كمال يلدو
يجهل الأغلبية من ابناء الشعب الأمريكي القيمة الحقيقية لما حدث في مدينة شــيكاغو عام 1886 ، وأثرها على مجمل الحركة النقابية العمالية العالمية ، وعلى ظروف عمل العمال والأجور والأمتيازات التي حصلوا عليها لاحقا نتيجة تضحياتهم ونضالاتهم المستمرة.
البـدايـة
والقصـة بدأت يوم 4 آيار 1886 ، حيث كان هناك تجمعا عماليا سلميا في ســاحة ( هـي ماركيت) للمطالبة ب 8 ســاعات يوم عمل ، وحدث ان جاءت الشرطة لتفريق هذا التجمع ، لكن ( احدا) لم يعرف من هـو ، القى بقنبلة ديناميت على تجمع الشرطة ، مما أدى الى مقتل احد رجال الشرطة ( ماثياس ديكن ) ، وأثر ذلك ، قامت الشرطة بأطلاق النار عشوائيا مما أدى الى سقوط (7) قتلى من الشرطة ( معظمهم بالنيران الصديقة للشرطة) و (4) من السابلة المدنيين وعشـــرات الجرحى ، لمـا ســـمّي لاحقا ب ( مجزرة هـــي ماركيت ) .
وفي ضـوء هذه التطورات ، أدين (8) من قادة التجمع العمالي بالحادث ، رغم ان الأدعاء العام برأهم من تهمة القاء القنبلة ، الا ان (7) منهم حكموا بالشــنق ، والثامن بالسجن 15 عاما . اثنان منهم خففت محكوميتهم الى المؤبد ، وأحدهم انتحر في السجن ، والأربعة الباقون شــنقوا حتى الموت ، و نفذ الحكم يوم 11 نوفمبر1886.
تعتبر مجزرة (هـي ماركيت) ، وما تلاها من محاكمة جائرة، وشنق(4)من قادة الأضراب العمالي ( الأبرياء) ، الشرارة التي اوجدت فكرة ( 1 آيار) ، عيد العمال العالمي ، ويوم التضامن مع العمال في كل العالم .وأعتبر موقع الحادثة مكانا تأريخيا يوم 25 آذار 1992 ، فيما ضمت بلدية شيكاغو النصب التذكاري لشهداء المجزرة والذي وضع في ( فورست بارك) ، وضـم هذا البارك الى المعالم التأريخية ، وربما يكون هذا التقدير نتيجة اعتلاء احد القادة (الليبراليين) رئاســة بلدية شـــيكاغو آنذاك .
خلفيات الحدث
يذكر انه وعقب حالة الكساد التي سادت امريكا بين الأعوام ( 1873 -1879) ، بدأت حركة صناعية كبرى ، كانت شــيكاغو تعتبر احد اهم مراكزها ، وترافق ذلك مع تزايد اعداد العمال المهاجرين وخاصة من اوربا والذين طالبوا ايضا بزيادة اجور العمال التي كانت تبلغ ( دولار ونصف) في اليوم الواحد، لكن اصحاب الأعمال كانوا يعارضون هذه المطالب بشتى الأساليب ومنها العنفية وبأستخدام الشرطة ايضا .وقد كان في شيكاغو من بين العمال المهاجرين الجدد من المانيا من أسس جمعيات عمالية ثورية ، وكان بعضها مسلحا ، لأعتقادهم ، بأن مواجهة الشرطة بالسلاح سيوفر الظروف لقيام انتفاضة شعبية تؤسس لقيام نظام اشتراكي .
بداية الحدث
في شــهر اكتوبر عام 1884، أتفقت النقابات العمالية الأمريكية ان يكون يوم 1 آيار 1886 بداية التحركات والأضرابات العمالية الشاملة لتحديد يوم العمل ب 8 سـاعات ، ومع حلول يوم الأحد 1 آيار 1886 ، كانت هناك اضرابات عمالية في العديد من المدن والمراكز الصناعية الأمريكية ، قدر عدد المشاركين فيها ما بين ( 300 ألف – 500 ألف) عامل . وكانت ردود أفعال اصحاب المعامل والشركات والرأسماليين هـي الأتفاق مع عمال جدد ( غير منتظمين بالنقابات) للعمل محل العمال المضربين ، وبمساندة الشرطة ، بغية كسر الأضرابات . في هذه الأيام العصيبة ، كان القادة النقابيون يتوجهون الى العمال المضربين مناشديهم بضرورة الألتفاف حول نقاباتهم من اجل تحقيق مطالبهم ، وبسلمية اعتصاماتهم وبعدم الأنجرار نحو استفزازت الشرطة التي كانت تريد جرهم الى معارك جانبية . ومع قدوم اليوم الثالث( 3 آيار) ، كان تجمع العمال امام معمل ( ماكورمك – شيكاغو) ، فخرج العمال (المؤقتين) ، وصاروا وجها لوجه مع العمال المضربين ، وهنا بادرت الشرطة الى اطلاق النار بشكل استفزازي ، فأدت الى قتل (6) من العمال المضربين ، حينها دعت النقابات العمالية الى اكبر تجمع عمالي لكن هذه المرة في سـاحة ( هـي ماركيت سكوير) ، والتي كانت تتوسط قلب المركز التجاري بشيكاغو ، ووزعت المناشير الداعية للتجمع ، مطالبة العمال وأبناء شيكاغو بدعم مطالب العمال من اجل (8) ساعات عمل في اليوم ، وأبتدأ الأعتصام سلميا ، في هذا اليوم الذي شهد مطرا خفيفا ، فيما كان القائد النقابي ( سـبايس) ، محرر جريدة – زمن العمال، وركرز تايمس – يعتلي احدى السيارات المكشوفة ، مخاطبا الجموع العمالية التي قدرت بحوالي (3000) عامل ، مؤكدا بأن العمال المضربين هم ليسوا ضد العمل ، بل مطالبين بحقوقهم العادلة ب (8) ساعات عمل في اليوم . وتوالت الخطابات الحماسية بعده من قبل العديد من القادة ، وبحلول المساء ، ازدادت اعداد الشرطة الموجودة في المكان ، ثم وصلت مجموعة كبرى منهم ، وطالبت القادة النقابيين بفك الأعتصام ، وتزامن ذلك ( حوالي العاشرة والربع مساءا) ، بألقاء قنبلة محلية الصنع من احد الأشخاص ( ظل مجهولا) على مقربة من تجمع الشرطة ، ادى انفجارها الى مقتل احد رجال الشرطة ، وعلى اثرها قامت الشرطة بأطلاق النار عشوائيا، فكانت مجزرة ( هي ماركت سكوير) . وتزامنا مع اطلاق النار ، القت الشرطة القبض على (8) من ابرز قادة الأضراب ، ووضعتهم رهن الأعتقال ، فيما باشــر المحققون بجمع الأدلة لتوجيه التهمة لهم .
المحاكمــة
بدأت المحاكمة يوم 21 حزيران 1886 ، في ظل اجواء من الرعب خلقتها الماكنة الأعلامية الرأسمالية لتخويف المواطنين من ( الخطر الأحمر) و ( المد الأحمر) ، دلالة الى الحركات الجماهيرية والعمالية التي كانت شــائعة في اوربا . اودعت هذه القضية لدى (لجنة المحلفين) ، فيما اجهدت المحكمة نفسها عبر المدعي (شــاك) في تقديم القرائن والدلائل ( الملفقة) ، ورفض اية شهادة قدمتها عوائل المتهمين ، او شهادة اي مواطن يشك في انتمائه للنقابات او تضامنه مع العمال . أنتهت المحاكمة يوم 11 آب من نفس العام بأصدار الحكم بحق القادة النقابيين ( 4 شنقا حتى الموت ، 1 مؤبد و 2 بالحكم 15 عاما ، فيما قام الثامن بالأنتحار) . وأثر صدور الحكم ، تقدم محامي الدفاع بطلب الأستئناف ، الا ان المحكمة رفضته ، وأيدت الحكم مجددا ، فأنطلقت حملة اعلامية عاصفة في العديد من الصحف الأمريكية متهمة الصحافة الكبرى المملوكة للشركات الأحتكارية ، بأنها تتحمل دماء هؤلاء الأبرياء ، ومحملة المحقق ( شاك) ذات الذنب ، والذي ثبت لاحقا بأنه زور الشواهد فأستحق الطرد من سلك القضاء ، وتزامن ذلك ايضا مع العديد من المظاهرات العمالية والأضرابات في المدن الأمريكية الرئيسة ، مترافقا مع تحركات عارمة في الضفة الأخرى من الأطلسي ( اوربا) ، والعديد من عواصم العالم ، مستنكرين هذه المحاكمة الصورية ، والأحكام الجائرة بحق القادة النقابيين .
تنفيذ الحكم
نـفذ حكم الشنق بعد مرور يوم واحد فقط على رفض محكمة التمييز قرار الطعن ، واقتيد الأربعة فجر يوم (11 تشرين ثان 1886) ، وبحضور بعض افراد اسرهم ( الذين تعرضوا للأهانة والتفتيش والتوقيف) ، وكانوا مشدودي العزيمة ويرددون ســـوية نشــيد الأممية ، والهتافات الثورية . وفي هذه اللحظات التأريخة قال القائد النقابي " سبايس " : ان الأيام ســتثبت لكم ، بأن صمتنا هـــو اقوى تأثيرا من اعواد مشانقكم !
في الأعوام التي تلت المحاكمة ، انكشفت الكثير من الحقائق ، وحتى بالنسبة للمحلفين الذين وضعوا بالمشهد على اساس كتابات هؤلاء القادة اكثر من التثبت من حقيقة الأدلة المادية المتعلقة بالقنبلة والتفجير ، اما ( الشخص) الذي القى القنبلة ، فقد بقى مجهولا ، رغم ان الشكوك كانت تدور حول ثمانية اشخاص ، الا ان احدهم لم يكن من بين القادة المدانين .
لقد تركت هذه المحاكمة ،وما رافقها من هستريا ، وما نتج عنها من احكام مجحفة ، أثره السلبي على مجمل الحركة النقابية آنذاك ، وعلى حملة الأفكار الثورية والأشتراكية ، وخاصة من القادمين الجدد الى امريكا .
استمرار النضالات العمالية
لم تتوقف النضالات من اجل تحديد يوم العمل ب (8) ساعات، حتى بعد ما جرى في شيكاغو ، اذ انطلقت المظاهرات مجددا في العام التالي لتحيي هذه الذكرى وشارك فيها حوالي ( 40) الف عامل ، في تحد واضح وصريح لسلطة رأس المال وحماتهم من الشرطة . في العام 1888، قرر ( اتحاد العمل الأمريكي) مواصلة النضال ، وأختاروا يوم 1 آيار 1890 ، يوما للأضرابات الشاملة من اجل هذا الهدف ، وصادف ان عقد مؤتمر الأشتراكية الدولية في باريس عام 1889 ، فكتب لهم رئيس النقابات الأمريكية ( ســامويل كومبيرز) وأعلمهم بالنية لتجديد الأضرابات يوم 1 آيار 1890 ، فأقرت الأشتراكية الدولية هذا التأريخ ، كيوم للتضامن مع العمال لتحديد يوم العمل ، وهكذا دخل الأول من آيار التأريخ ، كيوم للتضامن مع العمال لتحقيق مطالبهم العادلة ، فيما جعلته العديد من الدول والشعوب لاحقا ، عيدا للأحتفال بأنجازات الطبقة العاملة .
تخليد الحادثة والشهداء
دفن ســبعة من القادة الشهداء في المقبرة الألمانية بشيكاغو ( والد هايم) ، والتي الحقت بعد سنين بمقبرة ( فوريست هوم) ، وفي العام 1993 ارتفع نصب ( الشهداء) ملاصقا لقبورهم ، وفي السنين اللاحقة اعتبرت المقبرة من الأماكن التأريخية .
في العام 1992 ، قام رئيس بلدية شيكاغو ( ريجارد دالي) ، بنصب لوحة برونزية كبيرة في المكان الذي اعتلى الشهيد "سبايس" العربة المكشوفة والقى خطابه ، تضمنت اللوحة كلمات الثناء على الحركة النقابية والشهداء وما اثمر من تلك الحادثة من اعتبار يوم الأول من آيار عيدا للطبقة العاملة في كل العالم . وفي يوم 14 /9/ 2004 ، شــارك عمدة شيكاغو وبصحبة مدير شرطتها بأزاحة الستار عن النصب البرونزي ، بأرتفاع 15 قدما ، والذي صــّور العربة المكشوفة للقائد النقابي "سبايس" ، من اعمال النحات - ميري بروكير – لتعيد ذكرى الواقعة الكبيرة التي حدثت في ( هي ماركيت سكوير) ، يوم 4 آيار 1886 ، مذكرة بأحقية نضالات العمال ، والتأكيد على حرية التعبير . ومن المفترض ان يكون هذا النصب الى جانب العديد من الأعمال المتعلقة بالحادثة ، مجتمعة في " بارك العمل " ، والذي يمثل حلقة وصل التضامن العمالي العالمي .
يوم العمل بدلا من عيد العمال
وفي الوقت الذي تحتفل كل شـــعوب العالم، بالأول من آيار ، عيدا عالميا للتضامن مع الحقوق المشروعة للطبقة العاملة ، وتذهب الكثير منها الى اعتباره عيدا وطنيا يزدان بالمهرجانات والمسيرات الشعبية ، فأن الولايات المتحدة ( رسميا) ، لا تعترف به ، لابل انها استبدلته بيوم آخر هو ( ليبر دي – يوم العمل) ، وهو يحمل ايضا دلالة عمالية ، اذ أختير في اليوم الذي قتل فيه (30) عاملا بيد الجيش في اضراب ( بول مان ســترايك) عام 1894 .وهذا اليوم بالرغم من دلالاته ، الا انه فــّرغ من محتواه النضالي العمالي ، فهو يصادف ( ثان يوم أثنين من شهر أيلول من كل عام ) ، وهو اليوم الذي تنطلق فيه العديد من دوري الكرة ، ويصادف آخر يوم في موسم بلاجات السباحة ، ويرتبط بداية العام الدراسي باليوم الذي يليه .
اما الأحتفال ب 1 آيار ، عيد العمال العالمي ، وذكرى مجزرة ( هي ماركيت سكوير) في الولايات المتحدة ، فهو يقتصر على ، النقابات العمالية اليسارية ، الحزب الشيوعي الأمريكي ، والأحزاب اليسارية والأشتراكية الموجودة في امريكا ، اذ تقام مسيرات صغيرة واحتفالات عمالية متواضعة ، بسبب عدم دعم الأعلام، وجهل الناس بهذه المأثرة العظمى التي ادت لاحقا الى ان يكون ، يوم العمل رســميا ، ب 8 ســـاعات ، تماما كما نادى به المضربون في شيكاغو قبل 126 عامــا .
المقالة مترجمة ومعدة عن الموضوعة الأصلية :
http://en.wikipedia.org/wiki/Haymarket_affair
كمــال يلدو
821 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع