هيفاء زنكنة
لعل اقسى اللحظات في تاريخ أمة ما هو احتلالها ومن ثم العمل على اخضاعها لسلطة المحتل.
وقد رأينا، في العراق، المرحلتين. الغزو والاحتلال اولا ومن ثم بذل كل الجهود العسكرية المباشرة و’القوة الناعمة’ بجوانبها الثقافية والتعليمية والمجتمعية، لتثبيت الهيمنة وترسيخ التبعية على المدى البعيد. ويتحمل الكاتب والمثقف عموما، مسؤولية ان يخطو خطوة واحدة متقدمة على الآخرين للمساهمة في فهم الواقع المتغير بسرعة ولايجاد السبل للمحافظة على الموروث الثقافي المهدد في ذات الوقت الذي يعمل فيه على طرح رؤيا مستقبلية . ولا اعني بهذه السيرورة مساهمة المثقفقراط، البراغماتي، المعروض للبيع والشراء لكل نظام مهما كان.
لقد كتب الكثير من المقالات والعديد من البحوث عن طائفية وفساد النظام الحالي ووعود المحتل المهترئة بالديمقراطية وحقوق الانسان، ولكن، لا توجد غير بضع دراسات معدودة عن الابداع القصصي والشعري للكاتب العراقي، وتصبح الدراسات نادرة جدا فيما يتعلق بابداع المرأة. مما يجعلنا نتساءل عما قدمته الكاتبة في العقد الاخير الذي شهد محاولة اخضاع العراق للاحتلال؟
ان الموضوع بحاجة الى دراسة وبحث مستفيضين، غير انني ساشير الى بعض الملاحظات البسيطة هنا، استنادا الى متابعتي لما هو منشور بالاضافة الى جردي السريع لبعض الدراسات والمقالات المتوفرة على الانترنت، مع التنويه بان هناك الكثير مما يجمع الكتابة النسوية بالعراق مع بقية الدول العربية، سواء من ناحية البدايات التاريخية والملامح العامة او المضمون، وان اقتربت الكتابة العراقية من الفلسطينية، أكثر من غيرها، بحكم معالجة طبيعة الاحتلال ومقاومته المستمرة حاليا، بينما اذا كان للمستعمر حضور في الرواية المغاربية، مثلا، فانه يطرق من باب المعالجة التاريخية.
لنبدأ اولا بالعدد، بالوجود الفعلي، للروائيات لنصل الى نوعية المنتج الابداعي. يقول الناقد د. نجم عبد الله كاظم في بحث له عن الرواية النسوية العربية: ‘أن حضور المرأة العراقية كاتبةً في الكتابة الروائية هو اقتحام قوي يفرض نفسه على الناقد والمؤرخ الأدبي، وربما حتى الدارس الاجتماعي ودارس الجندر’. أتوقف هنا لافهم معنى الحضور الذي يصفه بالاقتحام القوي وهو محق في حكمه من ناحية الرواية العراقية وربما العربية، اقول ربما لانني لم اعثر على احصائيات عربية، ولكن ماذا عن المقارنة بالنتاج العالمي، خاصة واننا، غالبا، ما نصف الكاتبات اما بانهن يكتبن نصوصا عالمية او، في حالة التواضع، بانهن يجمعن ما بين المحلية والعالمية؟
يقول د. نجم: ‘ان عدد الروائيات العراقيات اللائي يمارسن الكتابة الروائية الآن، أو خلال ما يقارب العشرين سنة شكلت المرحلة التي صارت الكتابة الروائية النسوية فيها ظاهرة (1994-2012) يزيد على العشرين روائية’. ولنبالغ ونقول ان عدد الروائيات هو 25 روائية.
انتبهوا باننا نتحدث عن بلد يبلغ عدد سكانه 34 مليون شخص. أي بمعدل روائية لكل مليون وربع شخص تقريبا. وقد تكون النسبة احسن في بقية الدول العربية. ولكنها لن تكون بفارق كبير. اذ ان ما يتحكم بالأساسيات المطلوبة للابداع هو واحد تقريبا وتعاني الدول العربية منه جميعا، باستثناء التمايز في درجات الاستعمار والحروب الآنية. ففي تقرير للمنظمة العربية للثقافة والعلوم ‘الألكسو’ لعام 2005، أن عدد الأميين في العالم العربي يعادل نسبة ربع السكان، أي ضعف المتوسط العالمي للأمية، وأن عدد الإناث هو ضعف عدد الذكور.
المشكلة الجوهرية، اذن، هي عدم القدرة على القراءة والكتابة، ناهيك عن حب القراءة والكتابة والقدرة على فهم المجتمع، وهي من شروط تكوين الكاتب الاساسية. أن معدل قراءة المواطن العربي سنويا هو ربع صفحة، في الوقت الذي يبلغ فيه معدل قراءة الأمريكي 11 كتابا، والبريطاني سبعة كتب في العام. ثلث الرجال لايقرأون ونصف النساء كذلك. أن إجمالي ما تنتجة الدول العربية من الكتب يساوي 1.1 % من الانتاج العالمي لا أكثر. في المملكة المتحدة، مثلا، يطبع حوالي 149 ألف كتاب سنويا. بالنسبة الى الرواية، هناك ما يقارب الالف رواية شهريا. والمعروف ان المرأة تكتب الرواية اكثر من الرجل مما يعني ان هناك حوالي 500 600 رواية تكتبها المرأة شهريا.
صحيح ان الرواية، خلافا للشعر، تتطلب الاستقرار النفسي والمعيشي والسياسي، وعلى الاقل، المكاني، كما تتطلب ترك فسحة زمنية بين عيش الحدث والتأثر به وترك المجال للمخيلة للتفاعل معه قبل الكتابة، خاصة حين يعيش الكاتب فترات الحروب والنزاعات والقمع بانواعه، كما ان قوة شد التقاليد المكبلة لا لحرية الحركة فحسب ولكن لتكبيل المخيلة، الا ان تفهم هذا كله لايحول بيننا والاحساس بالصدمة عندما نعرف فعلا عدد الروائيات، والكاتبات عموما، في بلداننا. ولعل مصدر الصدمة الاولي، هو اننا تربينا على الاعتقاد باهمية تأثير الكتاب ومطالبتهم بالكثير وتحميلهم وزر الخطايا المجتمعية بالاضافة الى تزويقهم بالقاب قلما تمنح لآخرين (باستثناء الساسة ورجال الدين) متصورين بانهم يشكلون شريحة كبيرة من المجتمع، واذا بنا نفاجأ بان عددهم اقل من القليل، قياسا الى بقية السكان وبالمقارنة مع نظرائهم عند الشعوب الاخرى. فقد شعرت بالصدمة، مثلا، وانا اقرأ احصائية ذكرت في كتاب ‘النتاج الثقافي النسائي العراقي في القرن العشرين’، لباسم عبد الحميد حمودي. يجرد فيها عدد الكتب التي ألفتها المرأة في العراق على مدى مائة عام منذ 1900 وحتى عام 2000، واذا بها: 97 ديوانا شعريا، 78 مجموعة قصصية، و44 رواية فقط ! تصوروا خلال مائة عام، ونحن الذين نتحدث دائما عن تقدم المرأة العراقية على سواها وابداعها الكبير، فما بالك بدول عربية اخرى؟
لنعد الى العشرين روائية. الملاحظة الاولى ان معظمهن اجبرن على مغادرة العراق اما قبل الاحتلال او بعده. وتشير وزارة الثقافة الحالية الى ان 60 بالمئة من المثقفين غادروا العراق بعد عام 2003. مما يعني اضافة قطيعة جديدة في التواصل المعرفي والابداعي الى ما سبقه وكلما حدث تغيير سياسي شامل.
واذا كانت آلة المحتل الوحشية قد حرمت المواطن العادي من اساسيات الحياة اليومية من الماء والكهرباء والصحة والأمان والعمل فانها ساهمت، بشكل لامثيل له، في تدهور التعليم، وخلق مستويات جديدة للرقابة الفكرية لم تكن معروفة، سابقا، مثل الرقابة الميليشياوية والطائفية. فلا عجب ان تواصل الكاتبات المقيمات في الخارج الكتابة، بينما تتعثر زميلاتهن في الداخل تحت ثقل حجاب الرقيب والتهديد والاغتيال أحيانا، كما حدث للصحافية والروائية والشاعرة اطوار بهجت التي اغتيلت عام 2006.
الملاحظة الثانية هي: اذا كانت الروائية العربية قد عالجت العنف السلطوي بجانبه الذكوري واهتمت بالجنس فان الروائية العراقية باتت منشغلة بالعنف السياسي والاستعماري وعبثية القتل اليومي حتى وان كانت تعيش خارج العراق، بل واهتمامها بتأكيد الهوية عن طريق الاسترجاع النوستالجي لما كان عليه العراق الذي عاشت فيه وتعرفه ولم تعد قادرة على العثور عليه. انه انعكاس للخوف والقلق على البلد والناس وخشية فقدان ما تحمله الذاكرة . تقول الكاتبة والفنانة سالمة صالح، المقيمة بالمانيا، في كتابها ‘زهرة الانبياء’: ‘أعرف أنني سأعود يوما، أبحث عن زهورالنرجس تحت ساعة البريد، عن طريق ينحدرعبر حقول القمح إلى محطة القطار، عن أعمدة المرمر وتيجانها تـرتمي في ساحة دار كانت ذات يوم دارنا، وأعرف أنني لن أجد شيئا من ذلك’.
وتمس الروائية ميسلون هادي، أزمة الكاتب العضوي، متسائلة، في مقابلة معها، عن دور الكاتب: ‘وبعد مضي عقود من الثورات والكفاح وتقديم التضحيات نعود الى عصر الاستعمار من جديد ونحن على اعتاب القرن الواحد والعشرين فاية مفارقة مؤلمة هذه حين نعود فجأة عشرات السنين الى الوراء: وأي دور سيكون للكاتب عندما يتقهقر بلده فجأة ويعيش حالة غير مسبوقة في العصر الحديث؟ هل يكتب روايات وقصائد فنطازية سريالية ام يتحول الى سياسي تعبوي او مصلح إجتماعي؟’.
لقد واجهت انا نفسي هذه الاشكالية المؤلمة وكانت النتيجة التي حدثت بشكل طبيعي وبلا أي تفكير سياسي اوايديولوجي هي توقفي عن الكتابة الادبية تماما، منذ عام 2003، وكأن وحشية المحتل وواقعه المريع قد اصاب المخيلة بالعقم، مما جعلني، كلما سألني احدهم عن القصة والرواية، استعير ابيات الشاعر التشيلي بابلو نيرودا في قصيدته ‘ها أنا اوضح بضعة اشياء’: ‘وستسألون : لماذا لايتحدث هذا الشعر / عن الاحلام واوراق الشجر/ وعن براكين بلاده العظيمة؟ تعالوا انظروا الدماء في الشوارع، تعالوا انظروا الدماء في الشوارع′.
634 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع