في اربعينيات القرن الماضي..دائرة التحقيقات الجنائية والحزب الشيوعي .. صراع مستمر
المدى/د . زينة شاكر سلمان:عندما استقالت وزارة توفيق السويدي الثانية في الثلاثين من آيار عام 1946 جيء بأرشد العمري رئيساً للوزراء ليأخذ على عاتقه تصفية المكاسب التي حققتها الحركة الوطنية، حيث قامت الحكومة بمحاربة الحزب الشيوعي العراقي ورابطة الشيوعيين العراقيين وعصبة مكافحة الصهيونية، وجريدتها التي عطلت في السادس من حزيران وجرى اعتقال أبرز قادتها وتقديمهم للمحاكمة،
وطلبت وزارة الداخلية في الوقت ذاته إلى رئاسة الادعاء العام في السادس من حزيران إقامة الدعوى على مؤسسي حزب التحرر الوطني لممارسة العمل من دون الحصول على إجازة وإخلاله بالأمن العام فأوقف أعضاء الهيئة المؤسسة، على إثر ذلك قام الشيوعيون بمظاهرات متعددة للمطالبة بإعادة جريدة العصبة المعطلة وبإطلاق سراح الموقوفين من أعضاء العصبة والتحرر الوطني، كان أبرزها مظاهرة يوم الثامن والعشرين من حزيران 1946، وأشار عضو اللجنة المركزية يهودا صديق (إلى تعاون العصبة مع حزب التحرر على إقامة المظاهرة إذ كانت التوجيهات تعطى للعصبة بواسطة زكي بسيم عن طريق أشخاص يتصلون به أمثال إبراهيم قدري ويوسف زلخة وأنا وكذلك تعطى التوجيهات لحزب التحرر بواسطة حسين الشبيبي ومحمد علي الزرقا وسالم عبيد وآخرين).
لقد فاجأت المظاهرات الدوائر الأمنية ومن بينها التحقيقات الجنائية وقد ضمت الألوف من العمال والطلبة والجنود وكانت صفوفها تتسع وهي تسير في شارع الرشيد وبعد عبورها جسر الأحرار متجهة نحو السفارة البريطانية في الكرخ تدخل رجال الشرطة والتحقيقات الجنائية الأمر الذي أدى إلى مقتل طالب مدرسة ويدعى شاؤول طويق وجرح بين العشرة والعشرين شخصاً واعتقال سبعة وستين شخصاً من المدنيين ومئة وعشرين شخصاً من العسكريين.
كما تظاهر الشيوعيون مساندة لإضراب عمال النفط في كركوك واستنكروا العنف الذي استخدمته السلطة في كاورياغي ..
فضلا عن إنزال قوات بريطانية جديدة في البصرة في التاسع من أيلول 1946 الأمر الذي أدى إلى تدخل الشرطة والتحقيقات فقاما بتفريق المتظاهرين واعتقال نحو تسعة وعشرين شخصاً من بينهم مكرم الطالباني (طالب حقوق) وفرات محمد مهدي الجواهري (طالب ثانوية الكرخ).
من جهة أخرى كثفت التحقيقات الجنائية من جهدها للوصول إلى قيادات الحزب الشيوعي العراقي، لاسيما بعد أن تولى نوري السعيد الحكومة (21 تشرين الثاني 1946)، واستطاعت اختراق تنظيمه والتعرف على بعض الدور الحزبية التي يختفي فيها قادته، إذ اكدت التحقيقات الجنائية على وكلائها المندسين في صفوف الحزب الشيوعي وواجهته العلنية (حزب التحرر الوطني والعصبة)
لإلقاء القبض على فهد وملاكات الحزب فألقي القبض على حسين محمد الشبيبي عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي ورئيس الهيئة المؤسسة لحزب التحرر الوطني وعلى محمد حسين أبو العيس عضو الهيئة المؤسسة لحزب التحرر وعضو عصبة مكافحة الصهيونية فضلاً عن يوسف زلخة رئيس العصبة وعلي شكر رئيس نقابة عمال السكك وعدد آخر خلال مداهمة تلك الدور.
وفي الوقت ذاته استمر البحث عن فهد ورفيقه زكي بسيم إلى أن قدم وكيلان من التحقيقات الجنائية معلومات عن مكان اختبائهما وهما ... الذي استمرت علاقته بالتحقيقات الجنائية حتى عام 1952 و... عامل في السكاير، وفي ضوء معلوماتهما هذه داهمت شرطة التحقيقات الجنائية دار إبراهيم ناجي شميل في الصالحية ليلة الثامن عشر من كانون الثاني 1947، وذلك بعد أن تم إلقاء القبض على داود الصائغ في الثالث من الشهر ذاته، حتى ان فهد حينما علم بخبر إلقاء القبض على داود الصائغ في الأيام التي سبقت اعتقاله قال زكي بسيم "لنغادر دار إبراهيم ناجي فشرطة التحقيقات تفتش عنّا"، لكن زكي بسيم أقنعه بالبقاء في تلك الدار لأنه شعر بالراحة التامة فيها فوافق فهد ولم يمضِ زمن حتى ألقي القبض على كليهما، إضافة إلى كل من عبد العزيز عبد الهادي (أحد طلبة كلية الحقوق)، وإبراهيم ناجي وزوجته ايلين يوسف ويعقوب اسحق ،
في الوقت ذاته عثرت الشرطة على سجل كامل بأسماء أعضاء حزب التحرر الوطني عدته التحقيقات الجنائية في حينه سجل أعضاء الحزب الشيوعي العراقي باعتباره واجهة له، وتم أخذهم إلى المقر الرئيس لمديرية الاستخبارات في مركز بغداد،حيث لاقوا معاملة قاسية بعيدة عن الانسانية, وذكر زكي بسيم لقاضي التحقيق بعد أربعة أشهر ماياتي "لدى وصولنا حوالي الساعة الخامسة قُيّدنا بالحديد وطُرحنا كالكلاب في مرحاض مليء بالقذارة... وأخرجوني في حوالي الثانية بعد منتصف الليل... وساقوني أمام المفتش نائل الحاج عيسى الذي واجهني فوراً بكلمات قاسية، ثم تمتم أمراً عندها أمسك بي ستة من رجال الشرطة وطرحوني أرضاً وأدخلوا قدمي في حمالة بندقية ورفع مساعده عبد الرزاق عبد الغفور قضيباً وهوى به بقوة يضربني على باطن القدمين، كنت يومها مريضاً وكنت أشعر بألمٍ شديد ولكن لم تأخذه شفقة بي وعندما أنهكت يداه أمسك بي شرطيان من تحت إبطي وحملاني إلى فناء حيث جعلاني أركض حوله لفترة... وعادوا إلى ضربي وكان نائل الحاج عيسى يضربني بنفسه هذه المرة وعندما غادر سلّمني ليدي الرقيب الأول الذي قال باختصار: "إلى مقبرة الشيخ معروف" ووجدت نفسي مجدداً في المرحاض وبقيت في هذه الرطوبة الكريهة حتى السابعة والنصف صباحاً عندما طلبت رؤية رئيس الاستخبارات، واحتججت بإسم القانون والمادة سبعة من الدستور على الأعمال اللاإنسانية التي كنا نتعرض لها".
ويُعزى أحد أسباب اعتقال فهد إلى اشتراك محمد حديد وزيراً للتموين في حكومة السعيد الأمر الذي أدى إلى حدوث مشاحنات بين الحزب الوطني الديمقراطي وحزبي الشعب والاتحاد الوطني وهي محاولة من السعيد لإضعاف جبهة اليسار، بذل فهد جهوداً من أجل حل الخلافات والحفاظ على وحدة اليسار وكثف من تحركاته واتصالاته بقادة هذه الأحزاب الأمر الذي كشف تحركاته للشرطة التي تمكنت من مراقبته وإلقاء القبض عليه.
ذكر سالم عبيد النعمان ما ياتي"اعتقلت في منطقة الأعظمية وكان الاعتقال واسعاً ضم العديد من أعضاء الحزب وملاكاته والمتعاطفين معه وذلك في كانون الثاني عام 1947 ودام اعتقالنا مدة طويلة وقد احتجزنا بطريقة الحبس الانفرادي لمدة أكثر من أربعة أشهر وكان المعتقلون الانفراديون فهد وحازم وأنا، وكانت طريقة الحبس وأسلوبها تعذيباً نفسياً حيث كنّا لانرى الشمس خلال الأربعة شهور إلا نادراً".
عد يهودا صديق نفسه مسؤولاً عن الحزب، وأخذ يعمل مع أخيه حسقيل العضو الاحتياط للجنة المركزية على رص صفوف الحزب الشيوعي، كما عمل على نقل مطبعة القاعدة من دار جمال محمد (عم زكي بسيم) في محلة المهدية إلى دار حمزة سلمان في الكرادة الشرقية وطلب من مالك سيف عضو اللجنة المركزية الحضور إلى بغداد ليشرف على الوكر الطباعي وحضر في أول حزيران 1947 وأجر له يهودا داراً في باب الشيخ نقلت إليها المطبعة من الدار السابقة وفي الوقت ذاته استعد الحزب لإصدار جريدة القاعدة التي توقفت بعد اعتقال فهد الذي كان يدير الحزب وهو معتقل). حصل يهودا بواسطة ايلين زوجة إبراهيم ناجي التي أُطلق سراحها من التوقيف مقابل مبلغ كبير من المال دفعته لمسؤولي التحقيقات الجنائية على مقال كتبه فهد في معتقل أبي غريب مع رسالة إلى يهودا يوصي فيها باستدعاء مالك سيف إلى بغداد لإسناد مسؤولية الحزب إليه، إلا إنّ يهودا أخفى الرسالة.
عن رسالة (التحقيقات الجنائية في العراق وموقفها من الاحزاب الوطنية 1921-1957)
1806 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع