حياة بلا رتوش: المصور آرام كورديان..رحلة العمر من الطب .. الى التصوير
هذا الرجل جزء من تاريخ التصوير الفوتوغرافي في العراق. ففي عام 1926 وبعد وصوله الى العراق من بلغاريا، افتتح له محلا في شارع الرشيد، ليضاف اسمه الى اسماء عدد محدود من المصورين في تلك الفترة، ممن عرفوا بجهازهم السحري العجيب الملفوف بقماش اسود، الذي يسمونه «الكاميرا».
شيخ كبير السن. مواليد 1897 كما يقول بصعوبة. وكما تشير اوراقه الرسمية. ذاكرة تحتفظ بكل ما قديم من الحواث والذكريات.. مثلما هو شأن كاميرته العتيدة التي رافقته في عمله منذ قرر ان يحترف مهنة التصوير
قلنا له.. يا عم (ارام اكوب كورديان) كيف بدأت العمل في التصوير؟!
ولأن لغته العربية خليط من كلمات ارمنية وسلافية وفرنسية.. ولأنه سمعه صار ثقيلا بعد ان دخل سني الشيخوخة.. كان علينا ان نستعين بمساعده لايصال السؤال وتلقي الجواب. لكنه سرعان ما انفتح كما ينفتح صندوق مخزون منذ زمن.. وصار يتحدث متذكرا.
- كنت اوائل هذا القرن في تركيا. وفي بداية العشرينيات ارسلتني عائلتي الى فرنسا لدراسة الطب. كان لي اخ طبيب تولى هنا في بغداد عدة مسوؤليات (مدير مستشفى المجيديةـ المستشفى الجمهوري حاليا) ثم مدير صحة السكك. كانوا يريدونني ان اصبح طبيبا مثله. وفي كلية الطب واظبت على الدوام بدون رغبة.
وعندما حان موعد دروس التشريح العملية.. ارعبني منظر الجثث المكدسة في قاعة التشريح فما كان مني الا الفرار من القاعة الى الشارع. وبعد عشرة ايام كنت قد عزمت على تنفيذ قراري..
وماذا كان قراراك ذاك؟!
يضحك العم ارام.. وبصعوبة مشوبة بالزهو هذه المرة قال:
ـ ان اتعلم التصوير واصير مصورا فوتوغرافيا.. وقد فعلت ذلك. حيث ذهبت الى المانيا ودرست في معهد الفنون هناك وتخصصت بالتصوير. ومنها رحلت الى بلغاريا وفتحت محلا للتصوير في فارنا.. (بعد بحث في محفظته يرينا بطاقة ممارسة مهنة التصوير مؤرخة في 22/9/1925.. ورغم ذلك مازالت جديدة كأنها سلمت اليه قبل اشهر).
وما الذي جاء بك الى بغداد اذن؟!
صمت العم ارام طويلا.. كررنا عليه السؤال مرات وبمعونة مساعده.. قال ضاحكا:
ـ الشرطة!!..
ولماذا الشرطة يا عم ارام؟!
ـ لان اخي الطبيب كان يبحث عني. وقد اتصل بالشرطة الذين اقتادوني الى منطقة (الرطبة) مقبوضا علي. وهناك رأيت اخي بانتظاري الذي بادرني ساخرا: «اهلا بجناب الطبيب»! ثم نقلني معه الى بغداد.
وفي بغداد فتحت محلا للتصوير.. اليس كذلك؟!
لكنه بعناد طفولي لشيخ وسيم الملامح.. قال مقاطعا:
ـ لا.. ليس كذلك!
قلنا له مستغربين:
ماذا حصل اذن؟!
يصمت.. ونحن نتأمله. انه يتذكر. وكمن يعثر على عزيز فقده بعد طول بحث.. قال بشيء من الزهو:
ـ في بغداد قضيت عشرة ايام. لم اكن افعل شيئا. فقررت هذه المرة ان اهرب الى الشام لافتح محلا للتصوير. فأخي لم يوافق على عملي في بغداد وارادني ان اظل في رعايته. وفي (الرطبة) ايضا حصل لي ما سبق حصوله. وجدت اخي ومجموعة من افراد الشرطة الذين عادوا بي الى بغداد ثانية. وفي الطريق قال لي اخي: «عندما نصل الى بغداد فتش عن محل مناسب وسجل لي احتياجاتك من اجهزة ومواد لاجلبها لك.. ستكون كما تريد.. ستكون مصورا يا ارام!».
يبتسم.. تغرورق عيناه بالدموع. لقد انفتح صندوق ذاكرته بعد سبات طويل..
ـ كان ا خي يحبني كثيرا. الله يرحمه.
ثم يواصل دون ان يدع لنا مجالا لسؤاله.
ـ وفتحت محل التصوير في منطقة (عقد النصارى) عام 1926 اسميته (الصباح) لانه كان مثل الصباح بالنسبة لي. وكان من المصورين المعروفين انذاك (عبوش ـ الدورادو ـ جعفر الحسيني.. ونصر الله الذي كان محله في منطقة الميدان).
ثم.. وكمن يستدرك قال:
ـ حتى الان ماتزال الكاميرا عندي. ومازلت اعمل بها. فيها عدسة (كالرزايس) . انها معي دائما.. (يصمت قليل.. ثم يواصل) وبعد ستة اشهر اختارتني وزارة المعارف مصورا خاصا لها. ثم وبعد ثلاثة اشهر صرت مصور كلية الشرطة. وبعد مدة لا اعرف زمنها صرت مصورا خاصا للكلية العسكرية الملكية.
واشار العم ارام كورديان الى شهادة معلقة على الجدار.وقال:
ـ اقرأوا ما فيها.. انها شهادة اعتمادي مصورا خاصا للكلية مع اثبات حسن سلوكي واخلاصي. (قرأنا فيها: بالنظر لمرور مدة طويلة على تعاملكم مع الكلية العسكرية الملكية وحسن سلوككم والاعتماد عليكم قررنا اعتمادكم مصور الكلية الخاص ـ التاريخ 22/9/ 1949).
وهنا.. يضحك ايضا وتتقد عيناه. لقد تذكر العم ارام شيئا..
ـ كنت في الكلية العسكرية كأحد منتسبيها. اشارك في فعالياتها. اصور التمارين و (الفرضيات). اذكر مرة انني بعد انتهاء التمرين ـ وكان في جلولاء ـ خرجت مساء لاتمشى وحين صار الوقت ليلا ضللت طريق العودة. كانت الذئاب وحدها تعوي. خفت كثيرا فأختبأت في حفرة صغيرة. لم يكن معي سلاح غير حربة صغيرة. وبعد قليل احسست شيئا يدب قربي. كان دب صغير تائه مثلي. ازداد خوفي الا ان سماعي لصوت بوق عسكري واصوات اعرفها تنادي علي جعلني اخرج من الحفرة. كان امر الكلية قد كلف مجاميع من المراتب والطلاب للبحث عني. وعندما ذهبت الى خيمتي.. فوجئت بالدب يسبقني اليها.
وكمن يتذكر عزيزا ايضا.. ترقرقت عيناه بالدموع.. وواصل:
ـ لقد جلبته معي الى بغداد وعاش معي اكثر من سنتين. لكنه اصبح متوحشا مما اضطر اخي ان يأخذه بعيدا ويأمر بقتله.. الله يرحمه. كان صاحبي. يأكل معي ويعيش في البيت والمحل وحيثما اذهب يرافقني.
ومتى انتقلت الى محلك الحالي هذا؟!
ـ قبل سنوات. عندما تركت الكلية العسكرية. لقد كبرت وما عدت استطيع العمل لذلك استعين بمساعدي.
(ويتذكر حادثا يعتز به كثيرا).. عام 1956 عملت الكلية العسكرية (يانصيب) وكانت جائزة الاولى سيارة فولكس واكن.
اجرى الحوار عبد المطلب محمود مجلة الف باء١٩٧٦
738 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع