إبراهيم الزبيدي
إن الأمور واضحة ولا تحتاج إلى كلام كثير. فلا يستطيع أي شعب، مهما كانت عزيمته وإمكاناته وخبراته، أن يعمر وطنا غير آمن. ولا يمكن أن يتوفر الأمن وتدور عجلة التعمير والتطوير والتنوير بوجود حكام جهلة متخلفين أنانيين فاسدين، وحكومةٍ حَوْلاءَ ترى مرة ولا ترى مرات، تضرب هنا وتطنش هناك، فتجعل الوطن كورة تتقاتل زنابيرُها دون هوادة، ويأكل بعضُها لحم بعضها، على الدوام.
في العام 2004 قيض لي أن أرى اليابان لأول مرة. صعقت بما رأيت، وكنت قد صعقت، قبل ذلك، بما سمعت. مكثت فيها عشرة أيام لم أسمع بوق سيارة حريق ولا شرطة ولا إسعاف. وذات صباح رافقت تظاهرة عمالية سار فيها آلاف المتظاهرين المتأنقين، صامتين، مكتفين بما رفعوه من لوحات صغيرة كتبوا عليها ما يريدون، ومجاميع من رجال الأمن الراجلين تسير عن يمين التظاهرة وعن يسارها لحراستها فقط لا غير.
ثم تعمدت أن أزور أحد الأسواق الشعبية في طوكيو فوجدته أنظف وأجمل من مباني وزارة الصحة في عاصمة عراقنا الديمقراطي الجديد.
هذه الأرض الصغيرة، اليابان، خرجت من الحرب العالمية الثانية وهي خرابة محترقة بالكامل. بلا مال ولا صناعة ولا زراعة ولا حتى دواء وماء وهواء. ولكنها، من 1946 وحتى أوائل السبعينيات، في خمس وعشرين سنة فقط، تمكنت من أن تستعيد عافيتها، وأن تقف على قدميها بثبات، بل تفرض نفسها على العالم الجديد قوةً يُحسب حسابها باحترام.
ومن أوائل السبعينيات تمكنت من أن تملك ثاني أقوى اقتصاد في العالم، وأن تستعمر الكرة الأرضية بصناعتها المتقنة المبتكرة التي غيرت حياة البشرية كلها. وقد حدثت تلك المعجزات، كلها، في نصف قرن فقط من الزمان. ومن يفتش عن السر لن يجد غير سبب واحد وظرف واحد وصانع واحد هو الشعب الياباني نفسه، دون ريب. فهو الذي أنتج حكومات عاقلة وعادلة ونزيهة تداولت السلطة بأصوات الناخبين، دون تزوير ولا تلاعب ولا وصاية من دولة قريبة أو بعيدة، ودون ترهيب بقوة الدولة، وترغيب بأموال الدولة وأراضيها ووظائفها، ودون شعارات ولا مهاترات ولا اجتثاث.
بالمقابل تعالوا نتأمل حالنا في العراق من 1914 وحتى 2014. ماذا حدث في قرن كامل من الزمان؟ كم دخل عليه من أموال، وكيف أنفقت، وأين؟ ومن قـَتـَـل باسم الوطن والوطنية؟، ومن ُقـتـِل باسم الوطن، أيضا، والوطنية؟ وكم عالم وخبير ومبدع ومثقف وفنان وقائد عسكري فذ سحقه الوطن بالاجتثاث والقتل والاعتقال، أو طوح به وبعلمه وخبرته ومواهبه في بلاد الله الواسعة؟ وكم حاكم عادل وعاقل مر على حكم العراق؟، وكم أحمق وعميل وتافه ومتخلف ومتعطش للدم وللمال الحرام قفز، في غفلة، من آخر الصفوف فاغتصب السلطة وتكبر وتجبر وظن أنْ لا عاصم له من غضب الزمن والتاريخ، ثم سقط تحت جنازير دبابة، أو على خشبة مقصلة، أو برصاصة غادرة؟
ولكي لا نكون مثاليين فنظلم العراق بقياس أحواله بأحوال اليابان وشعبها العظيم تعالوا نأخذ مثالا آخر. دولة قريبة منا، ثرواتها أقل من ثرواتنا، وشعبها أقل من شعبنا عددا وعُدة، وهي دولة الإمارات العربية المتحدة، وليس غيرها.
في 23 شباط / فبراير1971 كنت ضمن الوفد الإعلامي العراقي الذي حضر مؤتمر الإذاعات العربية في مدينة العين. لم يكن فيها، يومها، غير رمال وعواصف غبار وفندق هلتون ودكاكين طينية متناثرة ومنازل صغيرة مبعثرة بلا نظام.
لكن تأملوا ما فعله الأمن والاستقرار والوطنية الحكيمة العاقلة العادلة بهذه الدولة وشعبها وشعوب المنطقة، في ثلاثة وأربعين عاما فقط.
ثم لاحظوا معي حجم التهذيب ودماثة الخلق الذي زرعته عقلانية الحاكم الصادق المسالم في المواطن والمجتمع.
وانظروا كيف أنفق حكام الإمارات أموال دولتهم في الداخل، وما فعلوه بها في الخارج، وما أنشأوه من المستشفيات والجامعات ومراكز التنمية البيئية والزراعية والصناعية والتربوية التي تبرعوا بها أو استثمروا فيها في دول عديدة، شقيقة وغير شقيقة.
وتأملوا كيف أصبحت أبو ظبي ودبي والشارقة مراكز بحوث ودراسات وجوائز علمية وفكرية وأدبية، عربية وعالمية لامعة وفاعلة، وقلاعا شامخة من قلاع الاعتدال والتسامح ورفض العنف ومقاتلة الإرهاب.
ترى ما هو السر؟ وما الفرق بين مواطن يولد في أرض فيكون ممتلئا قسوة وعنفا وتطرفا وهمجية، وبين آخر يولد في أرض غيرها فتملأ قلبه وعقله وروحه الرحمة والوسطية والتسامح وحب الخير؟
وزيادة في تفصيل ما يجري عندنا، وما يجري عند غيرنا من شعوب تحترم نفسها، أسرد لكم ما يلي:
- أقالت المحكمة الدستورية التايلاندية رئيسة الوزراء (ينغلاك شيناوترا) من منصبها باعتبار أنها استغلت سلطاتها بقرارها إقالة رئيس مجلس الامن القومي في 2011، بما فيه فائدة حزبها الحاكم. وجاء قرار المحكمة الدستورية بناءً على طعن قدمه عدد من أعضاء مجلس الشيوخ.
وقال أحد قضاة المحكمة الدستورية في حيثية الحكم الذي نقله التلفزيون مباشرة: "لقد انتهت مهام رئيسة الوزراء، لم يعد بامكان ينغلاك البقاء في منصبها كرئيسة وزراء". وشمل قرار المحكمة أيضًا وزراء آخرين في حكومة ينغلاك لكنها لم تحدد اسماءَهم.
- غضب سكان بلدة 'ماطا غراندي' بولاية 'دي لاكوس' البرازيلية من الحكم القضائي الذي برأ مستشارهم البرلماني من تهمة اختلاس المال العام، فقرروا القصاص منه بطريقتهم، نكاية بالقضاء المنحاز فعمدوا إلى ربط المستشار 'مارسيانيلو داكوستا' بعمود كهربائي وسط البلدة، بواسطة حبال قوية ليكون عبرة لمن يعتبر.
أما عندنا، في عراقنا الديمقراطي الجديد، فيستطيع رئيس وزرائنا وقائد عام قواتنا المسلحة أن ينقل وزارات كاملة، بوزرائها ووكلاء وزرائها وكبار موظفيها، وأن يعين غيرهم من أهله أو من أعضاء حزبه أو مشايعيه، وأن يعتقل العشرات والمئات دون محاكمة ولا تهمة، وأن يختطف النساء ويخفيهن في سجونه ومعتقلاته السرية، لا شهورا بل سنوات عديدة دون محاكمة، وأن يتصرف بأموال الدولة كمت يشتهي، وأن يجتث خصومه متى أراد، وأن يلغي أحاكا قضائية مبرمة عن مُدانين بالسرقة والاختلاس والإرهاب، ويجعل القضاء والبنك المركزي والجيش والشرطة والأمن والمالية من أملاك حزبه الخالصة، ثم يرسل أحد نوابه (القاضي محمود الحسن) ليوزع سندات أراضٍ أميرية على الناخبين مقابل أصواتهم، ثم لا تجرؤ مفوضية الانتخاب على طرده أو حبسه أو ربطه بالحبال على عمود كهرباء خالٍ من الكهرباء في ساحة التحرير.
http://www.youtube.com/watch?v=PQBKnCBW52A
ولكن، ولأننا في العراق، وردا على كل ذلك التاريخ الأسود الملطخ بدماء الأبرياء وأموال اليتامى والفقراء وأبناء السبيل يرفض نائبُ رئيس جمهورية سابق ووزير سابق وقيادي في المجلس الاسلامي الأعلى أي مساس بائتلاف رئيس الوزراء، ويعارض دعوات تحالف المواطن والاحرار والاصلاح والفضيلة والكوردستاني وقوى (العراقية) السابقة إلى تشكيل حكومة أغلبية بدون دولة القانون.
وذلك لأن الأمر، في تقديره،"يتطلب توحيد(ساحتنا الخاصة والوطنية، وليس تفكيكهما، وبناء العلاقات الايجابية والمشتركات الكثيرة، والانتهاء من التعيش على الازمات والخلافات، بما يحقق الفائدة والربح للجميع، بلا غالب ومغلوب". حفظ الله (ساحته الخاصة). اللهم آمين.
597 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع