بين معنىً وذات ( نجمٌ يدورُ حولَ نفسِهِ )

                                        

                         فاطمة محمد وشاح

                      

           بين معنىً وذات ( نجمٌ يدورُ حولَ نفسِهِ )

" بِمَ التّعلّل لا أهلٌ ولا وطن        ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكن "
صدَقَ الكلامُ عَلَيَّ ولم تصدُق !

وما يعنيني الصّدقُ بموت الشاعر "عملياً ونظرياً"! هكذا يخون الكلام صاحبه على الدوام، إذن فقد تمرّد المعنى وتجرّد، والمعنى إن جرّدتَهُ عارٍ يلبسُ الآخرين ...
يفيض على المعنى الآخرون أو يضيقون، فقليلة هي المرّات التي يصحّ القياس –وليس ضرورة جماليّة أن يصحّ - والصدق بين معنى وذات كصدق المقال على المقام، والمقام طروب لعوب؛ هي الذّات، طفلٌ يشاكسُ المعنى بأسئلةٍ محرجة وظنون مضنية وتأويلات منهكة ...
والهوى وسطٌ آخر؛ سرير، يجرُّ للمعنى ثوباً فخيماً كذيلِ فستان العروس، يغري الثوبَ بالمعنى فيضيقُ عنه وينشقُّ عن صدره وقلبه، أو ربّما يرتفعُ فوق القدم حتّى الرّكبة فما فوق وتُفتضح العيوب، غدّارة هي الرّيح كما الهوى، لكنّ المعنى لن يتذمّر على غرار الأغنية التي تقول "الهوا قليل الحيا طيّرلي فستاني" فلن يعدم لباساً أبدا ؛ إذ لكلِّ معنى وإن كان ساذجاً مناصرون، إلّا أنّ الثّوب يتذمّر، ويتركُ المعنى عارياً ثم يهربُ منه إلى آخر؛ ليست الأثواب الفخيمة للفقراء على أيّة حال، وليست الأثواب الحقيرة للأغنياء...
لِكُلّ معنى غنيّ ، آخرُ ( ذات ) أكثرُ غنىً واتساعاً ؛ فللذّاتِ ذاكرةٌ عن المعنى وغيرِه، وليس للمعنى دون الذات ذاكرة، والهوى يغري الذّاتَ بالانزياح، بالكشف والتفتق، بالسّتر والعريّ، بالفضيحة والفضيلة...
وأنا هنا أحتوي المعنى تماماً، يناسبُ بعضُنا الآخر – دون مطابقة القياس ضرورة- أُدلّلـه أداعبه فأبتسم، أحسّه وأشعر به "يناديني نحو الأعمق" فـ "أغرق" وأشرق بمائي وما فاض من مائه...
أيُّ ماء يفيض به هذا الكلام فيغريني بالبكاء
بمَ التّعلل لا أهل ولا وطن        ولا نديم ولا كأس ولا سكن
هل هذا الماء سهل؟ وأين كلام أهل البلاغة عن سهولته؟!
"سهولة الماء" ولا شكّ جمالٌ أليم، هو جمال الاستجداء؛ استدرارٌ عاطفي، يبكي المعنى فيُبكيني عليهِ وعَلَيّ، ثم:
"لا تَلقَ دهرك إلّا غير مكترث.... ولا يَردّ عليك الفائت الحزن"
أيُّ فائتٍ إذن هو ما عَلَيَّ ألّا أكترث بفواته؟ هو ما أريد ...
هو "المتنبي" يريد من زمنه أن يبلّغه ما ليس يبلُغه الزمن من نفسه، ثم يعلِّلُ (يصبِّر) نفسَه بإقرار العجز "ما كل مل يتمنى المرء يدركه   تجري الرياح بما لا تشتهي السفن" ، هي الريح مرة أخرى؛ هو الهوى إذَن من يعبث بالمعنى و(مَن) يحتويه، يُعرّي المعنى ويمزّقنا كخرق بالية...
لا بطل إلّا الهوى، يعبث بنا بقدريّته أو عبثيّته بحسب غاياته أو نزواته، يوسوس لنا كشيطان رجيم، فَتُعَرَّى المعاني وتُنحَت في إيقاع المقام (الذّات) تمثالٌ جميل ساديّ صنعناه بوحي الهوى، بجماليون آخر، امرأة جميلة خائنة، نُحييها فتقتلنا، فنموتُ ألف مرة وتعيشُ ألف حياة، ليست كأصنام إبراهيم قابلة للكسر، وليست كآلهة التّمر نأكلها حين نجوع، هي عصيّةٌ على الموت والكسر، لم تعد تمثالاً قطّ ولن تعود كذلك أبداً، فقد تحرّر المعنى و"تمرّد قلبي علَيّ"...

" حَّتامَ نحنُ نُساري النّجمَ في الظُّلَمِ    ومَا سُرَاهُ على خُفٍّ وَلا قَدَمِ ....
وَنَترُكُ المَاءَ لا يَنْفَكّ من سَفَرٍ    ما سارَ في الغَيمِ منهُ سارَ في الأدَمِ  "

للماءِ والسماءِ قصة أخرى...
هي كالمعنى تَبكي وتُبكي، وهو منها، فلماذا إذن نروم السماء ونترك الماء؟ وما العَيب في الماء؟ هو الكمال والنّقاء...
أتُراكَ أدركتَ هذا حتى أصبحتَ "تُساري النجم في الظلم" فللبعيد دوماً إشعاعٌ وإغراء، وله أيضاً ضبابيّة وغموض، أمّا الماء النقيّ فهو كماء العلماء "لا طعم له ولا لون ولا رائحة" فالكمالُ مخيف وممل، والنقاء كذلك "جزاء كل قريب منكم ملل"...
لكن أين هو الماء؟ وهل تخافُ السفنُ الريحَ وسط صحراء؛ ولا نبوءةَ لِطوفانٍ جديد يحملُ سفنَ الخَيّرين إلى الجوديّ، حيثُ الجبال قريبة من النّجوم ! أنتَ كَكُلّ المؤمنين والمجانين إذن ، عذّبك السّراب، فطفقتَ تبحث عن الدّليل في السماء "أما في النجوم السائرات وغيرها    لعينيّ على ضوء الصّباح دليل"...
هربَ وجهُك قرب صخرةٍ يبتهلُ ويتشكّى "أصخرة أنا  مالي لا تحركني هذي المدام ولا هذي الأغاريد " ، فكيف صرتَ أنت نرجسة على صخر! غرِقتَ في المعنى ومائِه، وصرتَ تستسقي الغمام على أملٍ "وإن تأخّر عنّي بعض موعده    فما تأخّر آمالي ولا تهن"، فالماء الذي تُريد "يحرّمه لمع الأسنّة فوقه"  والسماءُ أكثرُ قرباً وأقلُّ استحالةً ، هيَ دليلُ الهالكينَ إلى النّجاة، والهاربينَ منَ الماءِ إلى الماء؛ كما يؤولُ الماءُ إلى المنخفضات والحُفر "فكم هارب مما إليه يؤول" عدتَ ، فركبتَ للمعنى بحرَ القصيدة "ومن ركب البحر استقلّ السّواقيا"، "واستشفيت من داءٍ بداءِ"، هكذا صرتَ نرجسةً على صخر وغَرِقتَ في بحر القصيدة "فأقتلُ ما أعلّك ما شفاكا"،  ببساطة صرتَ "سهم في هواء  يعود ولم يجد فيه امتِساكا"؛ (نجمٌ يدورُ حولَ نفسِهِ ) ...
             

      الگاردينيا:اهلا وسهلا بالأخت/ فاطمة.. نورتي حدائقنا..

                

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

445 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع