أحمد فخري
من البديهي ان جواز السفر هو مجرد اوراق طبعت عليها بعض الشعارات والرموز الدالة على الدولة المصدرة لذلك الجواز، ويحمل كذلك معلومات عن حامل الجواز والدول التي زارها. وقوة الجواز تتأتى بلا شك من الدول الداعمة لذلك الجواز وموقعها ومكانتها الدبلماسية بين دول العالم.
ان الجواز العراقي لم ولن يكن مرغوبا او محترما سوى في الفترة الملكية التي كان يطبع على واجهته الامامية ذلك التاج العراقي وكانت تحترمه جميع دول العالم ولم تحصل يوماً ان رفضت احدى الدول تأشيرة مرور لجواز عراقي الا اذا كان حامل ذلك الجواز قد ارتكب جريمة ما وهو مطلوب للعدالة.
دعني ايها القارئ العزيز ان اقص عليك قصة ليس في الماضي البعيد بل وقعت احداثها في الثمانينات من القرن المنصرم.
تبدأ قصتي هذه في عام 1985 في دولة الامارات العربية المتحدة وفي امارة ابوظبي بالتحدي. آن ذاك كان يصل عدد العراقيون المقيمون بدولة الامارات العربية المتحدة الى اكثر من 40 الف مواطن بين نساء ورجال واطفال. وكانت سفارة العراق مقرها العاصمة ابوظبي. وفي كل سنتين، ترسل الحكومة العراقية لجنة مكونة من بضع موظفين تتنقل بين دول الخليج ومنها دولة الامارات لغرض فحص دفاتر الخدمة العسكرية. اما حصة ابوظبي فكانت يومان فقط. كان مقر السفارة العراقية عبارة عن منزل (ڨيلا) عادية وبتقديري كانت ذات 5 او 6 حجر للنوم مع مرافقها. وكان للڨيلا مراب للسيارات يتسع لسيارتان فقط. قامت السفارة العراقية بتحويل ذلك المراب الى حجرة استقبال للمواطنين، ومن ذلك المراب كانت هناك فتحة في الحائط تحولت الى شباك يتكرم احد الموظفين منه في التحدث الى المواطنين.
كانت اللجنة تأتي الى ابوظبي بشكل مفاجئ، اذ ان الطريقة الوحيدة لمعرفة وصول تلك اللجنة هي ان يقوم المواطنون باخبار بعضهم البعض عن وصول تلك اللجنة والا! فالطامة الكبرى. ان من لا يذهب خلال تلك القترة لفحص دفتره بتلك الاطلالة الجميلة فانه لا محال في مأزق كبير مع الدولة، والويل كل الويل اذا قرر العودة للعراق. فانه سيعتقل في المطار كاحد المجرمين او قد تلصق عليه تهمة الارهاب والعياذ بالله.
تخيل عزيز القارئ ڨيلا مصممة لعائلة من 7 او 8 افراد تقوم باستقبال ما يقارب من 10 آلاف رجل خلال وقت الدوام الرسمي لمدة يومين فقط. وهذا كله في مراب السيارات، لا طبعا ليس في اروقة السفارة. اعتقد بان الصورة صارت واضحة الآن. امواج بشرية مخيفة متمركزة في مساحة لا تتعدى 50 متر مربع.
عند المدخل وضع مكتب حديدي اكله الصدأ ويجلس خلفه موظف يدعى حسين وهو من الخارج سائق بالسفارة اما من الداخل فهو رجل مخابرات (كالعادة).
نظرت الى هذا المنظر وانا ادخل الڨيلا فقلت لصاحبي دعنا نأتي في الغد لعل عدد المراجعين سيكون اقل من ذلك فقال، بل بالعكس، هناك الكثير ممن لم يسمع بحظور اللجنة فيقوم بالاسراع للمجيء غدا. لذا دعنا نغوص بتلك الامواج البشرية.
ولكوني سباح ماهر قمت بالغوص الى قاع المراب وانا اتأسف واعتذر واترجى من الحاضرين المعذرة كي اتمكن من المرور. ولحسن الحظ فان الغالبية العظمى من جاليتنا آن ذاك كانت من الزبدة المثقفة اللتي تتسم بالاخلاق الرفيعة. وعندما وصلت الى الشباك الذي يمنح الناس الحياة سألت الموظفة هناك وانا اصرخ باعلى صوتي، "يا اختي الفاضلة اريد فحص دفتري" فنظرت الي وقالت، هل انت اصم (اطرش)؟ الم تسمعني اكرر مرارا ان الدفاتر لا تفحص الا اذا دفعتم مبلغ الضمان الاجتماعي." فسألتها وانا اتشبث كما يتشبث الغريق بقشة من الخشب، "وكيف لي ان ادفع مبلغ الضمان الاجتماعي؟" فاجابت عليك باملاء استمارة طلب دفع مبلغ الضمان الاجتماعي. فقلت لها وهل لك ان تعطيني تلك الاستمارة؟ فاجابت، "هل انت مجنون ام ماذا؟ الم اقل للجميع ان استمارات الضمان الاجتماعي موجودة لدى حسين الجالس في مدخل قاعة الاستقبال. اعتذرت لها واستدرت بصعوبة وانا اقاوم الامواج العاتية من الرجال الذين جاءوا للمعانات مثلي. قاومت بصعوبة حتى وصلت الى مقدمة قاعة الاستقبال فتدافعت بكل ما اوتيت من قوة حتى وصلت الى مكتب حسين فوجدت اكثر من عشرين صوتا كلها تنادي حسين حسين حسين حسين. فوقف حسين وانهال على المراجعين بالتأنيب إذ قال، "ولكم واحد واحد، هاي اشبيكم انچلبتوا؟ فعم الهدوء قليلاً فقلت له بكل برود، "يا حبيبي يا عزيزي استاذ حسين لو تكرمت واعطيتني استماراة اكون لك شاكراً"
نظر الي وقال قف هناك بجنب ذلك الرجل. فشكرته وتوجهت نحو الرجل الذي وقف بمسافة متر من المكتب. نظرت اليه فلم اتعرف على تقاطيعه، لكنه كان يرتدي بدلة سفارى وهي عادة متبعة في البلدان الحارة ومنها الامارات. انتابني الفضول وحاولت ان اتلصص قليلا على الاوراق التي يحملها ذلك الرجل علني اتعرف على اسمه او عمله او اي شئ الا اني فشلت بذلك.
بعد قليل فتح فمه وقال لحسين، "عزيزي حسين، ارجوك يجب ان اعود الى عملي لو سمحت، الا تكرمت واعطيتني الاستمارة الآن؟"
فتطاير الشرر من عين حسين ونظر اليه قليلا ثم انهال عليه بجميع انواع الشتائم التي كنت سبق وان سمعتها والتي لم اسمعها من قبل في حياتي. ومباشرة بدأ هذا الرجل بالاعتذار لحسين وقام بتهدءته واكد له بانه سوف لن يزعجه ثانية.
وقفنا جميعا باعتدال كما يقف الجنود بالاستعداد انتظارا للتفتيش.
قلت لنفسي، كيف يتحمل مثل هذا الرجل كل تلك الاهانات من شخص وضيع مثل حسين؟ هل هو فراش او ساعي او زبال بالسفارة مثلاً؟ وحتى لو كان كذلك فهو يبقى انسان وليس من حق اي بشر اهانته وتحقيره بذلك الاسلوب الرخيص. وبينما افكر بتلك الافكار واذا بمراجع جديد يدخل المراب ويتوجه الى ذلك الرجل ويقول له، "مرحبه دكتور، هاي وين لين؟ ليش مدانشوفك؟"
فقلت لنفسي "عجباً هذا الرجل دكتور؟"
فاجابه الرجل، "والله انت تعرف اني غارق في العمليات"
فقلت لنفسي "وهو جراح ايضاً، اي ان لديه دكتورا بالطب" ثم قال، "خصوصا وان العمل في توام مضني جدا ولا استطيع ان ارتاح ولو يوم واحد بالاسبوع"
فقلت لنفسي "ماذا؟ هل قال توام؟"
اخي القارئ، ان مستشفى توام هي من ارقى المستشفيات بدولة الامارات. لانها تابعة للشيخ زايد رحمه الله والذي يتعالج بها شخصيا. ولا يسمح للاطباء دون درجة المستشار العمل بها وخصوصا في صالات العمليات.
إذاً، هذا الرجل كان طبيبا وجراحا ومستشاراً ويعمل بارقى مستشفى وكان يتلقى الاهانات من ذلك الحشرة الوضيعة (حسين). لماذا؟ لانه يحمل تلك الوريقات التافهة التي كتب عليها جواز سفر الجمهورية العراقية. هنا شعرت بان الدنيا قد اسودت بعيني وآن الاوان ان اجد وطناً بديلا لوطني حفاضاً على كرامتي.
لا اطيل عليكم الحديث. استلمت استمارة الضمان الاجتماعي بعد جهد جهيد، ثم دفعت مبلغ 600 درهم للظمان الاجتماعي. ثم ختم دفتر خدمتي على اني مؤجل من الخدمة العسكرية. خرجت وانا اغني بتهكم "هلهولة للبعث الصامد" وعدت الى عملي.
450 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع