دلع المفتي
«أشعر بالغربة والوحشة. لا أتعرف إلى الخلق. مزيج من الحسد والكره والعنف يخيم على الجميع. قلة من الشرفاء، والباقون ينهشون.. حتى ما يسمى بالطبقة الكادحة».
تلك كانت كلمات صديقتي التونسية، بعد أن عادت إلى تونس عقب «الربيع العربي». وإن أردت أن أكتب ما يتناقله السوريون عن بعضهم، والمصريون والعراقيون والليبيون واليمنيون، فلن يكفيني هذا المقال ولا الصفحة بأكملها! لا أدري ما الذي حصل. كنا نصدق بأننا شعوب تتميز بالأخلاق؛ وتفرّق ما بين الخير والشر. وبأننا الأفضل، وبأننا خيرة البشر. بل كنا مقتنعين بأننا الأجمل والأحسن والأرقى! لم نمتحنْ أنفسنا بموقف أو قضية، فكان كلامنا مجرد لغوٍ وغزلٍ ذاتي مريض. وإذا بنا نصحو، يوما، على الحقيقة، محاصرين بروائح قبيحة، عفنة، تنبعث منا... روائح فضحتنا أمام أنفسنا والعالم.
لقد «طفحت البالوعة»! وتسرب العفن والوسخ، وسقطت الأقنعة فظهرنا عراةً، إلا من حقيقتنا. التحولات الكبرى تعري التربة وتقشط السطوح وتظهر الأعماق، والرياح العاتية تبعثر الأعشاب الهشة، وتكسر الغصون الضعيفة، والهزات الأرضية تخلخل القشرة وتبلع الأراضي اللينة، وهذا ما حصل في مجتمعاتنا... زلزلنا؛ وأسقط أقنعتنا.
بعد ثلاث سنين «عجاف» - مما لم يعد يليق أن يسمى «ربيعاً عربياً» - وجدنا أنفسَنا بلا أقنعة، واكتشفنا سوءاتنا. السوري يشتم السوري، والعراقي يلعن العراقي، والمصري والتونسي والليبي واليمني؛ فالعراقي غيرُ راضٍ عن مجتمعه، والسوري لم يعد سورياً خالصاً، فيما لم يفرح التونسي بحصاد ثورته، كما لم يقبل المصري بنتائج انتفاضته.. أو انتفاضتيه!
وها هو «الربيع» المزعوم ينقلب إلى فصل لا اسم له ولا وجه، وبدلاً من أن يوحدنا، فككنا، وتحول إلى يد مشؤومة رفعت الغطاء وأزالت القناع، فظهرنا على حقيقتنا: نتنابز بالألقاب والمسميات والطوائف والأديان والمذاهب. من كان ليصدق أن ينحر سوري سورياً آخر لأنه من طائفة أو دين مختلف؟ ومن يصدق أن تدمر فئة ما سداً كي تغرق فئة أخرى لاختلافها المذهبي؟ ومن كان ليصدق أن يقتل بعضنا بعضاً تبعاً للاسم والهوية؟ ومن كان ليصدق أن كل هذا الكره والحقد والبغض كامنٌ في قلوبنا؟
انقلبنا على دكتاتورية تكاد تكون «مدنية»، فأتتنا دكتاتورية بـ «غطاء ديني»، وعندما انقلبنا عليها أتتنا بشائر دكتاتورية «عسكرية» جديدة. ثرنا من أجل الحرية والديموقراطية، فوجدنا أنفسنا في سجون نظام جديد خلفاً لمستبد قبله. انتفضنا من أجل رغيف خبز، فتشرد ملايين البشر على أرصفة العالم يشحذون اللقمة والستر. طالبنا بالكرامة والعدالة الاجتماعية، فتحول كل منا الى مستبد يقمع مستبداً آخر.. فأي «ربيع» هذا؟ دماء سُفكت، وأرواح أُزهقت، ومدن محيت، وأمهات ثكلنَ، وأطفال يتموا، والنتيجة.. «ما راحت إلا على اللي راح».
نعم، كل ذلك حصل، وسيحصل الأسوأ منه، لأننا خسرنا أقنعتنا، أدوات التجميل التي كانت «تمكيج» عيوبنا. تلك الأقنعة التي طالما وضعناها بعناية فوق أمراضنا، طوعاً وبكامل وعينا وإرادتنا لتخفي تشوهاتنا... نريدها الآن، فمن سيمنحنا أقنعة جديدة؟
567 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع