطابوق الفرشي التي طليت جوانبها بطلاء أبيض، تنتهي بشاشة العرض المحدبة الشكل و البيضاء اللون. كان اللون الأبيض منسجماً مع اللون الأخضر السائد في الحديقة. كما أضافت الأشجار الوارفة بأغصانها المتدلية على طرفي القاعة الصيفية جواً ساحراً، هادئا، ساكنا.
أول عرض سينمائي:
لم يكن في البداية مكان خاص لعرض الأفلام. لذا عُرِضَ أوّل فلم في الجمعية في الشرفة/ الطارمة الواسعة المطلة على الحديقة. كان الفلم (الجميلة و الوحش La Belle et la Bête) للكاتب الفرنسي جان كوكتو، وقد زوّدنا المعهد البريطاني بالفلم مع البروجكتر العرض و الشاشة، و ذلك قبل أن يتم بناء قاعة للعرض. جلب الفلم المعمار ياسر عبد المجيد، و ألقى على الحاضرين الذين لم يتجاوز عددهم عشرين شخصاً، كلمة عن فحوى الفلم و أهميته التاريخية. لم تمضِ إلا بضعة دقائق حتى عصفت الريح بالشاشة المتحرّكة، و ألقت بها أرضاً. كان ذلك في فصل الربيع الذي تهبّ فيه أحياناً رياح عنيفة مفاجئة. لكن بعد أن خفت الريح و تلاشت العاصفة التي لم تدم إلا بضعة دقائق، عدنا إلى تثبيت الشاشة، و جلسنا ثانية في كراسينا نتابع الفلم بكل اهتمام، و بعد أن انتهت البكرة الأولى قام الجميع لملء أقداحهم، و عادوا إلى مقاعدهم، و إذا بهم يشاهدون البكرة الثالثة بدل البكرة الثانية. بدأ القلق يساور "ياسر"، و انهمك يفتش عن البكرة الثانية فلم يجدها، و يظهر أنّه جلب بكرتين بدل ثلاثة من المعهد البريطاني. فضاع بذلك على المشاهدين وسط الفلم، فشاهدنا البداية و النهاية.
هكذا كانت بداية عرض أوّل فلم في الجمعية، و كل بداية لها قصّة، و لم ننسَ بعد ذلك هذه الحادثة، بل تجنّبنا تكرارها. فقد أخذت لجنة السينما على عاتقها اختيار و جلب الأفلام من الموزّعين، بالإضافة إلى الاتصال بالسفارات المختلفة لتزويدنا بأفلام بلادهم.
لجنة السينما
كانت تتألف كل لجنة من أربعة أعضاء، فكانت تضمّ: مقرّر اللجنة محمود عثمان و السيّد وليد صفوة، و ياسر عبد المجيد و بلقيس شرارة.
كان أوّل فيلم عرض عن الحرب العالمية الثانية و الدمار الذي أحدثته القنبلة الذرية في اليابان، بعنوان: (Hiroshima Mona More) للمخرج الفرنسي (Alan Resnais)، و هو من المخرجين الذين كان لهم دوراً مهماً في قيادة الحركة الحديثة في السينما. ثم أعقبتها أفلام إلى مخرجين من أهم قادة السينما الحديثة.
و نشطت اللجنة في إقامة مهرجان السينما، فكانت تتصل بالسفارات للحصول على الأفلام الفنية التي لها أهمية في عالم السينما. فاتصلت بالسفارة السويدية، التي زودت الجمعية بأربعة أفلام للمخرج السويدي (انغمار برغمان Ingmar Bergman) و هي المرّة الأولى التي يعرض في العراق أفلاماً سويدية، و افتتح العرض هذه المرّة محمود عثمان، مقرر لجنة السينما، بكلمة عن أهمية المخرج إنغمار برغمان و الدور الذي لعبه في عالم السينما الحديثة. و الأفلام التي عُرِضَت تمثل كانت فترة الخمسينيات و هي: The Spring Virgin, Wild Strawberries, Smiles of a Summer’s Night, Seventh Seal. و المخرج إنغمار برغمان أوّل مخرج يظهر التأثير السيكولوجي العميق على الشاشة، فلا يمكن أن يكون أكثر منه تأثيراً في إظهار الناحية النفسية على وجه رقيق يملأ الشاشة مواجهاً موقفاً أو فكرة أو تجربة.
لقد لاقَ عرض تلك الأفلام استحساناً شديداً و تقبّلاً واسعاً من قِبَل أعضاء و جمهور الجمعية، الذي كان يشمل عدداً من الأجانب و من بينهم أعضاء من السفارة الأمريكية الذين كانوا من زوّار الجمعية. و أثارت تلك الأفلام نقاشاً عن أهمية السينما كأداة تثقيفية و ليست للمتعة فقط. و منذ ذلك الحين أخذت مناسبات السينما تحتلّ مكاناً كبيراً في نشاط الجمعية.
فأقيم احتفال خاص بعرض للأفلام اليابانية التي زودّتنا به السفارة اليابانية، للمخرجين اليابانيين إيشكاوا و كوروساوا (Ishikawa & Kurosawa)، من الأفلام التي عرضت فلماً عن مكبث، بعنوان (عرش من الدماء Throne of Blood) و (راشامون Rashamon) و( كويدان Kwidan).
كان تأثير تلك الأفلام بالغاً و عميقاً على جمهور الجمعية، فكانوا يجهلون المستوى العالي الذي ارتقى إليه الفلم الياباني، و منهم من شاهد الأفلام اليابانية لأوّل مرّة. إذ لم تكن الأفلام اليابانية تجارية، و كان توزيعها محدوداً، خاصة في تلك الحقبة أي الستينيات من القرن الماضي. فلم تكن تعرض الأفلام اليابانية حتى في الغرب، إلا في السينمات الصغيرة الفنية أو نوادي السينما المقتصرة على الفئة التي تتبع الفلم كهواية و كأداة ثقافية.
كان لوجود وليد صفوة و زوجته هناء برتو أثر كبير في التأثير على أعضاء الجمعية في مفهوم السينما الحديث. فقد قضيا ستة أعوام في جنيف، كانا من هواة السينما الحديثة، متتبعين لآخر التطوّرات، و ساعدا في اختيار الأفلام الجيّدة التي كانت تعرض في الجمعية.
كما زوّدتنا السفارة الروسية بالأفلام،عندما أقمنا مهرجاناً عن المخرج الروسي (سيرغي ميخائيلوفش آيزنشتاين Sergei Mikhailovich Eisenstein ) الذي هو من بذر النواة الرئيسة في تطوير السينما في الاتحاد السوفييتي. و لم يقتصر تأثيره على الاتحاد السوفييتي، إنّما كان تأثيره العالمي كبيراً حتى على مخرجي سينما هوليود. وقد أثر على مخرجي السينما في ابتكاره استعمال المونتاج، لذا لقلب بـ "أبو المونتاج montage"
و عُرضَ في الجمعية أهمّ أعماله: (Battleship Potemkin, Ivan The Terrible & Alxender Nevesky).
كان ذلك في منتصف الستينيات من القرن الماضي، عندما كانت الحملة في أشدها ضد الاتحاد السوفيتي، لذا وجهت بعض التعليقات العدائية للجنة السينما، إذ اعتبر بعض الحاضرين أنّ تلك الأفلام دعاية و ترويج للشيوعية. و تجاهلوا الناحية الفنّية المهمّة في تلك الأفلام و لم يحاولوا أن يشاهدوا ما قام به هذا العبقري من تطوير للسينما. فكان أوّل من استعمل عدسة الكاميرة المقربة (Close up) لمشاركة المشاهد بشعور الألم العميق المتجسّم على وجه الممثل. لقد نجحت الجمعية تدريجياً في تغيير نظرة جمهورها السائدة عن الفلم، عندما قامت بعرض ذلك النوع من الأفلام، و أثبتت لهم أنّ هنالك جوانب أخرى للفلم لا تقتصر على اللهو و التسلية اللطيفة، و إنّما الفلم هو دراسة و معرفة أيضاً، كما إنه من بين أهم الفنون. إذ أن فنّ السينما كأيّ فنّ آخر من الفنون الذي يحتاج إلى تتبّع و مطالعة كي يستطيع المشاهد أن يتمتّع بما يحاول المخرج أن يوصله من آراء و أفكار معقدة من خلال الصور المرئية المتتابعة على شاشة السينما. فهو فنّ كالرسم و النحت و المسرح يحتاج إلى دراسة و تتبّع للحصول على المتعة.
لذا كانت تلقى كلمة من قبل أحد أعضاء اللجنة لتلخيص فحوى الفلم قبل البدء بعرضه، كي يتمكن المشاهدون معرفة مغزى الفلم و سهولة فهمه. كنّا في بعض الأحيان نقتطف المقالات التي تُكتَب عن تلك الأفلام في المجلات الأجنبية، و نعلقها على لائحة إعلانات الجمعية.
كنّا في بعض الأحيان نعرض أفلاماً بلا ترجمة، كفلم "الحرب و السلمWar & Peace " للكاتب الروسي" ليو تولستوي Leo Tolstoy" الذي أخرجه المخرج الروسي (Bogdanovich) و اكتفينا بتعليق النقد عن الفلم على لائحة الجمعية، إذ أن معظم أعضاء الجمعية كان لهم معرفة بالكتاب و بعضهم من قرأ رواية ”الحرب و السلم“. و استغربنا من الإقبال الشديد على الفلم، فامتلأت القاعة بالحضور بالرغم من طول الفلم عدة ساعات. إذ بعد مرور أكثر من أربعة سنوات على الجمعية، أصبح أعضاؤها يتحلون بالصبر في الجلوس لبضع ساعات، يشاهدون فلماً بلا ترجمة، و هذا شيء نادر حتى في الأقطار الأوربية.
كما عُرِضَت أفلام للمخرج البولندي "اندري فايده" الذي اشتهر بعد الحرب العالمية الثانية. و قد استغرب المخرج مندهشاً، عندما علم من قِبَل صديقيه- بنسكايا و زوجها اللذان كانا يدرّسان الرسم في أكاديمية الفنون الجميلة - أنّ أفلامه تعرض في بغداد، و فرح كثيراً لهذا الخبر، إذ لم يكن يتوقع أنّ أفلامه تعرض في بلد مثل العراق، فأفلامه لا تتمتع بعرض واسع حتى في بلده بولونيا، و لا يحضرها إلا هواة فنّ السينما، فهي ليست أفلام تجارية أو للتسلية، و إنّما هي معاناة لما يتكبّده الفرد البولوني تحت ظل حكم السلطة الشمولي.
لجنة الموسيقى
كانت لجنة الموسيقى تتألف من السيّد نائل سمحيري، مقرّر الجمعية، و الدكتور خالد القصّاب والسيّدة لمعان البكري.
كانت السيّدة لمعان في تلك الفترة المسؤولة بصفة رسمية في وزارة الإعلام عن السيمفونية العراقية المتألفة من الموسيقاريين العراقيين مع عدد من الموسيقاريين الألمان، بقيادة قائد الفرقة الألماني الجنسية، الذي رفع السمفونية العراقية إلى مستوى محترم بضبطه و حزمه. و أصبحت من الفرق التي يفتخر بها بين البلدان العربية آنذاك.
لذا استطاعت لمعان أن تنظم نخبة من أولئك العازفين الألمان الذين كانوا يقودون السمفونية العراقية، في إقامة أوّل حفلة موسيقية غربية في الجمعية. أقيمت تلك الحفلة في حديقة الجمعية الواسعة، كانت النجوم المتلألئة في السماء الصافية، تضفي جواً ساحراً، ممتزجاً بألحان الموسيقى الرائعة و رطوبة الحديقة التي تدغدغ أحاسيس الحاضرين في ليالي بغداد.
حضر جميع الأعضاء تلك الحفلة مع ضيوفهم، و بعد أن انتهت الحفلة، وجدنا من كتب على لوحة الإعلانات من قبل عضو من أعضاء الجمعية كلمة (Snobs). التي تعني متعجرفين. تعرضت الجمعية لمثل هذه السلوكيات، لأنها لم تترك مجالاً للممارسات السياسية أو الحزبية.
و أخبر "البير" محاسب الجمعية رفعة بذلك، فعندما سنحت له الفرصة عاتب ذلك العضو على ما قام به، فأعتذر ذلك الشخص الذي كان من محبّي الموسيقى الغربية، على تصرّفه. و قد تجلّى ذلك الاتجاه ضدّ الجمعية للأسف من قِبَل مثقفي اليسار الذين لم يكونوا مرتاحين من نشاطات الجمعية.
كما حدث في تلك المدة أن تعرضت السمفونية العراقية إلى حملة واسعة موجّهة ضدّ استمرارها. فمنهم من اعتبرها ممارسات غريبة و دخيلة على الثقافة العربية. و منهم من اتّجه إلى الصحافة المحلية في التنديد بالسمفونية العراقية. فانبرى الدكتور كمال السامرائي أحد الأعضاء المؤسّسين للجمعية، مدافعاً عن السمفونية دفاعاً حاداً، راداً عليهم في مقالة نشرها في إحدى الصحف الصادرة آنذاك.
لم تقتصر الحفلات الموسيقية على الموسيقى الغربية، إنّما شملت الحفلات الشرقية. و عوملت تلك الحفلات من عزف القانون أو العود المنفرد كالحفلات الغربية، من حيث النظام و الضبط و الهدوء الذي كان يسود تلك المناسبات. فكان لا يسمح بدخول الأشخاص المتأخرين حتى وقت الفاصل الموسيقي. أغاظ هذا التشديد بعض أعضاء الجمعية الذين كانوا يعتبرون الموسيقى الشرقية مجرّد لهو و تسلية، فالتحدّث و تناول المشروبات أثناء العزف و الغناء شيء طبيعي مكمّل للحفلة.
كنّا نحاول أن ندعو إلى الجمعية، الموسيقيين الذين يدعون من قِبَل الحكومة إلى العراق، فنستفيد من تلك الفرصة لأنّ إمكانات الجمعية المالية المحدودة لا تسمح في دعوة مثل أولئك الفنّانين على حسابها الخاص.
و دُعِيَ عازف العود التركي "نجدة" لعزف ساعة في الجمعية، كان ذلك بمساعدة السفارة التركية، التي مهّدت له زيارة الجمعية و إقامة الحفلة. كان الصمت في القاعة مطبقاً، و عندما حاول بعض أعضاء الجمعية الدخول إلى القاعة بالقوّة، خرج عليهم رفعة، سكرتير الجمعية و طلب منهم الانتظار حتى ينتهي العازف من عزف تلك القطعة.
كان هذا النوع من الضبط الذي اعتُبِر نظاماً صارماً في الجمعية، و الذي لا يمكن مخالفته حتى عند مجيء مسؤول مهمّ في الحكومة، جديداً و غير معروف في مجتمعنا. فعندما جاء في تلك الحفلة وزير البلديات، انتظر كبقية الآخرين حتى انتهاء العازف من عزف القطعة التي بدأ بعزفها. كما كان الهدوء و عدم التحدّث غريباً في الحفلات الشرقية أيضاً، فقد فرضت الجمعية على أعضائها نظرة جديدة بما يتعلق بالأمور الفنّية التي لم يكن أحد معتاد عليه.
و لكن كان بعض الأعضاء ينتهزون فرصة غياب رفعة بسبب سفره خارج العراق، لمخالفة المواعيد و كسر النظام المتّبع في الجمعية. فمعظمهم لم يتعلموا على ضبط المواعيد منذ طفولتهم، فالوقت لا قيمة له، و إن حاول العراقي ضبط الموعد فهو طلاء خارجي و ليس نابع من صميم شخصيته. و لذا كان رفعة بصفته سكرتير الجمعية يجابه تلك المعضلة في معظم الأحيان.
أمّا الحفلات الغنائية التي كانت تقام في الجمعية، فكانت من أنجح الحفلات الشرقية التي أقيمت في بغداد في تلك الفترة. كانت حفلات المقام العراقي لها مكانة مهمّة في نشاطات الجمعية. و كانت تلك الحفلات يهيمن عليها جوّ من الهدوء و الاحتشام، و قد دعي من أحسن مغنّي تلك الفترة " محمد الكبنجي" و "يوسف عمر" و هما من أحسن من يتقن غناء المقام.
كانت تلك الحفلات تقام في الشتاء، في قاعة الجمعية الواسعة. أمّا الحفلات الغناء الصيفية فكانت تقام في حدائق الجمعية. و قد ذاع صيتها و أصبحت تعدّ من أنجح الحفلات الشرقية التي تقام في بغداد.
لذلك بُنِيَ في نهاية الحديقة مسرحاً صغيراً يكفي للجوقة الموسيقية و المغنّي أو المغنّية التي ستحيي الحفل. و لمّا كانت تغني المغنّية "سليمة باشا" بصوتها الرقيق، ترافقها أصوات الفرقة الموسيقية و بعض المستمعين، كان يصل غناؤها معظم دور الحيّ في "الصليخ"، و لمّا كان معظمهم أعضاء في الجمعية، فلم يكن هنالك ازعاج لهم لأن معظمهم من رواد تلك الحفلات.
بينما كانت الحفلات الشرقية في النوادي الأخرى يتخللها نوع من السلوك البوهيمي من قبل بعض الأعضاء. يشاركون الجوق الموسيقي بالغناء الذي يصطلح عليه بـ"الردّة"، يهزّون أكتافهم و رقابهم و هم جالسون بمقاعدهم مع "طك الإصبعتين"، و من منهم من يتحمّس فيقف راقصاً و على رأسه قدح من الويسكي يميل مرّة و ينثني أخرى محاولاً بذلك موازنة القدح المليء بالويسكي أثناء الرقص.
لكن لا يمكن أن يحدث مثل هذا السلوك في الجمعية، فبعد دقائق من مباشرة العازف ”نجدة“ وقف احد الحاضرين و وضع القدح على جبينه بالطريقة المعتادة. كان رفعة قرب باب القاعة، فتقدم نحوه بكل هدوء و اشر له بالجلوس. و استمرت الحفلة بانتباه الحاضرين لكفاءة العزف، و حلاوة الموسيقى، من غير الضجيج المعتاد. كان هذا الحدث الأول و الأخير من نوعه في حفلات الموسيقى الشرقية في الجمعية، فاختفت كلياً مع نظام الضبط الذي كان سائداً في الجمعية، حيث كان يمنح لحفلات الموسيقى الشرقية الاحترام الذي يمنح لحفلات الموسيقى الغربية.
كثيراً ما كانت تستمر بعض حفلات الشرقية طيلة الليل، و لا تنتهي قبل الساعة السادسة صباحاً، فيتوجّه عندئذٍ بعض الحاضرين إلى السوق في وسط بغداد لإكمال طقس الحفل، ليأكلوا فطوراً مكوناً من ”الكاهي و القيمر“ مع الشاي. و هي من أطباق الطعام التقليدية في الصباح في بغداد، في مثل هذه المناسبات.
النادي الليلي
حرصت لجنة الموسيقى بالتعرّف على الأنواع الأخرى من الموسيقى و لم تقتصر على الموسيقى الغربية و الشرقية و إنّما شملت موسيقى (pop) أيضاً.
كان في جانب الحديقة، خلف المشرب الصيفي غرفة متوسّطة الحجم، تستعمل كمخزن للأثاث الصيفي في فصل الشتاء. فقرّرت اللجنة الاستفادة من تلك الغرفة و تحويلها إلى مكان يجتمع فيه شباب الجمعية للتحدّث و شرب الجعة و الرقص.
طُلِيَت جدران الغرفة بالطلاء الأبيض، و وضعت مصاطب خشبية حول تلك الجدران. و تبرّعت هناء برتو- و هي مصمِّمة أزياء درست في سويسرا- بالرسم على تلك الجدران. كانت هناء ذات موهبة و لها لمسات معبرة قويّة في تخطيط الوجوه و الأجسام، فملأت جدران النادي ببنات ذات فساتين فضفاضة باللون الأسود. و أضفت تلك الرسوم جمالاً و حيوية على المكان، و أصبحت هذه القاعة مرغوبة، يؤمّها أعضاء و زوار من أعمار مختلفة. كانت فكرة إقامة هذا النادي جيدة، و كان الهدف منه تعريف الشباب على تطورات موسيقى "البوب"، و أصبح ملتقى لمحبي هذه الموسيقى.
عاد في هذه الحقبة، الهام المدفعي من انكلترا لقضاء الصيف في بغداد، و قد طور ”البستات العراقية“، و أصبح يعزفها على القيثارة. فكانت تكتظ القاعة بالشباب، أحيانا لساعة متأخرة في الليل. مما شجع بعض الاتجاهات المتزمتة و الأصولية من إثارة اللغط ضد هذا النوع من اللهو، و اعتبروه منافياً لأهداف الجمعية. مما أدى إلى اتخاذ قرار بغلق النادي، إذ فضل مجلس إدارة الجمعية غلقه بدلا من الدخول في معارك جانبية، ربما تؤدي إلى إرباك نهج الجمعية. فهجرت تلك الغرفة بعد أن استُعمِلت صيفاً واحداً، و أصبحت مخزناً لأثاث الحديقة مرة ثانية.
لجنة المسرح
كان جبرا إبراهيم جبرا و سامي عبد الحميد من بين أعضاء لجنة المسرح. و كان من بين أهداف الجمعية، تشجيع المسرح، و اعتبرته من أهدافها الرئيسة. و عرض فيها عدة مسرحيات منها مسرحية الروائي البولوني المولد، (جوزيف كونراد Joseph Conrad) بعنوان:( Blithe Spirit)، الذي يعتبر من أهم الروائيين البريطانيين، و مسرحية (الكراسي The Chairs) للكاتب الروماني (أينسكو Aenesco).
عاد سامي عبد الحميد من انكلترا في بداية الستينيات، بعد أن أنهى دراسته الأكاديمية الملكية لفنون الدراما في لندن. كان مزاملا للمثل ”البرت فينيAlbert Finney “ الذي أصبح أحد أعمدة التمثيل في بريطانيا. كان سامي من المتحمسين في تجديد المسرح العراقي، و تطعيمه بما كان يحدث من تطور في المسرح البريطاني و الفرنسي و الأمريكي. و أسس الفرقة القومية للتمثيل، التابعة إلى مصلحة السينما والمسرح.
أنتج عدة مسرحيات، منها "تاجر البندقية“ لـ شكسبير، و ”انتيكوني“ لـ أنوي، و ”الحيوانات الزجاجية“ لـ "تنيسي وليمز". لاقت هذه المسرحيات استحساناً كبيراً من الجمهور في بغداد. إذ يتعرض المشاهد العراقي لأول مرة إلى مواضع تختلف عما كانت تعالجها فرقة يوسف العاني، التي كانت محدودة بمواضيعها حيث معظمها تدور حول القضايا و المشاكل المحلية للفرد العراقي. فتعرض المشاهد العراقي إلى بعدٍ آخر جديد في المسرح. صراع يتخطى المنطقة و الحدود، صراع من الممكن أن تتعرض له أية عائلة أو إنسان في العالم.
فعندما دعته الجمعية للمساهمة بنشاطها المسرحي، كان متحمساً و ساهم في إقامة عدّة مسرحيات في الجمعية.
و أوّل إنتاج مسرحي له كان "في انتظار الموت" لـ جان جينيه. الذي يُعتبَر من الكتّاب الطليعيين آنذاك حتى بالنسبة للغرب، و لم تكن مسرحياته مقبولة أو مستساغة من قِبَل الجمهور، لذا كانت تمثل في المسارح التجريبية الصغيرة. ثم اخرج مسرحية "زهرة السلطان" للكاتب العراقي جعفر علي. كان الإخراج رائعاً، فقد استفاد سامي من موقع قاعة السينما الصيفية، و استخدمت بدورها كمسرح، و شاهدها عدد كبير من الأعضاء و ضيوفهم.
و آخر مسرحية أخرجها قبل إغلاق الجمعية بمدة قصيرة، في انتظار غودو Waiting for Godo للكاتب المسرحي الايرلندي صموئيل بكت Becket، التي ترجمها إلى اللغة العربية جبرا إبراهيم جبرا، خصيصا لعرضها في الجمعية.
كان الإخراج و التمثيل لدرجة من الإتقان و الإبداع، الذي لا يقل عن المستوى الغربي. و قد اندهش الانكليز الذين حضروا المسرحية لتسجيلها لقسم الإذاعة البريطانية في القسم العربي من BBC، و وجدوا أنها لا تقل من حيث المستوى عما يحدث في بلدهم.
و بذلك قامت الجمعية خلال الخمس سنوات من عمرها في تقديم أدب مسرحي جديد على المشاهد العراقي، الذي تعرض لأول مرة ليس فقط للأدب الحديث و إنما لأدب المسرح الطليعي بأسلوبه و مفهومه الجديد.
و لو أن البعض القليل من المشاهدين لم يفهموا ما تعنيه المسرحية و مسرح اللا معقول، إذ ليس من السهل فهمه حتى على المشاهدين في العالم الغربي، الذي له تاريخ مديد في أدب المسرح، فكيف بالمشاهدين الذين تنقصهم تلك الخلفية، لأن أدب المسرح يفتقد إليه التراث الأدبي العربي. لكن بالرغم من ذلك فقد أصبحت المسرحية حديث المشاهدين، للدمج بين المأساة و الهزلية، دمجاً موقفاً و ناجحاً من قبل المخرج. و كذلك من قبل المشاهدين من أعضاء الجمعية و الزوار الذين حضروها أكثر من مرة، ليفهموا و يتمتعوا بما تعنيه المسرحية.
لجنة الفنون التشكيلية
كانت تلك اللجنة مسؤولة عن النشاطات المتعلقة بإقامة معارض عن الرسم و النحت و الفخّار "السراميك". و كان الرسّام إسماعيل الشيخلي مسؤول عن تلك اللجنة بالاشتراك مع قحطان عوني و نها الراضي.
أقيم أوّل معرض في قاعة السينما التي كانت تصلح لعدة فعاليات. كان المعرض لمجموعة من الرسامين الشباب الذين برز اسمهم في بداية الستينيات، منهم هاشم سمرجي و رافع الناصري، و علي طالب و غيرهم. و حضر هذه المعارض عدد كبير من المشاهدين، الذين لا ينتمون للجمعية، كان من بينهم أعضاء بعض السفارات الغربية، خاصة الأمريكية و الإنكليزية و الفرنسية.
ممّا حدا بشركة دخان (Graven A) إلى طرح فكرة إقامة معرض متجوّل للفنّانين العراقيين في عدد من البلدان الغربية و الشرقية، و ذلك بهدف التعريف بالرسّامين و النحّاتين العراقيين في العالم. و قام المعمار قحطان عوني بالاتصال بالرسّامين العراقيين و هواة جمع اللوحات الفنّية، فقدّم البعض منهم لوحة أو لوحتين للمعرض.
لكنّها كانت تجربة قاسية بالنسبة لأصحاب اللوحات الفنّية. إذ أكد المسؤولون عن المعرض في إعادة الصور ثانية إلى بغداد. كان المفروض من قبل أعضاء لجنة المعارض في الجمعية طلب التأمين على الصور قبل تسليمها، في حالة الضياع أو السرقة، و لكن لقلة خبرتهم في هذه الأمور أهمل هذا الموضوع و لم يبحث. بعد مرور عامين من تجوال المعرض الذي بدأ في موسكو،عاصمة الاتحاد السوفيتي، انتقل بعدها إلى عشرة دول من الهند إلى لبنان إلى إمارات الخليج، و لم تعاد الصور لأصحابها. و استمرّ التفتيش عن المعرض و ما حلّ بالصور، بجهدٍ من قبل عدد من أصحاب تلك اللوحات، و استطاع الدكتور سالم الدملوجي الذي اقتفى ما حدث لتلك اللوحات، بجمعه المعلومات المتفرّقة خلال عقدين من الزمن من المراسلة المتواصلة حتى أصبحت "ملفاً" ضخماً من الرسائل. عند ذاك علم أنّ تلك اللوحات قد بيعت إمّا في بيروت أو في إحدى إمارات الخليج من غير علم أصحابها. و هكذا كانت نهاية المعرض العراقي المتجوّل نهاية مؤلمة و مخيّبة لأولئك الذين سلموا من بين أحسن ما لديهم من لوحات، مثل باهر فائق و سالم الدملوجي و رفعة الجادرجي.
لجنة الضيافة
كانت لجنة الضيافة مؤلفة من لمعان البكري، و سعاد الراضي و نزهت عقراوي. و يشاركهن عدد من أعضاء الجمعية في تنظيم و إقامة الفعاليات، فعندما احتاجت الجمعية لتجهيز المطبخ بأدوات الطبخ، ذهبت أنا و رفعة و لمعان إلى مخزن أورزدي بك، كانت المديرة آنذاك سعاد العمري، فساعدتنا في اختيار الصحون و الملاعق و الشُوك و أغطية الطاولات مع فوط جميلة و بأسعار مناسبة.
فقد اتفقت سعاد العمري مع شركة الروزنثال الألمانية بإرسال المرفوضات من معملهم، بدل التخلص منها. و بذلك سنحت لنا الفرصة في اختيار جميع صحون الجمعية من هذه الشركة. كانت الصحون بيضاء اللون مع أغطية طاولات وردية اللون و فوط حمراء اللون، و ممالح من خشب الصاج دنماركية التصميم و الصنع. و قد أعطت تلك الألوان تبايناً جميلاً في صالة الطعام.
كنّا نذهب- رفعة و أنا- بعض أيام جمعة إلى سوق الصفافير، و نمرّ على "حسن أبو تراب" المليئ دكانه بالأدوات المختلفة الشكل و الحجم من الأدوات المصنوعة من الصِفر/ النحاس. كان حسن أبو تراب يحتفظ لنا بالقطع النادرة و القديمة، فإن أعجبتنا كنّا نشتريها قبل أن يعرضها على الزبائن الآخرين.
عرض علينا ذات يوم سماوراً للشاي روسي الصنع، كبير الحجم يتسع لمئتي "استكان" من الشاي. كان السماور يتجاوز عمره المئة عام، و بدل من أن نضيفه لمجموعتنا الخاصة، إذ من النادر الحصول على سماور بمثل هذا الحجم و المستوى في دقة الصنع، قرّرنا أن نأخذه للجمعية، إذ شعرنا أنّ الجمعية أحق به من دارنا، حيث باستطاعة رواد الجمعية الاستمتاع به. و أخذ السماور الشامخ بحجمه يتصدّر الطاولة، تحيطه أقداح الشاي الشفافة بزخارفها الذهبية، في جميع الحفلات و المناسبات التي كانت تقام في الجمعية.
من النشاطات التي كانت تقوم بها لجنة الضيافة، حفلات إحياء التراث. فقد أحيت الجمعية بعض الشعائر في إقامة حفلات عشاء تقليدية، كليلة "المحيا"، و لم تكن تلك المناسبات تعتمد على قائمة الطعام اليومي، و إنّما كانت العضوات النشطات في الجمعية يقمنَ بتوزيع الأعمال و ألوان الطعام على العضوات اللواتي لهنّ خبرة و سمعة في الطبخ الجيّد. فكنّ يتبرّعنَ في جلب تلك المآكل التي اشتهرت موائدهن بها، و كنّا نحصل بذلك على أعلى مستوى من الطبخ التقليدي العراقي.
كانت اللجنة تعيّن حتى نوع الملابس لكل مناسبة، فكانت النساء يرتدين الملابس التقليدية المزركشة ذات الألوان البرّاقة مع المجوهرات التي تناسب تلك الملابس. كما كان يرتدي بعض الرجال الملابس التقليدية.
كانت القاعة تزيّن جدرانها و أرضها بالسجّاد الشرقي الذي يجلب من دور الأعضاء، و تنقلب القاعة إلى مفرش شرقي، بطاولات صغيرة موزّعة أمام الضيوف، عليها المزّات/المقبلات العراقية التي تتناسب مع المشروبات، يرافقها الموسيقى الشرقية الخافتة.
و من جملة ما أحيّ من الحفلات التراثية عشاء "السمك المسكوف"، المشهور سكفه/شويه على ضفاف نهر دجلة في ليالي بغداد. و لذا كانت حفلات عشاء المسكوف تقام في الجمعية في الصيف أيضاً، لأنّ سكف السمك يتطلب مساحة مفتوحة من الفضاء. كان السمك يُسكف/يشوي في زاوية بعيدة في نهاية حديقة الجمعية، قرب الساقية التي ينساب منها الماء بهدوء إلى أعماق البستان .
كان محمّد عبد الوهاب و "البير" الموظف المسؤول، يذهبان في الصباح الباكر لانتخاب السمك الشبوط الطازج الصالح للشوي، ثم يوضع في ماء مثلج حياً حتى المساء.
كان طقس سكف السمك بحدّ ذاته يجذب عدداً كبيراً من الأعضاء و ضيوفهم لمشاهدة مهارة السكّاف. كان السمك ينظّف و يفتح من ظهره على شكل مسطّح، و بعد أن يملّح، تعلق كل سمكة منفصلة عن الأخرى بوتد من سعف النخيل المثبّت في الأرض على شكل دائري. و توقد النار في وسط تلك الدائرة، و يقوم المسؤول عن السكف/ الشوي بعملية تحريك النار بصورة فنّية، بحيث ينضج السمك في نفس المدة، ثم يوضع على نار خافتة على ظهره، لينضج من الجهة الأخرى، و تستمرّ عملية سكف السمك عادةً لساعة أو أكثر.
كان الحاضرون يشاركون في مشاهدة السكف، فينعكس وهج النار و بريقه على وجوههم، فيضيف جمالاً و حمرةً للوجوه النسائية التي تشاهد عملية السكف. كانوا في الحقيقة يشاهدون عملية شوي تعود تقاليدها إلى العصر السومري، أي أكثر من خمسة آلاف سنة. ثم يرفع السمك و يوضع في صواني مغطاة بالخبز العراقي الرقيق المسطّح، و يُجلب إلى الطاولات.
كانت طاولات العشاء في مثل تلك الاحتفالات، توزّع حول ساقية الماء التي تمرّ بالجمعية. و تُضاء الساقية بالشموع التي تحيطها فوانيس زجاجية، مرفوعة على أوتاد خشبية مثبّتة في وسط الساقية، و يظهر إنعكاس أغصان و أوراق الأشجار في الساقية، فيهيمن على الحاضرين جواً رائعاً يتخلله الموسيقى الخافتة التي ترافق مثل هذه المناسبات.
و عندما تدق الساعة الثانية عشرة معلنةً بداية يوم جديد، تهبّ نسائم باردة منعشة تلاعب أوراق أشجار الحور و اليوكالبتس و سعف النخيل، يحس الجميع برطوبتها و نعومتها تسري في أطراف الحاضرين، و تبدأ عندئذٍ حركة غير طبيعية، فيزول الهدوء الذي كان مخيّماً على أجواء الجمعية، و يتّجه أعضاؤها في حركة واحدة نحو البوابة، بضحكات الوداع المؤقت، يصاحبها ضجيج حركة مرور السيارات، مؤذنة بغلق بوابتها ليوم آخر.
الرحلات النهرية
كانت الرحلات النهرية من جملة نشاطات الجمعية في الصيف، المتّجهة إلى "جزيرة أم الخنازير"، و قد افتتحت الجمعية تلك الرحلات باستعمال العربات- المؤلفة عادةً من الحوذي و حصانين- و ذلك بدل استعمال السيارات. كان الأعضاء و ضيوفهم يجتمعون في مقرّ الجمعية في حي "الصليخ"، بانتظار ركوب العربات، فتصطفّ العربات المتوفرة في ذلك الحين في بغداد أمام باب الجمعية. كانت تلك العربات تقطع بغداد من شمالها إلى جنوبها، حيث كانت العوامة بانتظار أعضاء الجمعية في شارع أبو نوّاس.
و قد أثار منظر العربات في شارع أبو نواس الدهشة و الاستغراب من قبل المارة و كان تطلعهم لذلك الموكب يشوبه الحيرة، لأنّ استعمال العربات من قبل الناس قد توقف منذ أكثر من ربع قرن، و انقرض استعمالها تقريباً إلا من قبل فئة صغيرة فقيرة في المجتمع، لذا كانت تلك العربات في حالة من الإهمال الفظيع، فمقاعدها متهرأة، و أحصنتها متعبة عاجزة حتى عن جرّها.
كان التنظيم لمثل تلك الرحلات يحتاج إلى وقت و جهد من قِبَل المنظمين، و كان الوقت و ضبط ساعة التحرّك مهماً. لذا كان "رفعة الجادرجي" بصفته سكرتير الجمعية، المسؤول عن ضبط الوقت و الساعة التي تتحرّك بها قافلة السيّارات أو العربات من مقرّ الجمعية متوجّهة إلى "السفينة" في شارع أبو نواس. كان ضبط الوقت من المشاكل التي كنّا نعاني منها، لكن لم يكن رفعة ينتظر الذين يتأخرون عن الموعد المقرر أكثر من خمس دقائق، ثم يعطي الإشارة بالتحرّك. لذا كان أعضاء الجمعية يحاولون جهدهم لكي يصلوا في الوقت المعيّن.و لكن إذا غاب رفعة أو سافر، فالوضع يتغيّر تماماً. إذ كان عدد من الأعضاء ينتهز تلك الفرصة فلا يلتزمون بالوقت المعيّن. و كان الانتظار يطول و يصل في بعض الأحيان إلى ساعة أو أكثر، و لا يتحرّك الركب قبل أن يحضر الجميع. مما يدلّ على أن هنالك صعوبة في ضبط و تمسّك المجتمع عامة بالوقت، بغضّ النظر عن مستواه الاجتماعي و الثقافي.
حفلات رأس السنة
كانت تقام حفلات رأس السنة في القاعة الكبيرة التي تُستعمل عادةً لعرض الأفلام. و اشتهرت تلك الحفلات بالابتكار و الحيوية و الأفكار الغريبة التي تتخلل مناهج الليلة. كان يتّخذ كل عام موضوعاً جديداً، يشمل تزيَّن القاعة و لباس الأعضاء و ضيوفهم، و النشاطات التي ستقام في تلك الليلة.
و قد صادف شهر رمضان في عام 1968 قبل حفلة رأس السنة ببضعة أيام، و اعترض بعض الأعضاء على إقامة الحفلة في الجمعية، إذ ربّما تجلب لهم النقد و التشهير الذي هم في غنى عنه، خاصة بعد مجيء حزب البعث إلى الحكم، فتجنّب الأعضاء إقامة الحفلة في مقرّ الجمعية، و اقترح بعضهم إقامتها في دار السيّد باهر فائق، في منطقة الفحّامة شمال مدينة بغداد.
كانت الدار يستعملها السيّد باهر فائق كمكان للراحة في فصل الصيف، و تُغلق في فصل الشتاء. كما كانت الطريق المؤدية لها غير معبّدة، لكنّها طريق جميل ملتوي و متعرّج، يضيق أحياناً لدرجة لا يتّسع لمرور سيارتين، محاذي لنهر دجلة من جهة، و لبساتين الفحّامة المشهورة بنخيلها و أشجار الحمضيات من الليمون و البرتقال من جهة أخرى.
أقمنا حفلة رأس السنة لذلك العام في القاعة الكبيرة من الدار، و زيّنت بالأوراق اللمّاعة المختلفة الألوان، الفضية و الذهبية، كما غطيت المصابيح بها، لتضفي جواً رومنطيقياً. كان الزيّ تنكري، فحاول كل عضو من أعضاء الجمعية في ابتكار زيّ يناسبه و أظهر بذلك تفرّده عن الآخر.
لم نكن نعلم آنذاك أنّنا نودّع السنة التي انصرمت و الجمعية معاً. كانت تلك الحفلة آخر حفلة أقيمت قبل إغلاق الجمعية. و انتهى بإغلاقها لون من الحياة و الفكر الذي اتّخذه أولئك الأعضاء لهم، و هو إصرارهم على التفرّد، فلم تكن تجمعهم أيديولوجية معيّنة، بل حبّ الحياة بكلّ معطياتها.
إلقاء قنبلة على الجمعية
في شتاء عام 1968 كان الجوّ السياسي متوتّراً، و كان رئيس الجمهورية عبد الرحمن عارف من الرؤساء المسالمين، الذين لا طموح لهم بالحكم، فقد جيء به ليحلّ محلّ أخيه عبد السلام عارف الذي قُتِل بحادث طائرة هليكوبتر قبل عامين. كان رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز ممّن آمنوا بنوعٍ من الحكم الدستوري، و بدأ مع عدد من وزرائه بوضع دستور دائم للعراق، ليتسنّى إجراء انتخابات و مجلس نيابي منتخَب، كما توصّل إلى حلٍ مع الملاّ مصطفى البرزاني الذي كان يمثّل الأكراد آنذاك، و كان العراق متّجه إلى شبه استقرار سياسي.
كانت الجمعية تلك الليلة مملوءة بالأعضاء و ضيوفهم، يشاهدون عرضاً لأحد الأفلام في قاعة السينما، ففي حوالي الساعة الحادية عشر ليلاً بعد أن انتهى عرض الفلم، بدأ الناس يتّجهون نحو رواق الجمعية المؤدّي إلى الباب الخارجي، و إذا بدّوي انفجار قويّ هزّ أرجاء الجمعية. أتّجه البعض مذعورين نحو الصوت، كانت قنبلة قد وُضِعَت قرب مدخل الجمعية فانفجرت بدويّها المرعب، فأدّى انفجارها إلى حفرة كبيرة قرب مدخل الجمعية، كما أصيبت إحدى عضوات الجمعية بشظاياها.
عمّت الفوضى و انتشر الخوف بين الأعضاء، بعد أن شاهدوا الدماء تسيل على وجه السيدة "شريفة"، زوجة المحامي أمين رؤوف الامين. ظلّ الجميع مندهشين فاغري الأفواه من شدّة الصدمة، بعد أن نُقلت السيدة "شريفة" بصحبة احد الاطباء، إلى أقرب مستشفى في المنطقة.
ثم جاءت الشرطة و سجّلت ما حدث من قِبَل الشهود الذين شاهدوا الحادث، و أُهمِلت الحادثة بعد بضعة أيام و أُغلِق الملف و لم يجرَ أي تحقيق جدّي، بالرغم من اشتباه الشرطة ببعض الأشخاص. كان تفجير هذه القنبلة نذيراً لضرب الدولة و التخلص من الحكومة القائمة و القضاء عليها بعد بضعة أشهر من تلك الحادثة.
إذ كانت الجمعية البغدادية تمثل خطاً طليعياً، ليبرالياً لا ينحاز إلى جهة معيّنة، و هو خطّ لا يتفق معه المتطرّفون الذين ينتمون إلى أحزاب سياسية ذات إيديولوجية شمولية أو أصولية. فالحل عندهم إرهاب الآخر أو إلغائه.
غلق الجمعية و إعادة فتحها
في بداية عام 1969 أغلقت الجمعية البغدادية بعد مرور خمسة أعوام على نشاطها، من قِبَل حزب البعث الذي استلم مقاليد السلطة بعد الانقلاب الناجح ضدّ حكومة البزاز و رئيس الجمهورية عبد الرحمن عارف في منتصف عام 1968. كانت الجمعية أولى الضحايا التي سقطت، و أغلقت أبوابها.
بعد مدة اتصل د. سلطان الشاوي بـ رفعة الجادرجي و طلب اللقاء به، فحصل الاجتماع في دار رفعة. جاء "سلطان" بصحبة أربعة أو خمسة اشخاص، عرّفوا أنفسهم بكونهم موظفين في الدولة، و يظهر من أنهم من المنتمين إلى حزب البعث. بيّن "سلطان" بأنهم قرروا استلام الجمعية، و سيعملوا على إزالة نشاطاتها السلبية!! فبين له رفعة، بأنه لا دور له في هذا التنظيم الجديد، لكنه أكد أن الجمعية هي جمعية فنية لا علاقة لها بالسياسة، فإذا أريد الاستمرار في وظيفتها الفنية، فعلى الإدارة الجديدة مراعاة الأعضاء النشطين، لأنهم أفراد متبرعون، و من السهولة أن ينسحبوا منها فيما إذا لم يجدوا البيئة المناسبة لنشاطهم.
لكن قحطان عوني لم يستسلم للحدث، فاتصل بسلطان الشاوي، و طلب منه إعادة فتح الجمعية ثانية، على أن تستمرّ بالنشاط الأدبي و الفنّي اللذان كانا من سماتها البارزة.
فعين سلطان نفسه رئيساً للجمعية، و غيّر اسمها إلى جمعية التراث، و أصبح مجلس الإدارة مؤلف من أعضاء جدد مع قحطان. كما عين يوم افتتاح الجمعية، فحضر حوالي تسعون شخصاً، كان معظمهم من أعضاء الجمعية القدماء.
و استمرّ "البير" بوظيفته كمحاسب و إداري، كما استمرّ "عبّاس" بلباسه الشعبي يقدّم القهوة المرّة، و ألقى قحطان عوني كلمة عن إعادة فتح الجمعية و بيّن من أنه سيبذل الجهد على استمرار الجمعية في نشاطاتها المعتادة.
كانت آخر كلمة إلى سلطان الشاوي. بعد أن شكر الحاضرين، بدأ يذكر ما سيقوم به من تغييّرات و تحسينات في نشاط الجمعية، كما ندّد بأعضاء اللجنة الإدارية السابقة التي اعتبرها سلبية في اتّجاهها و أهدافها، و وعد أنه سيحاول تخطّي ذلك النقص و التغلب على النظرة السلبية للأمور! تأكدنا بعدما انتهى سلطان من كلمته من أنّنا فقدنا جمعيتنا، و استولى عليها نوع آخر من الناس. لكن برغم ذلك حاولنا أن نستمرّ كأعضاء عاديين، نشارك في بعض الفعاليات، كإقامة المحاضرات و المعارض الفنّية. و بعد مرور حوالي شهرين عين بدل "ألبير" ”ابو تحرير“ مديرا للجمعية، الذي كان لا يفارقه المسدس الموجود في جانبه الأيمن.
شاهدت السنة الأولى نشاطاً فنياً لا بأس به، فقد أقيمت سلسلة من المحاضرات المختلفة، لكن لم يكن هنالك لجنة مسؤولة كما كان في السابق، فلم يكن هنالك محاضرات شهرية أو فصلية، إنّما كانت تقام حسب الظروف، فكانت منها أمسيات شعرية أو عرض سلايدات فنّية لبعض المصوّرين الهواة مثل الدكتور ليث الكندي و رفعة الجادرجي و وسيم الجوربجي.
و أهمّ ندوة أقيمت بعد إعادة تشكيل الجمعية برئاسة د. سلطان و سيطرة حزب البعث على نشاطاتها، ندوة عن ”إعادة بناء مدينة بابل“، شارك فيها كل من الآثاري الدكتور طه باقر و المعمار الدكتور محمّد مكيّة و المعمار قحطان المدفعي و نائب رئيس الجمهورية آنذاك صالح مهدي عماش. كان صالح عماش بمركز القوّة السياسية التي تخوّله أن يقترح و ينفذ ما يعتقد به.
فعندما دعي لزيارة الاتحاد السوفيتي و ألمانيا الشرقية، عاد بطرح هذه الفكرة، بعدما اقترح عليه إعادة بناء مدينة بابل، من قِبَل المسؤولين في تلك الدولتين. و بعد أن اختمرت الفكرة برأسه أصبح من المتحمّسين لتطبيقها. حاول بعض المشتركية في الندوة مجاملته و اللف حول الموضوع، لكن موقف الدكتور محمد مكية موقفاً جريئاً صلباً، و اعتبر أن إعادة بناء مدينة بابل تخريب للتاريخ، و سيمنع المنقبين من الآثاريين و يعيقهم من تأدية ما عليهم أن يقوموا به في تنقيب تلك المنطقة المهمة و الخصبة بالآثار، و أكد على المحافظة على هذا الأثر للأجيال القادمة. ربما كان تلك الفكرة هي البذرة في إعادة بناء مدينة بابل في عقد الثمانينيات التي نُفذت من قِبَل صدّام حسين عندما أصبح رئيساً للجمهورية في العراق.
ما آلت إليه الجمعية
بعد بضعة اشهر أخذت فعاليات الجمعية و نشاطاتها تقلّ تدريجياً، و اقتصرت على عرض الأفلام التي تؤجَّر من السينمات التجارية. و انسحب غالب أعضاء اللجان من نشاطاتهم، و الكثير منهم تركوا الجمعية، بعد وفاة المعمار قحطان عوني في اواخر عام 1970، انقطعت العلاقة التي كانت تربط الأعضاء القدامى بالجمعية. فقد حاول قحطان أن يكون حلقة الوصل في بادىء الأمر، لكن بوفاته انطفأت الشموع التي كانت تضيء موائد أعضاء الجمعية و ضيوفهم، و حلّت محلها صيحات و عربدة السكارى من الأعضاء الجدد القابعين في زوايا حديقة الجمعية الخافتة الضياء تزيّن موائدهم قناني الوسكي و الجعة و العَرق. و كل ما يحدث كان تحت رقابة ”ابو تحرير“، و لم يشاهد سلطان الشاوي في الجمعية ثانية منذ افتتاحها
هذا ما آلت إليه الجمعية البغدادية تحت رعاية حزب البعث، فانقلبت إلى "ماي خانة" أي مشرب وضيع، يؤمّها وجوه جديدة، لا علاقة لهم بالفنّ أو الأدب، بل أبعد الناس عن هذا المسار. و انتهت الجمعية، في اقتصار نشاطها على تقديم الطعام و المشروبات و إقامة حفلات العرس في المناسبات. أمّا الأعضاء الذين قامت على أكتافهم الجمعية، فقد اختفوا تدريجياً، و تفرّقوا و انتشروا في جميع أنحاء العالم، و أصبحوا من الشتات الجديد في هذا العالم.
بلقيس شرارة / المدى
1917 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع