في أواخر عام 1966 م عقدت اللجنة المركزية اجتماعها الكامل في وكرنا القيادي ولأول مرة. تمت الموافقة على قرار المكتب السياسي بالأكثرية على عودة (عزيزالحاج) الى الوطن، كل ذلك جرى نتيجة الضغط الهائل لعدد من الكادر الحزبي والقاعدة الحزبية المعارضة لليمين المتسلط على قيادة الحزب. لأن غالبية أعضاء الحزب كانوا يعتقدون ان عزيزالحاج يمثل التيار اليساري في الحزب.
بعد الاجتماع بوقت قصير اعتقل (أنيس كاشف الغطاء) وهو من كوادر منظمة بغداد. عند اعتقاله اعترف فوراً وفي بيته سلمّ جهاز الآلة الكاتبة مع جهاز رونيو تابع لمنظمة بغداد وتحول بيته الى كمين أمني لاقتناص من يزوره.
ذهب كاظم الصفار المسؤول عن الوكر وجهاز الطبع الخاص بمنظمة بغداد الى بيت (أنيس)، ولم يكن يعلم باعتقال رفيقه وانهياره مباشرة. أصبحنا في حيرة من أمرنا، لأنه تعرف على وكرنا عند حضوره إجتماع اللجنة المركزية.
بعد يومين مباشرة زارنا عزيزمحمد ووجدنا: أنا وكريم أحمد الداوود وعمر علي الشيخ وتوفيق أحمد قال: والله عال، ألم تسمعوا باعتقال كاظم الصفار وسيادتكم جالسين مرتاحين؟ ما شاء الله! قلتُ مع نفسي هذا هو أسلوبك يا عزيز محمد، لأنني كنتُ أشعر بالتناقض الرهيب في قرارات عزيزمحمد، فتارة يهمل الإجراءات الضرورية حول الصيانة الحزبية، وأخرى الحزم كما يحدث عند اعتقال كاظم الصفار!
طلبني وانفرد معي في الغرفة المجاورة وقال: أسّس وكراً جديداً على وجه السرعة. ولا أريد أي رفيق من رفاق المكتب السياسي يعرفون مكانك؟ كم يوماً تحتاج؟
قلت: يومان أو ثلاثة، لا توجد مشكلة لايجاد دار للسكن طالما نحن ندفع ما يريدون. قال: تصرف كما تريد. أتفقتُ معه على أن نلتقي بعد ثلاثة أيام في احدى الشوارع.
ثم عاد الى الرفاق وقال: تفضلوا اخرجوا الى ما تريدون! سوف التقي معكم لاحقاً. وبكل برودة قال كريم أحمد الداوود : ولماذا هذا الاستعجال الا ينتظر يومين ويعترف؟
أجابه عزيزمحمد بتوتر: من قـال لك انه سيعترف؟ أريــد الصيانة فقط. وخرج عزيز مسرعاً. بدوري قلت لهم رجاءً أخرجوا بسرعة.
كان عزيزمحمد يتصرف معي في أغلب الأحيان بمودة، وأنا بدوري أبادله نفس الشعور، وهذا كان سبب دهشة عدد غير قليل من الرفاق في القيادة لأنهم يدركون ان العلاقة بيننا ليست ودية حقاً. أنا أتحرى عنه وعن كل شيء يتعلق بنشاطه وهو بدوره كان يتصرف كما أتصرف أنا!
هذه هي المرة الثالثة التي أواجه فيها مسألة ايجاد السكن منذ خروجي من السجن، لكن باختلاف المرتين السابقتين، فالآن أبواب الصرف مفتوحة أمامي أدفع كما يطالبوننا أصحاب العقارات. في السابق كنتُ أعاني من شحة المال. بعد خروج عزيزمحمد مباشرة هرعتُ الى إحدى مكاتب العقار. وصلت الى مكتب دلالية (الأسود) في العطيفية، طلبتُ مسكناً للإيجار. نظر اليّ صاحب المكتب وقال: للأسف لا توجد دور للسكن.
نظرتُ الى اللوحة المعلقة خلف الدلال رأيتُ سبعة مفاتيح واللوحة تشير الى دور سكن للأيجار استغربتُ، نظرتُ الى هندامي وعرفتُ القصة. كنتُ أرتدي سروالاً قديماً مع قميص عتيق وأنتعل صندلا. قلت: شكراً أخي وذهبت. عدتُ الى البيت مسرعاً دخلتُ الحمام وحلقت ذقني وارتديت بدلة غامقة أنيقة مع ربطة عنق لون خمري ونظارات شمسية وأخذتُ سيارة (آرا خاجادور) نوع "انكيليا"، وعدتُ الى نفس المكتب. لم أنزل من السيارة، استخدمتُ منبه السيارة (هورن) نزل صاحب المكتب مسرعاً، وقال: تفضل أستاذ؟ قلت: أريد مسكناً للإيجار؟ قال: تفضل انزل لدينا عدة بيوت. بلهجة الآمر قلت: هات المفاتيح لنذهب.. أنا مستعجل!
جلب المفاتيح وذهبنا. أول مسكن رأيته وتفحصتُ المنطقة ووافقت، وجدتُ كل الشروط للوكر الحزبي متوفرة، لا توجدى دكاكين أو محلات بيع وعدة فروع تؤدي الى الدار وعلى نهر دجلة مباشرة. قال الدلال: إيجار غالي استاذ! قلت كم؟ قال: (350 ديناراً) والإيجار سنوي يدفع سلفاً. أجبت لا بأس أدفع الآن. وسألته: من صاحب الدار؟ قال: هي امرأة وانا مخول باستلام الايجار وتوقيع العقد.
رجعنا الى مكتبه وتم كل شيء على ما يرام.. ثم قال: خمسة دنانير دلالية.
أجبت: لن أدفع فلساً واحداً. قال: ولماذا يا أخي؟
قلت له: لست أنت وحدك تتعامل مع الناس على أساس الملابس والفخفخة. أرأيت كيف هرعت الى السيارة. قال: والله الحق معك والانسان يتعلم من الآخرين. ارتحت لجوابه. قلت الآن بدل خمسة دنانير تفضل خذ (20) دينارا.
قال: من أين أنت يا أخي؟ أجبت: واحد من هذا الشعب الطيب! قلت مع نفسي "آه لو أستطيع أن أزوده ببيان من حزبنا الشيوعي"!
أول صدام مع عامر عبدالله
قبل يوم واحد من ترك الوكر القيادي (كورنيش الكاظمية) كان عزيزمحمد قد طلب تهيئة أجهزة الطباعة (أوفسيت) ونقلها الى مكان آخر، رتبتُ الأجهزة في عدة كارتونات، وكنا بانتظار مجيء رفيق لأخذها.. وإذا بعامر عبدالله وهو يقود سيارة أمريكية طويلة جداً، ديزتو، في العراق نسميها (أبو عليوي).. كراج البيت صغير جداً، لا يسع حتى سيارة (فولكس فاكن)، أدخل مقدمة السيارة ونصفها في الشارع ، حتى الأبواب الخلفية في الشارع.. طلبتُ منه أن يخرج ويضع خلف السيارة داخل الكراج، حيث لا يمكن اخراج الأجهزة الى الشارع. إلا انه لم يستجب، وقال: يلا بالسرعة وبأسلوب نتر.. أنا وزوجتي نتكلم باللغة الكردية ونقول مع أنفسنا، لا يمكن نقل الأجهزة من خلال الشارع.
واذا بعامر عبدالله بعصبية وأسلوب نتر أيضاً يقول: (لماذا تتكلمون باللغة الكردية؟ هل تشتمونني)؟ طلبتُ منه وبعصبية أيضاً، أن يخرج ويعود الى من أرسله وقلت: (من جابك علينا؟ كان عليك أن تكون قومياً أو بعثياً، أنت والحزب الشيوعي كوجا مرحبا، قبل فترة وفي اجتماع المكتب السياسي تقول: لا يمكن ان يكون شيعي رئيساً للجمهورية وهذا فيتو دولي؟ والآن تقول لماذا تتكلمون باللغة الكردية.. كررت (اطلع برة)!
لم ينطق بشيء .. خرج مسرعاً وهو يقود السيارة الى الخلف ، كاد أن يصطدم بسيارة أخرى في الشارع ، وينظر الينا كأننا بعبع أمامه . بعد ساعة وصل عزيزمحمد ، وقال ماذا فعلت مع أبو عبدالله ؟
سألت وماذا قال ؟ أجاب : أبو جلال شتمني وطردني!
أجبت : هذا فقط ؟ قال : نعم ، هل هناك شيء آخر ؟
قلت : فوق فعلته الشنيعة ، طلع كذاب ؟ ثم زوجتي تكلمت عن الموضوع بالتفصيل .. قال عزيزمحمد : احسبوا عليّ وأنا غلطان ، راح أبعث برفيق آخر لأخذ الأجهزة. جاء رفيق آخر وانتهى النقل على مايرام.
وقفة مع الزمن الماضي .. كيف أصبح عزيز الحاج ملكاً غير متوّج؟
أعتقد السيد الحاج انه قد أصبح قائداً بلا منازع حيث جرى ما يلي:
بعد عودته الى الوطن، عقدت اللجنة المركزية اجتماعاً بكامل أعضائها وانتخب الحاج عضواً أصيلاً في اللجنة المركزية ومكتبها السياسي وتسلم المهمات الحزبية التالية:
أولاً، مشرفاً على لجنة منطقة بغداد، اللجنة المنطقية بكاملها ضد رغبة اليمين في الحزب عدا المرحوم (حسين جواد الكمر) حيث كان مع اليمين حتى النخاع. وعلى وفق خطة محكمة تقمّص التطرف اليساري قبل عودة عزيزمحمد الى الوطن. كان الرفيق شاكر محمود قد حدثني بشيء من التفصيل عن "الكمر" وعرّفني بمواقفه العملية مع اليمين وسأتناول ذلك بالتفصيل لاحقاً.
ثانياً، أصبح الحاج مسؤول العلاقات الوطنية للحزب.
ثالثاً، المسؤول الأول (للجنة الدعاية والنشر المركزي).
رابعاً، المسؤول عن الإعداد لوثائق المؤتمر الثاني للحزب.
أي بعبارة أدق أصبح ملكاً غير متوج. كافة الأمور الحساسة للحزب سلمت له. فالسكرتير وأعضاء المكتب السياسي كانوا على معرفة جيدة بعزيزالحاج وتصرفاته الصبيانية وكانوا يريدون دفعه للإنشقاق بكل السبل والتخلص من الحاج والمعارضة الحزبية دفعة واحدة.
المرحوم (حسين جواد الكمر) كان عضواً في لجنة منطقة بغداد وعضواً في لجنة النشر المركزي.. عندما سمع بمسؤوله الجديد (الحاج) امتنع عن حضور الهيئات الحزبية المنسّب لها وقال: لن أقبل الحاج مسؤولاً عني! انه يعتقل وبعد صفعة واحدة يعترف وينتقد نفسه.
مشكلة الكمر
كان للكمر مشكلة حادة مع المكتب السياسي تتلخص بما يلي: زوجته لـــم تكمل المرحلة الثانوية ويطلب إرسالها للإتحاد السوفياتي للدراسة الجامعية، وكان يطلب أن تزوّر لها شهادة الثانوية لتدخل الجامعة مباشرة. وكان المكتب السياسي يرفض ذلك وقيل له: نرسلها الى موسكو ونوصي على أن تكمل المرحلة الثانوية في موسكو ومن ثم تدخل المرحلة الجامعية ولا نزور الشهادة!
والكمر يقول: سنة لغة ومن ثم سنة دراسة ثانوية ثم الدخول الى الجامعة هذا ضياع للوقت.
كان الكمر وحيداً بين رفاق لجنة منطقة بغداد يدعم اليمين ومن أنصار خط آب 1964 برغم تظاهره في الاتجاه اليساري، فالمكتب السياسي أراد دفعه مع عزيز الحاج بكل السبل، وأخبره أحد رفاق المكتب السياسي: لديك مشكلة زوجتك والحاج أصبح كل شيء في الحزب وهو عضو في المكتب السياسي، اطرح قضيتك على الحاج وسوف يساعدك.
التقى الكمر مع الحاج وطرح مشكلة زوجته! قال له الحاج: المسألة بسيطة جداً، يا ما زورنا الشهادات في (براغ)، اترك المسألة لي أنا!
اتفق الطرفان، (توضيح للقارئ الكريم ليس هناك شيء من الصحة لادعاء عزيز الحاج فلم تزوّر الشهادة لأيّ كان. وهذا ما أكّده لي الرفيق أحمد كريم طه، حيث كان عضواً في سكرتارية تنظيم الخارج منذ تأسيس تنظيم الخارج عام 1960 م) وعزيز الحاج كذب على رفيقه (الكمر) من أجل كسبه فقط.. ولقد ثبت من خلال تجربتي المريرة معه انه كان يكذب بامتياز.. وخلال سبعة أشهر من عضوية الحاج في المكتب السياسي، قبل انفجار الحركة الانشقاقية، لم يستطع الحاج من تدبير إرسال زوجة (الكمر) الى الدراسة الجامعية في موسكو أو براغ.
البحث عـن وكـر جـديـد!
لقد تطرقتُ الى وكرنا الجديد في العطيفية وشكوكي من مآرب السكرتير والخوف من جُبن وفزع عزيزالحاج. بدأتُ أبحث عن وكر جديد.. وجدتُ داراً في الشارع الخلفي لمستشفى اليرموك، ايجاره السنوي (450 ديناراً) يدفع على أربع أقساط متساوية.. وقعت العقد من دون تردد وقبل أخذ موافقة عزيزمحمد، كان مكتب دلالية العقار في المنطقة مخوّلاً لتوقيع العقد ولم أتعرف على صاحب الدار.
الدار حديثة البناء جاهزة للسكن وتشتمل على أربع غرف نوم وهول وصالة لتناول الطعام واستقبال وحديقة أمامية وخلفية وجانبية غير مكتملة الزرع.. الدار من طابقين و31 شباكاً، أشتريتُ كمية كبيرة من أقمشة الستائر، بالأضافة الى ما كان لدينا من ستائر قديمة، والاثاث الذي نملكه لا يصلح لهذه الدار الكبير والحديثة. ثم اشتريت الأثاث الذي يلائم الدار من (مزاد الصباغ العلني) في ساحة الأندلس ببغداد.
انتقلنا على وجه السرعة، قال الحاج: هذه الدار كبيرة جداً ماذا نفعل بها؟ أزعجته وقلت له: هذه الدار من أجل عقد المؤتمر الثاني للحزب! قال باستغراب: مؤتمر هنا في بغداد؟ أجبت: نعم! قال: هناك قرار ان يكون المؤتمر في كردستان، هل قال لك الرفيق عزيزمحمد ذلك؟ أجبت: لا أبداً، وللآن لا يعلم بالموضوع ولا بموقع الدار!
مفاجأة غير متوقعة
بعد أسبوعين فوجئتُ بزيارة صاحب الدار.. رجل طويل القامة، أحمر البشرة ويعتمر طاقية افرنجية.. عند دخوله هرع الحاج واختفى داخل الحمام (تواليت)! سأل المالك: ماذا تشتغل؟
أجبت: أعمل في التجارة!
ـ وأي نوع من التجارة؟
أجبت: تجارة عامة، وأضفت: أنا من مدينة كركوك، اختلفتُ مع الوالد، اقترحتُ على الوالد الانتقال الى بغداد وتوسيع عملنا التجاري، إلا ان الوالد رفض لهذا سوف أشتغل لوحدي.
قال: أنا عضو في المجلس الوطني، وقدّم لي بطاقته الشخصية. وأضاف: أستطيع تقديم المساعدة في تجارتك، رجاءً لا تزعج والدك.
عندما ذكر اسم المجلس الوطني شعرتُ بنوع من القلق، ثم قال: أين سيارتك؟ أرى ان هناك دراجة نارية؟
أجبت: السيارة تركتها في كركوك للوالد وسأشتري سيارة أخرى، أما الدراجة النارية فهي لأخي الصغير!
ولأجل ان يكف عن الأسئلة سألت وقلت: أرى ان الحديقة غير مكتملة؟ قال: أقترضتُ من العقاري وحالياً لا أستطيع اكمالها، إن شاء الله لاحقاً! وجدتُ فرصتي وقلت له: أنا على استعداد ان أدفع ايجار سنة كاملة وان أردت سوف أدفع أكثر، كنتُ قد أتفقتُ على الدفع في أربعة اقساط متساوية وأردتُ التخلص من هذا الفضولي اللجوج.
قال: تكفي وزيادة! دفعت بقية الإيجار.. استلم وشكر ثانية ثم غادر وقال: ان الأكراد طيبين للغاية.
خرج الحاج من الحمام وهو مرتبك قال: ملعون كيف دبرت ذلك؟
أجبته وقلت: شكراً على اختفائك! وإلا لفضحتنا، وكنت تعترف من دون مقاومة، لربما تقول له: هذا وكر للشيوعيين وننوي عقد مؤتمر حزبي هنا. أليس كذلك؟
أجاب: والله مشكلة كيف نقضي الوقت معاً! خاطبته بتهكم وقلت: إن لم تتعقّل فلن ترى.
وقفة مع الزمن الماضي .. دخل عزيز الحاج مرتدياً سروالاً مهلهلاً وقمصلة كابوي قصيرة وفي يده زوج (نعل) بلاستيك
الـوكر الجـديـد!
انتقلنا من الوكر القديم بسلام .. وجاء عزيزمحمد حسب الاتفاق والتقينا في العطيفية وذهبنا معاً باتجاه الوكر الجديد ،عند البوابة الرئيسية وقف عزيزمحمد وقال : قبل شهرين تركنا هذا الدار ، كنا من الشباب والجيران شككوا بنا على ان البيت سيئ اجتماعياً . قال على أي حال أنتم عائلة زوجتك والأطفال ولن يشكك بكم أحد لأن الشكوك لم تكن سياسية .. ثم قال : كم دفعت ؟ أجبت ايجار سنة كاملة 350 ثلمائة وخمسون ديناراً !
قال : لا بأس أكمل السنة واترك هذا المسكن .لاحقاً تأكد صمود ( كاظم الصفار ) ولم يكشف أي سر حزبي هذا ما قاله عزيزمحمد .. ثم قال لديّ سفرة قصيرة لمدة شهر وأعود اليك .
في أوائل شهر آذار عام 1967 م وفي ساعة متأخرة من الليل جاء عزيزمحمد ومعه عزيزالحاج .. وكنتُ على معرفة تامة بشخصية الحاج .. كان يرتدي سروالا مهلهلا وقمصلة كابوي قصيرة وعلى الطريقة الأوربية حقيبة صغيرة على الكتف الأيمن وفي اليد اليسرة زوج (نعل) بلاستيك من النوع الرخيص . كان منظره مضحكاً لم يكن يتوقع بأنني أعرفه جيداً .. بعد تبادل التحايا دخلنا غرفة الجلوس قلت أهلاً بعزيز الحاج . واذا بالحاج يقول بعصبية : من هو عزيزالحاج انك مخطئ؟ ! أنا وعزيزمحمد ضحكنا ضحكة قوية لمدة ثواني .. ثم قال عزيزمحمد : أبوجلال يعرفك جيداً لا تخشى منه انه من جماعتك .
أجبت : عفواً رفيق انه ليس من جماعتي . هكذا كان عزيز محمد يعبر عن أفكاره البغيضة تجاهي . ربما للعلاقة الوثيقة بيني وبين الرفيق شاكرمحمود ، وشاكر لم يخف مشاعره وتعاطفه مع أفكار عزيزالحاج بل كان من المطالبين بعودته الى الوطن . وكان عزيز محمد ينظر اليّ في الظاهر بكل حب ومودة ولكن في الباطن يضمر شيئاً آخر تماماً وكان هذا أسلوبه ليس معي فقط وانما مع كثيرين من الرفاق حتى رفاقه في المكتب السياسي .
قبل مغادرة السكرتير سلمني مبلغ ( 400 ) دينار وقال هذا ما لديّ الآن . شمل هذا المبلغ ايجار السكن مع اكرامية للدلال ، وثلاثون ديناراً كمخصصات حزبيـــة ، وهذه المخصصات لم تكن تكفي للمصاريف العائلية لذا كنتُ مضطراً أن أعمل في محلات الخياطة ( تفصيل البدلة فقط) ، لقاء ثلاثة دنانير لتفصيل كل بدلة، وكان الدخل الشهري لهذه العملية يتراوح بين 120 و 150 ديناراً شهرياً وبذلك كنتُ أستطيع تقديم مساعدات مالية شهرية ثابتة لوالدتي وأخوتي .
قال عزيزمحمد قبل مغادرته : الحاج يبقى عندك ضيفاً لمدة أسبوع .
قلت : أسبوع واحد فقط ؟!
بعد خروج السكرتير قال الحاج : لماذا لا تريد أن نبقى معاً؟ سمعتُ من الرفيق السكرتير اسم أبو جلال ، وفي ( براغ ) حدثني أبو أمل أي ( شاكر محمود ) عنك كثيراً.. أنت معلم مفصول أليس كذلك ؟
قلت: لا يا أخي ، أنا مهنتي خياط بالأصل ! وإذا به يقول : أول سكرتير لحزبنا عاصم فليح كان خياطاً! كان يحاول التقرب مني !
أجبت : إن بقاءنا معاً لن يخدم .. وليس من مصلحتنا البقاء سوية ! تأكد يا أخي ان بقينا سوية سوف ندخل في مشاكل لا أول لها ولا آخر وسوف تفقد عضويتك في الحزب وليس في القيادة وحسب .
ما فاجأني قول الحاج " أنت معلم مفصول " أدركتُ ان الرفيق شاكر محمود قد تحدث مع الحاج في كل الأمور رغم رجائي ان لا يفعل ذلك . كان شاكر قد دبر ليّ هوية التعليم المزورة استخدمها في بعض الحالات ، كذلك هوية غرفة تجارة بغداد وهي غير مزورة بل هويتي القديمة وتمكنا بأسلوب ما من تجديدها.
عـودة عزيز محمد
جاء عزيزمحمد مرة أخرى بعد أسبوع وقال: لم أجد رفيقاً أفضل منك لضيافة الحاج! رفضتُ مقترحه.. إلا انه أصرّ وقال: هذا قرار الحزب عليك أن تقبله! حاولت كثيراً التخلص من هذا القرار ولكن من دون جدوى. في تلك الليلة بدأتُ أفكر كثيراً، لم أستطيع النوم حتى الفجر. استرجعتُ الذاكرة مع عزيزمحمد ونواياه ووضعتُ أمامي احتمالات عدة: أولاً ماذا أعدّ لي؟ ولماذا يلح على ابقاء الحاج معي وهو يدرك مشاعري تجاه الحاج؟ برغم ما كان سائداً في الحزب، أي المطالبة والدعم من قبل الكادر المتقدم لعودة عزيز الحاج. أصبحتُ بين الشك واليقين، والشك يفقد المرء توازنه. هل يجوز ان الرفيق السكرتير قد وضع فخاً لنا، ليّ وللحاج؟
هذا أول احتمال خطر ببالي. تذكرتُ أيضاً ما قاله عند الباب الرئيس: (غادرنا هذا البيت والجيران كانوا يشكون بنا)، إذن كيف يقبل أن نبقى في وكر قديم سبق أن اُكتشف أمره، وهو يعلم بجُبن الحاج وتصرفاته الغريبة؟ عزيزالحاج يخشى من ظله. تذكرتُ أيضاً ان السكرتير قال: (نعم، ليعُد هذا المخرب). هكذا بدأتُ أفكر! زوجتي حائرة معي. بقيت في حيرة من أمري مدة ثلاثة أيام متتالية وأنا أفكر. واخيراً قررت الانتقال من هذا الوكر بالسرعة الممكنة ولا أريد العيش في أجواء الشك. لابد من إحباط خطة عزيز محمد إن كان حقاً ما توصلتُ اليه هو فخ أعدّه لنا. وفكرتُ في احتمال آخر: السكرتير يتمنى كبس البيت من قبل الأجهزة الأمنية وهو يعرف عزيزالحاج جيداً كما أعرفه أنا، فهو سينهار خلال الساعات الأولى وينتهي سياسياً، أما شوكت فيكون أمام خيارين: أما موته سياسياً كعزيز الحاج أو إبقاءه في أقبية السجون الى أجل غير مسمى.. هذا ما كان يدور في ذهني وأنا في حيرة من الأمور.
في الأسبوع الثالث جاء عزيز محمد قلتُ له نصاً: أريد الانتقال من البيت. أستغرب وقال: لماذا؟ هل حدث شيء؟
أجبت: لا مجرد صيانة!
أجاب: لقد دفعت إيجار سنة كاملة.
قلت: ليس هذا هو المهم، بل المهم صيانة الحزب، وواجبي الحزبي يحتم على ذلك.
قال: نوّرني؟ قلت: يا رفيق، ليس هناك شيء، أريد الانتقال فقط! شعر بإصراري ووافق، وقال: على راحتك.
حديث مع الحاج
بعد خروج السكرتير كانت ملامح الحاج قد تغيرت جذرياً.. وتساءل: هل اكتشف أمر البيت؟
قلت: لا يا أخي، لا تهتم ولا تزعج حالك هذا طبعي.
قال: كيف تتكلم مع الرفيق عزيز محمد بهذا الأسلوب؟
قلت: أنا أحب عزيز محمد وهو يحبني، وهو كردي وأنا أيضاً! قال: طيب أنا كردي! قلت: صحيح، والعلاقة بيني والسكرتير علاقة (ماينة) بيننا، كثيراً ما نتبادل أطراف الحديث وحتى النكات الطريفة من باب المزح.. أما أنت فعلاقاتك سياسية بحتة وأعلم الخلافات بينكما منذ أيام براغ.
كنتُ أحاول استفزازه كي يتركنا، لأنني كنتُ واثقـاً مـن مصيـره على يــد السكرتير.. ثم قال: يا رفيق (شاكر محمود) طلب مني أن أبحث عنك في كل مكان ولقد أصبحنا معاً، لماذا تتصرف معي بجفاء؟
أجبت: يا أخي، ألا تشعر؟ لا أريد أن نكون معاً وكفى!
والحاج لا يدري أية طبخة أعدّت له من قبل السكرتير، ولا أستطيع أن أبوح له بشيء فهو ثرثار. لقد نقل لي كل ما تحدث به شاكر محمود، فكيف أثق بهذا الانسان؟ إنه سوف ينقل كل كلمة فيما لو أخبرته عن تصوري وشعوري تجاه السكرتير وما يكنه للحاج، كنتُ في حيرة من أمري، فمن جهة أريد حماية الحاج من مصيره المجهول ومن جهة أخرى انه ليس موضع الثقة!
وقفة مع الزمن الماضي .. أصبت بالدهشة حينما عرفت أن البيت الذي استأجرناه يعود لـ(محسن الرفيعي) مدير الاستخبارات العامة سابقاً!
سوى الضيم!
في أوائل نيسان 1967 م أكتمل كل شيء ولم تبقَ إلا السيارة. طالما ادعيت التجارة اذن لابد من شراء السيارة، برغم ان وجود السيارة تسبب لنا حرجاً لأننا لا نخرج إلا في مواعيد أسبوعية واحياناً أكثر من أسبوع، في نيسان 1967 م اشتريت سيارة من أحد المعارض في بغداد نوع (فوكسول) الإنكليزية بمبلغ 750 ديناراً ومن ثم بعتُ الدراجة النارية.
كنتُ في زيارة أحد رفاقنا وهو ضابط مفصول من الجيش كان قد ترك الحزب وتربطنا علاقات عائلية. بعد أن تحدثنا طويلاً قدمتُ له البطاقة الشخصية لمالك الدار وسألت ان كان يعرفه؟
بعد ان اطلع على الكارت استغرب وقال: من أين لك هذه البطاقة؟ أجبت: ولماذا تسأل: هل تعرفه؟ وأضفت: منذ مدة وأنا أبحث عن دار للسكن عن طريق أحد المكاتب العقارية أخذتُ البطاقة وأنوي مخابرته وأتفق معه على الأيجار!
قال: ألم تسمع بـ(محسن الرفيعي)؟ قلت: لا أبداً! أجاب: أياك أن تقترب منه، (محسن) هو مدير الاستخبارات العامة سابقاً! أجبت: يا رفيق أيُعقل بعد ما سمعته منك عن هذا الشخص؟! والرفيق لا يعلم بأنني قد استأجرتُ الدار وسكنتُ فيها منذ مدة ما يقارب الشهر تقريباً! كان من المفترض أن أزور رفيقاً آخر.. إلا أنني عدتُ الى البيت مسرعاً ولم أستطيع النوم في تلك الليلة السوداء ولم أتمكن حتى من التفكير. أية مصيبة وقعتُ فيها؟
بعد أن أطلع الدكتور عبدالحسين شعبان على مسودة كتابي هذا، أكد ليّ ان (محسن الرفيعي) كان رئيس الاستخبارات العامة حتى انقلاب شباط عام 1963، وقدّم معلومات إستخبارية الى قادة الإنقلابيين في 1963. وفي عام 1967 كان مستشاراً في القصر الجمهوري، وادعى انه عضو في المجلس الوطني آنذاك. كما أكد الدكتور شعبان ان الرجل على قيد الحياة الى الآن.
في الساعة السادسة صباحاً تناولت كأسين من الويسكي ولا أعرف كيف غفوت، في الرابعة عصراً أفقتُ من النوم. كان كل تفكيري في البداية هو عزيزالحاج! هل أخبره بما حدث لنا؟ قلت مع نفسي سوف يصاب بالسكتة القلبية لا محال. ما العمل اذن؟!
قررتُ ان أخلد الى الراحة والنوم مجدداً.. زوجتي تسأل وتقول: اذهب الى الدكتور أنت مريض، هل تشعر بألم ما؟ أخفيت القصة حتى عن زوجتي برغم أنهـا قوية. يجب أن أحفظ السر مهما كان الثمن! يقال إن عرفـت الشفة بالسر فلن يبقى هناك سر!
بين اليوم والبارحة
في اليوم الثاني وجدتُ نفسي مرتاح البال نسبياً.. كان عليّ الاختيار، وما أصعب الأختيار في مثل هذه الحالات. لقد بدأتُ أسترجع ذكريات الماضي .. تذكرتُ أحاديث الشهيد حمزة سلمان، وهو يروي القصص التالية (وهنا أنقل كل كلمة أو مفردة لما ورد على لسان الشهيد حمزة سلمان نصاً):
"في العهد الملكي كانت مطبعتنا المركزية السرية في احدى البيوت القديمة وفي شارع النهر قريبة من مديرية التحقيقات الجنائية ، بهجت العطية ، وكنا في سلام وهدوء الى ان غادرنا .. ولم يتوقع بهجت العطية للحظة واحدة بأن المطبعة الشيوعية جيرانه).
قال: (بعد التوقيع على ميثاق ( جبهة الاتحاد الوطني ) عام 1957 م كان الحزب قد قدم هدية الى الجبهة (جهاز طبع) وهي عبارة عن آلة كاتبة وجهاز رونيو ودار الطباعة تقع في عقد النصارى ولا تبتعد عن التحقيقات الجنائية سوى عبور شارع الرشيد. في يوم 13 تموز عام 1958 م أستلمتُ رسالة من الرفيق (سلام عادل) جاء فيها: هناك خطر يداهم مطبعة الجبهة تمسك برباطة الجأش اذهب وانقذ المطبعة. ذهبت الى بيت المطبعة وحسب الاشارة المتفق عليها (ثلاث دقات على الباب) والاشارة الجوابية عبارة عن طقطقة قبقاب.. كل شيء كان حسب الاشارة. فتح الباب واذا برجال الأمن يشهرون فوهات مسدساتهم بوجهي: قلت أنا حمزة سلمان عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي! اقتادوني عبر شارع الرشيد الى مديرية التحقيقات الجنائية. في اليوم الثاني قيل لي تفضل أستاذ أخرج لقد قامت الثورة؟ طلبت المطبعة، قالوا الدولة كلها أصبحت لكم عن أية مطبعة تسأل؟
قلت لهم: أمس جئتُ من أجل المطبعة واعتقلت. لن أذهب دون استلام ما اعتقلت من أجله. لم أغادرهم إلا بعد حصولي على المطبعة. ثم أضاف: نتيجة اعتقال أحد العاملين في المطبعة وهو من الأخوة البعثيين كان قد اعترف على موقع المطبعة وأكد قائلاً: من تجربتي الطويلة لم يكشف أى وكر حزبي أو دور للطباعة إلا نتيجة التسيب والأهمال في الصيانة أو الخيانة)! بعد ان تذكرتُ كل ذلك وتجربتي الخاصة قررت البقاء في دار مدير الاستخبارات العامة . ولولا الحركة الانشقاقية لما غادرتُ المسكن.
المصدر:صحيفة المشرق
971 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع