حظ أمحيسن ! الحلقة الرابعة والعشرين

                                       

  


حظ أمحيسن!مـسلـسل تلفزيوني بين الحقيقة والخيال من الحياة الأجتماعية في العراق في الحقبة الواقعة في منتصف الأربعينيات ولغاية أحتلال بغداد

           
 
             الحلقة الرابعة والعشرين

لبى "أمحيسن" دعوة "أللبوة" التي تعرف عليها قبل قليل , لأكمال حديثهما في أقرب مقهى وسط مدينة صفاقس, ثاني أكبر المدن التونسية والتي تعتبر عاصمة الجنوب التونسي, وهكذا سار بجنبها مزهواً لنجاحه في ترويضها, ..ودخلا المقهى ثم توجها نحو (طاوله) فارغة في احدى الزوايا, وراحا يكملان حديثهما,.. وأستغل "أمحيسن"غبطتها بحبها للعراق, ولذا تجرء وأسمعها عبارات من الغزل المهذب بمدح جمالها, وفق عواطفه المكبوته منذ فراق الأحبة قبل   عدة سـنوات ,.. فشكرته  بفم عذب المناداة ,.. باللهجة التونسـية : "يِعَـيّشـكْ" !, ثم طلبت منه أن يصغي من تلفزيون المقهى,لأغنية فنان تونس الراحل "أحمد حمزه" مع "لطيفه" التونسية لأغنية " جاري ياحمودة "  سـجلت له عند تكريمه في أيام مهرجان قرطاج سنة  1995 :


جاري يا حمودة..............لاجار يدبّر عليّا ياامه
الناس تبات رقوده............وانا نومي حرم عليا
ياامه
***
حمودة يا غالي ................ياللي عليك دلالي
سيدي خويا
عيون الريم الجالي...........جفاني وبعده بدّع بيّا
***
يا حمودة يا جاري...........والغالي مشعل ناري
والله ناري
تمنيته فــــي داري.......مثل الشمعة يضوي عليّا
***
أول مرة ريتــــــــــه...... في داخل قلبي حطّيته
ياامه
هنّاني وهنــــــــــــــيته......وسمّيته العزيز عليّا

أنا مريض بحـــــــبي ......اللـــــي عذبلي قلبي
والله قلبي
سيدي دخيلك ربي........ أحكي له ما صار عليّا
***
يا ماحسن صيفاته...........والخالة على وجناته
ياامه
سحرني بعويناته .........لا حن ولا سخف عليا
 
فقد "أمحيسن" الهيمنة على مشاعره , وهو يحملق فيها كالمسطول,.. ومرت الثواني جمرات في دمه,..ثم وعى على تصرفه ولم يصدق إن كان في "حلم" أم في"عـلم", وبسرعة البرق تمكن من أن يعود لطبيعته, ثم حدثها عما أصاب الشعب العراقي أيام الحصار الغاشم,.. وشرح لها أسباب هجرته من الوطن,.. وقيمت وضعه وطلبت منه عنوانه ، لكنها لم تفصح عن نفسها ألا بكونها " ليسانس" فلسفة"، ولهذا كانت خبيرة في ترويض "أمحيسن" وتطويقه في شباكها !
 وهكذا وجد "أمحيسن"  نفسه في حضرتها كتلميذ "خائب" يقف أمام معلمه ، إلا أن هدوءها وتواضعها شجعاه للتعلق بها, كما أسـرته بعدم زواجها لحد الآن بالرغم من دخولها العقد الرابع من عمرها, بسبب فشل خطبتها من زميلها أيام الثانوية , جعلها عديمة الثقة بأي رجل !
استمرت علاقة "أمحيسن" مع  "اللبوة"، ووجد متعة لم يحس بمثلها منذ أيام الشباب، بالرغم من الغموض الذي يكتنفها، وتحذ يرها له بالألتزام بحدود الصداقة,..وبــــس !
وبمرور الأيام تمكنت "اللبوة" بذكائها وغنجها من أن تهيمن على عواطف" أمحيسن" وتدفعه لكي يتعلق بها, أو قل يهام بها ولهاً,.. وكان سعيداً بحضرتها,لكي يخفف من وطأة الغربة والحنان لأسـرته ، ويزيل الطمى الذي طُمرَعواطفه سنيناً طويلة !
تكرر لقاء "أمحيسن" مع تلك "اللبوة" الغريبة الأطوار، وآمن بفشله رغم معلوماته في التربية الاجتماعية وعلم النفس والخبرة العملية  مع نساء من مختلف الجنسيات !.. حيث لم يجد شبيهاً لها، فهي غامضة في كل تصرفاتها، فقد أبت عليه معرفة تلفونها أو سكنها, بالرغم من أنه كشف كل أسراره لها, ولم تجبه عن علائقها في الوقت الراهن, وتكتفي بـ "ما فيش" !
شعر "أمحيسن" بملل من هذه العلاقة الزائفة أو الحب من طرف واحد، حيث لم يلمس لديها أية مشاعر عاطفية نحوه حتى بحدود المجاملة بين صديقين !,.. وعلى العكس من ذلك، فلقد ازدادت نفوراً منه يوم أن فصح لها عن بعض عواطفه المطمورة والتي فجرتها هي كما يتفجر البركان الهامد!... وبكل أدب ولياقة كانت تصده عن كل ما يصدر منه من أحاسيس عاطفية نحوها !,.. وفي يوم ما أعلمته بأنها "عذراء" لم يمسسها بشر بأي شكل من الأشكال، ولن تسمح بذلك مطلقاً إلا شرعاً، ولم توافق على الزواج السري، وتهكمت على كل من يؤمن بهذا النوع من العلائق الجنسية غير الشرعية،... ثم أبدت موافقتها على الزواج منه بالرغم من الفوارق العديدة بينهما، ولم يصدق قولها، فمن غير المعقول أن لا تتزوج امرأة بمثل جمالها ومستواها الثقافي وهي معدومة الإحساس نحوه , وبمرور الأيام لم يلمس منها إلا بُعداً وبروداً, عازياً ذلك إلى أسلوبها لكي تقوده وتهيمن على كل عواطفه ، فأذعن لإرادتها آملاً أن يلمس ما تخبئه من مخططات, ولما فاتحها باستحالة زواجه منها لظروفه الخاصة لم تقتنع, وبدأت تتغيب لفترة طويلة من دون إعلامه مسبقاً لرفع القلق عنه ،.. وهكذا تحقق ما كان متخوفاً منه، ولما عادت له بعد عدة أسابيع طرحت له أعذاراً واهية لم يعرها أية أهمية البته.

                         

استمر "أمحيسن" فترة طويلة معتبراً نفسه أغبى الأغبياء، لأن الطرف الثاني يسـيرفي طريق مبرمجة للوصول الى هدفها,.. ومنع "أمحيسن" من تحقيق أية استجابة لعواطفه.
 سبب هذا الوضع قلقاً لـ "أمحيسن" وراح يخطط لنهاية الطريق معها,كي يخرج من النفق الذي دخله ، وصار الاستمرار به مستحيلاً!
أدرك "أمحيسن",.. أن المغفل فقط هو الذي يستمر بالحب من غير أمل ,..وهكذا مرت السنين على هذا الدرس الذي أتقـنه "أمحيسن" بكل دقة ، فازدادت خبرته بالناس، كما وجد تطوراً لا بأس به في نمط الحياة عند الكثير من معارفه وأصدقائه ولكن بقناع جاثم على صدور معظمهم، وخاصة الذين نالوا قسطاً من التعليم، ووجد الكثيرمنهم يشـكي حاله لحاله ويبكي على مواله,..و حظه المتعثر,.. وراح يقاوم التيارالاجتماعي الذي ورثه ويجاري عادات من يعايشهم محاولاً تحطيم الازدواجية الجاثمة على صدره!

             

صار"أمحيسن" موقناً بحتمية الفراق معها,.. وأنه مسألة وقت،.. ولم يبين لها أي مؤشر على ذلك, وأراد أن يجعلها مولعة به, إلا أنه لم يفلح... وصار لها كارهاً, وظل على سلوكه معها بل قل ازداد تمثيلاً لكل مشاعره نحوها, وقدم كل ما تمنته من حاجيات مادية ومعنوية ومن أهمها " الدَّلة " الذهبية التي أشتراها من شارع النهر في بغداد، وما أن وضعها على جيدها , حتى أثارت فيه البراكين ,.. فنظم قصيدة حول ذلك المشهد, منها الأبيات التالية :

ومن دلة بلا نار تغلي,  بين نهديك
دعيني أرشف القهوة منها واناجيك
    
عن اي شيئ؟..عن العلم؟..كلا والف كلا,
                              بل..عما يســليك  
 عن الذي أرضى نســاء قبلك
                                و ســـيرضيك  
عن الذي حمل الدلة والفنجان..ليسقيك
   
فلا تتركي القهوة بالدلة تغلي
             
                 فنار صدرك احرقتها و عينيك       
وهل للقهوة مذاق ان لم تكن   
         
                   عراقية ومن صنع يديك؟

                                           

استمرت علاقة "أمحيسن" مع "اللبوة " وهو يعلم علم اليقين أنه سائر بطريق السراب، وترك كل شيء طوع أرادتها، فلم يطلب منها تحديد موعد لأي لقاء، وترك عندها مفتاح شقته لتحضر متى تشاء وتمكث لأية فترة ترغبها، فقد كانت متعته تتجلى بوجود إنسانة معه استحسن جمالها أو قل كل شيء كان فيها جميل عدا أحاسيسها فهي بدرجة تحت الصفر، ولم يشعر منها بأية مشاعر، فهي كالتمثال الأصم، ولا يمكن لأي امرأة في هذا الكون مثلها معدومة الحواس !, فالمرأة التي بهذا العمر قد تذوب من أية لمسة, كما تقول أم كلثوم في أغنية "جددت حبك ليه؟" كلمات أحمد رامي وألحان رياض السنباطي :
هات عينيك تسرح في دنيتهم عينيه,.. هات أيديك ترتاح بلمستهم ايديه!  
فكيف لا تتأثر هذه المرأة بلمـسه يد  "أمحيسن" عندما يرحب بها على الطريقة التونسية؟!

                                

حدد "أمحيسن" يوم مغادرته تونس ,.. واتصلت "اللبوة" بـه قبل يوم من موعد  السفر, ورغبت بزيارته ، واستغرب من طلبها ولم يستطع منعها، فرحب بها على مضض، وفي المساء جاءت, وتناولت العشاء معه ، وبادرت بكلام لم يعره في البداية أي أهمية، إلا أنه وجد له تفسيراً فيما بعد،.. حيث قالت له:

أن أختها الكبيرة طلبت منها أن تتزوج، وغير صحيح أن تبقى عانسا،... فرد عليها "أمحيسن" بكل برودة :
"لا مازلت صغيرة، و كثيراً من النساء يتزوجن بعد الأربعين !"،
فنظرت له نظرة مفعمة بالحزن والعتاب الخفي، وقالت له بوضوح :
" يعني لا أمل,.. أنك مازلت مُصراً على رأيك؟"
وبكل هدوء غير "أمحيسن" مجرى الحديث، وبلعت هي تلك  النتيجة على مضض، وأستمر بينهما حديث عام، ،...ثم ظهرت المطربة التونسية عـُليا بلعيد تغني من كلمات عبدالمجيد بن جدو والحان بليغ حمدي أغنية عيني دمعه :


عيني دمعه ,..أبكي والناس سامعه !
ألا أنت ياحبيبي ,.. ياغايب عننا
سمعنا بيك مهاجر ,..ولا شايف دمعنا
لو تعبان في الغربه ,..حا أنجيلك
وخليني أنعيش جنبك ,.. الله يريح قلبك
وبعد أن حان موعد الفراق، خرج "أمحيسن" معها  من أجل توصيلها لبيتها، وفي الطريق لمس "أمحيسن" من حديثها "اليأس "من تحقيق خططها، وعاتب كل منهما الآخر,ثم فتح مسجله وأسمعها مقطعاً من أغنية عبدالحليم "بلاش عتاب"!

بلاش عتاب يا حبيبي .. بلاش عتاب يا حبيبي
ارحمني من العذاب .. يا حبيبي بلاش العتاب
طفِّيت كل الشموع .. و قلبي ارتاح و نام
  إرتاح من الدموع .. و الحب و الآلام ..
القلب العاصي تاب .. والجرح القاسي طاب
ماصدقت انه طاب .. يا حبيبي يا حبيبي
ياما ياما قلبي داب .. من عذاب الحب ياما
ياما خبيت الآلام .. ياما شفت النور ضلام
ياما كنت اتمني يوم .. يوم يوم ابتسامة
بلاش العتاب .. بلا ش يا حبيبي يا حبيبي

       

يتبع في الحلقة / 25   
للراغبين الأطلاع على الحلقة الثالثة والعشرين:

http://www.algardenia.com/maqalat/10228-2014-05-05-08-02-42.html

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

802 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع