بقلم : يوسف ناصر
( كُتِب المقال يوم الخميس 16\1\2014 )
جمعني أمسِ وأصدقاءَ لي مجلسُ عزاء في قرية معليا، بينهم أستاذنا الجليل المربّي عفيف ليّوس مع نفر من أبناء معليا الطيّبين ، وقد مال الحديث بنا ، وعن غير قصد ، إلى ما آلت إليه اللّغة العربيّة من وهن وضعف في عصرنا، ردًّا على سؤال أحد الحضور في استعمال تعبير من تعبيراتها..! وكم كانت دهشتي حين ذكَرتْ لي إحدى المعلمات هناك، أنّ أشعارًا في معليا للشّيخ إبراهيم اليازجيّ مكتوبة في قَبريَّة على ضريح أحد أبنائها ، وإذ همّني الأمر كثيرًا ، سرت غداة غدٍ إلى ذلك الضّريح في مقبرة معليا مع راشد ليّوس أحد تلامذتي الأحبّاء ، ويا شدَّما أحسستُ ، وأنا في طريقي إلى هناك، أنّني عدتّ كما كنت أربعين عامًا مع تلاميذي في شخص راشد ، نقطع مسافات الماضي ، ونجوب عصور الأدب وصولاً إلى خمائله الفيحاء ، وغياضه الغنّاء ، لنتشمّم هناك من أزاهيره الشّذيّة ، ونقتطف من ورده الأريج ..! ولكنّها هذه المرّة ، ولا ككلّ مرّة ، نجري صوب جبّانة يريعك فيها هجعة الصمت خلا صوت عصفور نشوان ، يقف على شجرة سرو تدلّت أغصانها، ولا يبالي.! وقد غلب الدّنيا بشدوه ، حين حجبت عنه ظلمةُ عقله، ونعمةُ جهله معرفةَ ما تفعله الدنيا بأبنائها، كالنائمين تحته، وما يؤول بهم متاعها إلى الحطام والشّتات الدّائم .!!
لا تعجبنَّ ـــ وككلّ مقبرة دخلتُها عند كلّ مأتم ـــــ أنّني هممت بالعودة من فوري عند الباب، حين أصمّ سمعي، وسدّ الطّريق أمامي، ومنعني العبور هناك ، زحامُ الحِكَم والمواعظ، وجموع النّصائح والخطب الكثيرة التي اكتظّت عند الباب ، وقد أمرها الموت أن تقيم هناك دائمًا لتستقبل الأحياء الزائرين عند كلّ جنازة ، وتمنح كلّ واحد منهم زادًا يغتذي منه قبل الرّجوع إلى هذا الموضع محمولاً على الخشب ..! وإذ جُزت بين تلك الجموع الكثيرة بعد جهد ومشقّة ، بلغتُ الضّريح المقصود ، للمرحوم جريس ليّوس ، وهناك قرأت هذه الأبيات على البحر البسيط منقوشة بالخطّ الدّيوانيّ ، وبها أرَّخ اليازجيّ على طريقة حساب الجُمَّل سنة ذهاب المتوفَّى إلى العالم الآخر :
هذا ضريح لشهم في الورى علم من أجل فرقته دمع الملا هطلا
أجرى دموع بني الليوس مثل دم وخلّف القلب في النيران مشتعلا
لقد تفرّد بالتقوى ففاق بها لمـّا دعاه إله العرش فامتثلا
لذا ثوى في مقام أرخوا بهجٍ بشرى لجرجس في دار العلا دخلا"
1880 سنة
وإذ وقفت مشدوهًا أمام اليازجيّ في معليا ..! قلت في نفسي مستعظمًا الأمر : "لا تدرين معليا ، ومعك أخواتك من قرى الجليل كافّةً ، كم كسبتِ هنا من شرف صميم ، وأيّ مجد أثيل نلتِه ، إذ ضمّخ يراع اليازجيّ ترابك ، وكرّمك ودلّ عليك بكبر أحد أبنائك البررة !! وما كان لأديب في قامة اليازجيّ أن ينثر من لبنان درّه ، ويسكب كوثره على هذا الرجل في الجليل ، لو لم يكن جديرًا بهذا الثناء، ومتى كان للأوطان أن تكبر يومًا بغير رجالها الأبرار..! ومِن أين للرجال الأبرار أن يكبروا يومًا بغير فضل المنشأ والمربى..!! وكم للعربيّة بعد هذا من حقّ عليكِ ، في الاحتفاء بها، والعناية بدرسها، والغبّ من ينبوعها الثّرّ ، وتلقّف الدرّ النفيس من قلائدها السنيّة ، وتنشئة بنيك وبناتك في مدارسك على عشقها ، والكدّ في طلب فرائدها النادرة ، ما دام على ترابك يقيم نادرة العصر ، وباقعة الدهر ، الشيخ ابراهيم اليازجيّ أستاذ شاعر القطرين* في اللغة وغيره من تلاميذه الأعلام، ذاك الذي نقل الكتاب المقدّس إلى العربيّة بأجمل حلّة ، وأكثر علمائها تشدّدًا في دقّة استعمالها، وضبط ألفاظها ، وانتقاء السليم من تعبيراتها ، هو الشيخ ابن الشيخ العلاّمة، والجهبذ الفهّامة ناصيف اليازجيّ ، وأحد كواكب تلك الكوكبة اللامعة من الأدباء ، وروّاد النهضة الأدبيّة الحديثة، الذين خدموا العربيّة أجلّ خدمة كجرمانوس فرحات ، وفرنسيس مراش ، وشكيب أرسلان ، والشيخ يوسف الأسير، وبطرس البستاني ، وفارس الشّدياق ، وأديب إسحاق، وجبر ضومط، والشيخ مصطفى الغلاييني وجورجي زيدان وغيرهم من الأدباء ، رحمهم الله ونفعنا بعلمهم جميعًا ..!"
وحين هممت بالرجوع ، وأنا أمعن النظر في الأبيات، راعني في القَبريّة ما رأيت..! فقلت في نفسي : ويح كاتب الأبيات ممّا فعلت يداه ..! ماذا عسى لو عاد الشيخ إبراهيم اليازجي إلى الحياة، ورأى بيته الرابع مكسورًا في تفعيلته الثالثة قبل عَروضه..! وما خلّفه ذلك من خلل في المعنى ..! إذ أغفل ناقش الأبيات سهوًا رسم الشدّة على الرّاء في (أرّخوا)، وهو الذي قضى شطرًا من عمره ينافح عن أبيه في معركة لغويّة ضارية، دارت بينه وبين اللُّغوي الكبير فارس الشدياق يُخطّئه، ويصوّب أباه في استعماله كلمة "فحطل" و"مرابض" من كتابه الفريد "مجمع البحرين"..! حِرت إذ ذكّرني هذا الخطأ الفادح بجناية أخرى من هذا القبيل، وقعت بحق أستاذ الأساتذة في فلسطين نخلة زريق ، تلميذ الشيخ ناصيف اليازجيّ في العربيّة ، كان ارتكبها نـقّاش آخر ، يوم كتب على قبره في مقبرة جبل صهيون في القدس " تَوفَّى نخله زريق عن ستين عامًا " ..! فقلت وأنا أنظر في الأبيات : أوَ هكذا حقًّا نُكفِّن قبور سَدَنة لغتنا وعلمائها ، بعد أن أطفأوا أنوار أعينهم في البحث عن دراريّها ، وطلب نفائسها ..! ثمّ رفعت رأسي عاليًا، ونظرت بعيدًا إلى أقصى الغرب وأقصى الشرق، فرأيت أمّة عمياء تمتدّ من المحيط إلى الخليج ، يسوقها الليل أمامه إلى أعمق أعماق دياميسه ، وقلت في نفسي ثانية : كَلّا ..! ما سقطت أمّة من أمم الأرض يومًا إلاّ بعد أن سقطت لغتها من ألسنتها ، ووطئت بأرجلها ذلك الإرث العظيم الذي يؤلّف وحدَه بين أبنائها، ويجمع بين أشتاتها ، وبعد أن بدّلها جهلها الدامس بلغات كثيرة أخرى تُعِدّ لها المقابر، وترسلها كلّ يوم إلى الجحيم في هذا العالم ..!
*خليل مطران
كفرسميع
455 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع