مذكرات مترجم اللغة الفرنسية لصدام حسين / د.صادق عبدالمطلب الموسوي/ ح٧

  

مذكرات د. صادق عبدالمطلب الموسوي مترجم اللغة الفرنسية لصدام حسين .. شــاهـد ورأى كــل شــيء الحلقة السابعة.

  

نعودُ لأهل الخير الذين وجدوا لوالدي وظيفة مراقب عمل لبناية تحت الإنشاء مقابل دائرة الحبوب في مفترق الشيخ عمر وكراج باب المعظم  بأجور يومية زهيدة ومازالت أنقاض البناية موجودة إلى يومنا هذا, لقد خفف هذا العمل من خطورة العمل السابق على صحتنا من آثار غبار التبوغ! ولكن العين بصيرة واليد قصيرة أمام مستلزمات الحياة وعندما بدأت السنة الدراسية ولما لم يستطع والدي تحمل نفقات المدرسة اضطررت إلى الالتحاق ببيت عمتي حيث أن ولدها يعمل معلما في مدرسة التضامن الابتدائية في "الأضرملي" في جانب الكرخ بالقرب من مستشفى الكرامة حاليا والتي لم يعد لها وجود, تكفلني ابن عمتي ونقلني إلى نفس المدرسة التي يدرس فيها أي "التضامن" وكنت آنذاك في الصف الرابع الابتدائي, وهكذا مر عام 1954 وأنا أتنقل بين والدي في الرصافة وإقامتي في بيت عمتي في الكرخ من أجل الدوام في المدرسة ولكن لم أنقطع عن مساعدة الوالد في العمل أيا كان, ولما لم تكن أجور الوالد اليومية مقابل مراقبة العمل تسد حاجات البيت ومصاريفنا اضطر رحمه الله إلى العمل في أحد المخابز القريبة من دارنا في منطقة إمام طه بصفة بائع وكان عليه النهوض في ساعة مبكرة من الصباح للبدء بالعمل ريثما يواصل عمله الثاني في مراقبة العمال! اما أنا فعز علي الجلوس في الدار ومشاهدة والدي في هذا الصراع من أجل لقمة العيش فتناولت طبقا من المطبخ ووضعت فيه بعضا من علب السكائر "كالبلاط" والـ"المختار" "وغازي" "وتركي" ورحت أجوب الشوارع وأصيح وأنا أحمل طبق هذه العلب وأصيح "جيكاير.. جيكاير.." حتى وصلت المقهى المطلة على دجلة خلف المدرسة المستنصرية الاّثرية وعندما تجولت في أروقة المقهى وإذا بأحد الزبائن ينادي علي: أبو الجكاير, أبو الجكاير, تعال...! فتوجهت إليه وظننته يريد علبة سكائر.. فقال لي: عفية, عفية الله يساعدك. وإذا به ابن خالة الوالد السيد جعفر شروفي رحمه الله الذي من أجله صفيت على عجل ممتلكات جدته العلوية "رازقية" التي هي بنفس الوقت جدة والدي.. شجعني ورثى لحالي.. ولما كان الطبق الذي أحمل فيه علب السكائر صغيرا "صينية نحاسية بيضوية قديمة" فما كان من والدي إلاّ أن أوصى أحد أصدقائه ومازلت أتذكره ذلك الشخص الطيب عبد الهادي الذي كان موظفا في مذخر الطب في الباب المعظم وإذا به بعد أسبوع واحد يوصي الوالد بمراجعة المذخر لاستلام "هديتي" التي هي عارضة خشبية ثبت عليها من الجانين حزام جلدي من أجل حمل العارضة على صدري بواسطة هذا الحزام أي بالعامية "جنبر"...آه من ذلك "الجنبر" فقد حز رقبتي وكسر أضلاعي الهشة وأنا الصبي الصغير.. لكبره وقد كان يصلح حوضا للسمك وليس لعلب السكائر...! ونتيجة لهذه الظروف المعيشية القاسية فقدت والدتي رابع ولد لها المرحوم "جميل" الذي ولد وهو يحمل عاهة ولادية في القلب. لم يستمر الوالد طويلا في مراقبة العمال فقد ألغي عقده مع انتهاء العمل في البناية وعاد ثانية إلى التبوغ ولكنه لم يستمر هذه المرة طويلا إذ هيأ له الله أحد الأصدقاء لإنقاذه من هذا العمل المضني لنبدأ مرحلة جديدة من حياتنا في بغداد.
معمل ألبان الرافدين
كان للوالد معارف وأصدقاء في بغداد تعرف عليهم في مواسم الزيارة أثناء عمله في فندق شاطئ الفرات في كربلاء من بينهم المرحوم الحاج علي البياع وذات يوم أرسلني الوالد إلى دار الحاج علي البياع خلف علوة المخضر في الشورجة من طرف شارع غازي "الكفاح" حاليا محملا إياي رسالة له لم أعرف فحواها سلمته الرسالة عندما اطل علي  ببدلة بيضاء "سترة وزبون" ومعتمرا "كشيدة".. متوسط القامة, رشيقا, عريض المنكبين بلحية بيضاء كبدلته, أخذ مني الرسالة وعاد بعد قليل ليسلمني رسالة جوابية للوالد لم أعرف فحواها أيضا... كان عمري آنذاك بين الثاني عشر والثالث عشر ربيعا...
وفي مساء يوم حار من صيف عام 1955 اصطحبني الوالد لزيارة أحد اصدقائه في منطقة الشيخ معروف وعندما وصلنا إلى المكان وإذا به محل يضم أكبر "تورنة" في المنطقة بأسرها, وظهر أن صديق والدي هو الشخصية المعروفة باسم محمد علي التورنجي المكنى "أبو ناظم" استقبلنا الرجل أبو ناظم في بدلة صيفية بيضاء وكأنه صاحب فندق ذي خمس نجوم وليس في محل تورنة! وبدا لي أن أبا ناظم ليس مجرد تورنجي بسيط فقد علمت فيما بعد أنه أحد كبار رجال الأعمال في مجال الأدوات الاحتياطية في الأربعينيات من القرن الماضي يسكن في قصر شاهق بجوار وزير الخارجية السابق توفيق السويدي مقابل السفارة البريطانية في منطقة الكريمات إلاّ أنه أفلس يسبب ولعه بالمجون والنساء وعاد لعمله السابق, وقد تعرف على والدي من خلال إقامته في فندق شاطئ لفرات عند زيارته أبا عبد الله الحسين "ع", احتفى بنا الرجل كثيرا واهتم في إيجاد عمل مناسب للوالد ينقذنا من الوضع الذي كنا فيه, كان أبو ناظم على علاقة ودية بصديق له اسمه الحاج داود السلمان يملك معملا كبيرا للألبان باسم ألبان الرافدين في منطقة الكريمات بالقرب من الصالحية وكان هذا الرجل متعدد الزوجات فهو لم يكتف بزوجتيه الأولى والثانية اللتين أنجبتا له الكثير من الأولاد والبنات تزوج بثالثة في ريعان شبابها وتتمتع بجمال أوروبي ويبدو أن ابا ناظم هو الذي كان وراء هذا الزواج لعلاقاته الواسعة بالنساء وإرضاء لها ترك زوجتيه وأولاده وأقام معها في شقة في نفس البناية التي تضم المعمل, كان الرجل آنذاك في العقد السابع  من العمر ويعاني من جلطة دماغية سابقة ومن السكري والضغط كبقية العراقيين! وكالعادة فإن الزوجة المدللة تثير زوجها ضد ضراتها وأولادهن فأدخلت الشك في قلب زوجها من أولاده الذين كانوا يديرون المعمل على أحسن ما يرام ومع ذلك كان بحاجة لشخص أمين يراقب الحسابات من واردات ومصروفات أي مراقب على أولاده وكان الوالد هو المرشح لهذه المهمة أو الوظيفة! كان أبو ناظم على علم بحاجة الحاج داود لشخص بمثل هذه المواصفات ووعده خيرا ولكن كيف يخطط لإجراء اللقاء بين الوالد والحاج داود وإقناع الأخير بأمانة هذا الشخص الذي هو والدي.
إعداد خطة اللقاء والإقناع!
كانت خطة اللقاء مرتبة على أساس استقدام والدي من كربلاء خصيصا للعمل عند الحاج داود وفعلا ذهب أبو ناظم إليه في معمل الألبان بانتظار قدوم الوالد وفي الساعة الخامسة مساء وصل إلى معمل الألبان وهو يعتمر عمامة خضراء على أساس أنه قادم توا من كربلاء, وبعد الترحيب والمجاملات بدت على الحاج داود أمارات الرضا والارتياح من الوالد وهذا يعني نجاح الخطة! كانت المهمة التي كلف الوالد بها صعبة ودقيقة في آن واحد فقد عين أمينا للصندوق ومراقبا على أولاده في إدارة المعمل براتب قدره خمسة عشر دينارا شهريا, بعد عدة أيام استلم الوالد العمل واستطاع أن يؤلف بين الوالد وأبنائه الأمر الذي جعله عنصرا محبوبا لدى الجميع وتبدد جو التشنج والشك إلى المحبة والألفة! استمر الوالد في العمل مع الحاج داود وأولاده حتى اندلاع ثورة الرابع عشر من تموز 1958.
موزع الألبان الصغير
خلال هذه السنين الثلاث عملت مع الوالد كالعادة كموزع ألبان بواسطة دراجة هوائية قديمة وأنا صبي, كان علي أن أوزع منتجات الألبان بدءا من فندق جبهة النهر على ضفاف دجلة بجانب جسر "مود" الأحرار حاليا في الرصافة ثم أواصل لأزود فندق السندباد على دجلة الخير وبعده فندق سميراميس وفندق "تأيكرس بالاس" وفندق "ريجنت بالاس" ثم فندق "زيا" على شاطئ دجلة الذي هو اليوم دائرة حكومية، وأستمر في التوزيع في شارع الرشيد حتى أصل إلى أسواق الشركة البريطانية "سبينس" في نهاية الشارع المذكور, كان قلب بغداد في تلك الفترة بين باب المعظم والباب الشرقي ورئتاها الكرادة الشرقية شمالا والكرادة "صليخ" جنوبا مرورا بالوزيرية, وفي جانب الكرخ كانت الضاحية المهمة كرادة مريم! كانت مهمة التوزيع شمالي بغداد تستغرق ثلاث إلى أربع ساعات ثم أعود للاستراحة قليلا في المعمل لأبدأ رحلة التوزيع الثانية جنوبي بغداد بواسطة الدراجة الهوائية القديمة لأعود منهكا بسبب الإرهاق والتعب ثم أشارك العمال في إنتاج القيمر والزبدة والقشطة...إلخ، أما المدرسة فقد قرأت عليها السلام إذ لم يكن لدي الوقت لمتابعة الدروس والتحضير لها مع أني كنت في الصف السادس الابتدائي حتى رسبت ثلاث سنوات متتالية اضطررت في السنة الثالثة أي 957-958 إلى الانتقال إلى مدرسة المنصور المسائية الابتدائية مقابل الإذاعة العراقية لأتفرغ للعمل بشكل كامل صباحا.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://algardenia.com/ayamwathekreat/22532-2016-03-20-22-58-24.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

572 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع