تجمع الوفاء والشموخ
يحكى انه كانت قديماً في بغداد مدرسة ثانوية تسمى كلية بغداد. هذه المدرسة تأسست عام ١٩٣٢ على يد أربعة من الآباء اليسوعيين الأمريكيين من مقاطعة نيو انكلاند الامريكية وقد خرجت الآلاف من العلماء والمفكرين والقياديين والذين انتشروا في اغلب بقاع العالم وهاجر اغلب خريجيها واساتذتها بعيداً عن العراق بسبب الظروف السياسية غير المستقرة التي واجهت البلد على مدى تاريخه الحديث. لا اريد الاسهاب كثيراً عن هذه المدرسة اذ قيل عنها الكثير وكتب عنها أكثر لكن وجب علينا الوقوف وقفة وفاء للآباء اليسوعيين او ما كان متعارف عليه بين طلاب هذه المدرسة العريقة ب (الفاذرية) الذين أفنوا زهرات شبابهم في هذه المدرسة لتنشئة أجيال يشار لها بالبنان وتسليحهم بأرقى العلوم ومنهم من توفاه الله ودفن في ارض الكنيسة داخل المدرسة التي أصبحت ملكيتها تتقاذفها الاهواء للسيطرة على ارضها وكنيستها وابنيتها بين الأحزاب وأذرعها في وقتنا الحاضر عن طريق التزوير ونكران ملكيتها لغياب دور الحكومة الرقابي.
استمر عطاء الفاذرية لغاية عام ١٩٦٩ حيث تم ترحيلهم قسراً عن المدرسة وعن جامعة الحكمة التي كنت طالباً فيها في السنة الأولى وعاصرت اوجاع الابعاد الجائرة عن العراق الى غير رجعة بقرارات مرتجلة وكانت البداية لإعمال معول الهدم للمؤسسات التعليمية والقضاء المبرم على المسيرة النهضوية التي كانت سائدة في العراق. وتعتبركلية بغداد بفاذريتها احدى الصروح العلمية العتيدة التي تم تدميرها للمضي قدماً على تدمير باقي مرافق الحياة البنيوية في العراق والرجوع به الى عصور ما قبل القرون الوسطى.
منذ طرد الفاذرية من العراق وكلمة الطرد قاسية جداً بحق هؤلاء الذين كان همهم الأوحد تنشئة أجيال يفتخر بهم العراق بدأ الفاذرية على ترتيب لقاءات كان أولها عام ١٩٧٧ لتكر السبحة كل سنتين في ولاية من الولايات الامريكية وأصبح عرفاً وتقليداً لجميع من ارتبط بهذه المدرسة وجامعة الحكمة وآبائها اليسوعيين بشكل او بآخر مدركاً الجهود المضنية التي بذلت في سبيل تنشئة الأجيال نشأة مميزة تكون فخراً للعراق الذي ضمهم في وقت من الأوقات. بقيت هذه اللقاءات والتحضير لها الى ان توفاهم الله وكان اخر لقاء في احدى ضواحي مدينة بوسطن على مقربة من مقر الآباء اليسوعيين في مدينة نيو انكلاند سنة ٢٠١٢ ليسدل الستار على هذه اللقاءات.
الآباء اليسوعيون المؤسسون من اليمين: الاب كوفي والأب رايس والأب مدارس والأب مفسد (مف)
وفاءاً لهذه الذكريات والحفاظ على ديمومة التواصل فيما بين الطلبة الذين تجمعهم ذكريات مشتركة كثيرة واحياءاً لهذا التواصل قام الأخ الدكتور محمد مجيد العاني بتنظيم اول لقاء عام ١٩٩٦ في مطعم الفنجان في بغداد وكان النواة لبقية اللقاءات التي تلته حيث اخذ على عاتقه جمع البيانات عن كل الذين انضموا لهذا اللقاء لتتوسع القاعدة الى بقية الزملاء الذين يشتركون بذكريات المراحل الدراسية التي جمعتهم كلية بغداد وهذه ذكريات لا تنسى من الذاكرة ابداً مهما طال الزمن وخصوصاً ان الجميع الان في خريف العمر والتواصل مهم جداً بين الأصدقاء القدامى لدوام التمتع بصحة جيدة كما ينصح الأطباء.
الدكتور محمد العاني بذل جهوداً جبارة لدوام الاتصال بباقي الزملاء وانشاء قاعدة بيانات موسعة لتشمل ارقام الهواتف والعناوين وحتى أعياد الميلاد التي يتم تذكير كل المشاركين في هذه اللقاءات بهذه المناسبات التي تضفي روح التواصل وتسبغ على الجميع البهجة والحبور.
توالت لقاءات بغداد الى خمس لقاءات لتجتاز بعد ذلك الحدود الى منطقة البحر الميت في الأردن عام ٢٠١٦ وكان لقاءاً مميزاً وهو اول لقاء أشارك به شخصياً وقد حضره اغلب الاخوة المغتربين من كافة ارجاء العالم وفيه اجتمع المشاركون بعد فراق طويل وانتشارهم في دول الشتات وكل يحمل في جعبته روايات وقصص كفاحهم ونجاحهم في الحياة وتفوقهم ونبوغهم وفعلاً كان لقاء الشموخ والتحديات والتغلب على صعوبات التغرب بكل تفاصيلها إضافة لفعل السنين وتركها الآثار على الجميع بلا استثناء.
صارت اللقاءات تنعقد سنوياً وعدد الحضور يتنامى والشوق لعقد هذه اللقاءات على أشده للقاء الأحبة واستحضار الذكريات الممتعة ومشاركة العوائل وقضاء أوقات ممتعة تسودها المحبة والالفة.
التأم الجمع بعد ذلك في انطاليا التركية ومدريد-اسبانيا واثينا-اليونان وداهمتنا جائحة الكورونا لتتوقف اللقاءات لمدة سنتين بعد ذلك استعاد الدكتور محمد العاني واللجنة المنظمة نشاطهم ليعقد لقاء مرمريس المميز.
صورة تجمع المشاركين في لقاء مرمريس مع عوائلهم
مؤخراً عقد لقاء في مدينة مرمريس التركية للفترة من ٢٢ أيلول ٢٠٢٢ ولغاية ٢٨ أيلول ٢٠٢٢ ضم خريجي كلية بغداد الدورة ١٩٧٢ للاحتفال باليوبيل الذهبي ومرور خمسين عاماً على تخرجهم. ضم هذا التجمع بعض طلاب الدورات السابقة وانا منهم وعوائلهم وبعض أحفادهم من جميع ارجاء العالم ليصل مجموع المشاركين الى ١٠٨ مع عوائلهم. استمر هذا اللقاء لينتظم بمشاركة ٨٩ طالب مع عوائلهم في مدينة إسطنبول التركية ومشاركة ٢١ مع عوائلهم في مدينة يريفان في أرمينيا كامتداد للقاء مرمريس الذي خلد الذكريات في الوجدان. بعض المشاركين قفلوا راجعين الى مواطنهم في الشتات والبعض الآخر التحق بالمجموعة في إسطنبول ويريفان.
مدينة مرمريس تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط في المنطقة الجنوبية الغربية من تركيا في محافظة موغلا وهي مدينة جميلة جداّ تمتاز بهدوئها الذي ننشده هرباً من زحام المدن الكبيرة وصخبها وهي تقع في مصب البحر الأبيض المتوسط وبحر ايجة وكان اختيارها لعقد لقاؤنا هذا اختياراً موفقاً لتوفر وسائل الراحة ومناظر الطبيعة الخلابة والفعاليات الفردية والجماعية وقضاء إجازة فريدة من نوعها.
كان هذا اللقاء العاشر لهذه المجموعة وتميز بانه من أكبر اللقاءات السابقة من حيث عدد الحضور والاحتفاء باليوبيل الذهبي لهذه الدورة التي جمعتهم بأصدقائهم من الدورات السابقة ووفاؤهم لبعضهم ووفاؤهم لمدرستهم التي جمعتهم في مراحل مختلفة واساتذتها المخلصين ودورهم في بناء الأجيال بناءاً علمياً متيناً والذي اتى اُوكُله بالتجربة والبرهان وأثمر عن هذا التجمع بكافة اطيافه وكوادره العلمية التي لا يشق لها غبار.
صورة تجمع خريجي كلية بغداد لعام ١٩٧٢ للاحتفاء بيوبيلهم الذهبي واصدقائهم من الدورات السابقة في مدينة مرمريس التركية
لقد كان الحضور يمثل كافة ألوان الطيف العراقي بكل مكوناته بعيداً عن ذكر المسميات والجميع في وئام وانسجام ومحبة متناهية يجمعنا وفاؤنا لمدرستنا والسنين التي امضيناها مع بعضنا في نهل العلوم والاهم يجمعنا ولاؤنا لبلدنا العراق الذي نشأنا فيه واكلنا من خيراته وشربنا من رافدينه وتغربنا عنه في بلاد الشتات قسراً للظروف غير الطبيعية التي يمر بها وكما عبر عنها أحد الاخوة المشاركين في هذا التجمع باننا "عراقيون ٠٠٠٠ رغم انف السياسة!" لتتجلى حالة الوئام والانسجام والتعاطف بين الجميع بأبهى صورها على عكس ما هو سائد في عراقنا الجريح من حالات التشرذم والضياع ويبقى العراق في وجداننا ما حيينا شامخاً بتاريخه ابياً برجاله وابنائه الاوفياء وللعراق منا السلام ونكرر قول الجواهري:
سلام على هضبات العراق وشطيه والجرف والمنحنى
سلام على باسقات النخيل وشُم الجبال تشيع السنــــا
سلام على نيرات العصور ودار السلام مدار الدنــى
وندعو الله مخلصين ان يمن بالشفاء والصفاء على عراقنا الحبيب ويعود الى سابق عهده وان يمد الله بأعمارنا لبلوغ هذا اليوم انه سميع الدعاء.
علي غالب البصام
4303 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع