د. سيّار الجَميل
كان جلّ العراقيين وما زال ، يعيش حلم عراق متمدّن جميل له مشروعاته المستنيرة في الحياة وتأثيره الحضاري والثقافي في العالم المعاصر ..
عراقيون كانوا وما زالوا يحلمون بأنّ الخلاص لا يتمّ الا بعراق مدني حقيقي لا بعراق مزيّف ضائع تكتنفه الاوهام والتناقضات .. يريدونه له حداثته ومعاصرته يمشي على رجليه نحو الامام ، لا يطيقونه قد تقهقر وتراجع وانهار على رأسه نحو الوراء دون استقامة الطريق ! كنّا نحلم بأنّ من يمارس "الديمقراطيّة" ينبغي ان يحمل فكرا متنوّرا منقطعا شفّافا مشرقا يقبل الاخر ، وينفتح على كلّ الناس ، ولا يحمل فكرا معتما وظلاميا ، او عقلا جامدا واسلوبا مموّها منافقا وميكافيليّا ، او يغدو عدوّا لبني قومه ..
مع حلم وجدان عراقي بزعيم ذكي متنوّر لا يميّز بين الناس ، له سماحته وطيبته لا يحمل أيّ كراهيّة ولا احقاد ولا جهالة ولا ثارات .. زعيم شجاع ومتواضع ونزيه يعشق العراق واهل العراق ويحرص على خدمة البلاد واسعاد العباد .. عراقيون كانوا وما زالوا يحلمون بزعيم قويّ الشخصيّة له قدراته في قيادة طاقم وزاري يجمع اذكى النسوة والرجالات الكفاءات الذين لا علاقة لهم أبدا بدكاكين الاحزاب الدينيّة والطائفيّة البالية او باشتراطات القوى البليدة ، او بأجندة الجيران المستوردة ، او بشعارات التافهين للانقسام والفوضويّة .. عراقيون حلموا بأصحاب شهادات عليا حقيقيّة لا اصحاب القاب كاذبة ، او حملة شهادات مزوّرة ، او سير تافهة ليس لها الا انتماءات لأحزاب عقيمة لا انظمة داخليّة لها ، ولا ايّة مؤتمرات سياسيّة ولا ايّة تواريخ موثقّة عندها ..
عراقيون يحلمون بقادة وطنيين حتّى النخاع يعملون برفقة مهندس مستقبل العراق ليل نهار وفق رؤية عراقيّة حضارية واحدة ، لا تفرّق ولا تمّيز وتحول دون اختراق العراق ، ولا تنكأ الجروح ، ولا تعادي التنوّعات ، بل تبنّي ارادة وطنيّة عراقيّة جامعة للحدّ من زحف الشياطين والغلاة والطارئين والمليشيات والعصابات والارهابيين وتحمي كلّ العراقيات والعراقيين !!
عراقيون يحلمون بقيادات لها مكانتها وتخصّصاتها من اجل شغل اربع سنوات قادمة بعد ان اضاعوا ثماني سنوات من حياتهم الصعبة وثرواتهم الهائلة واعمار بلدهم على يد اناس جهلة لا يعرفون ادارة البلاد ولم يخططّوا لمستقبلها .. فسحقوا العراق واشاعوا تفاهات الغلوّ والتمييز الطائفي لهذا الطرف او ذاك بدل التصالح والانسجام ! كنّا نحلم بسلطة قويّة تصلح الاخطاء وتقّوم القضاء وتقضي على الترسبّات وتحاسب كلّ المختلسين والفاسدين والحراميّة والمجرمين والقتلة من خلال مؤسسّات قضائيّة نزيهة ومستقلة ..
كنّا نحلم بقادة لهم القدرة على فرض الامن والنظام وتطبيق القانون والبحث عن الكفاءات ومشاركة الجميع من اجل مصلحة البلاد لا القبول بمتسلّط جائر لا يعرف كيف يتصرّف ، ولا كيف يتكلم ، ولا كيف يصنع قراره ، ولا كيف يبتسم ، ولا كيف يمشي ، ولا يحسن التعامل مع شعبه .. وظنّ انّ العراق يملكه لنفسه وانه سيبقى ، فراح وحاشيته ينتهك ويعبث ويتجاوز .. بدل ان يعمل ليقدّم للتاريخ نموذجا جديدا ، وراح يستوطن المنطقة الخضراء بدل ان يعيش زاهدا في بيت عادي بين الناس.. فأين يجد اهل العراق زعيما لهم لا يكذب ، ولا ينتحل ، ولا يزوّر ، ولا يكره ، ولا يحرك الجيوش ضدّ شعبه ، ولا يعتمد على افراد عائلته في الحكم ، ولا يعتمد على حاشية كريهة من ازلامه وخواصّه ونسبائه ..
متى يأتي ذلك الزعيم الذي يحترم شعبه باحترام البرلمان والرأي العام والاعلام المعارض .. لا ان يستخفّ بالجميع ،وهو يهدّد ويرعد ويزبد ويغلق القنوات ويحرم النقّاد الشجعان من حقوقهم الانتخابيّة ، وكأن ليس في العراق أيّ مخلوق صالح لقيادته الا جنابه .. عراقيون كانوا يحلمون بأن لا خلاص من الاوضاع الشاذّة الا بتأجيل هذا السعيّ المحموم للسلطة لمن هّب ودّب من كلّ الاطراف ! كانوا يحلمون بمعالجة الاوضاع الصعبة والانتقال من الاهمّ الى المهم ، لا ان تسود المساومات وتشترى الضمائر ويهرّج الاقزام وليعلم الجميع ان طالب الولاية لا يولّى وان من يسود في ولاية ثالثة فكأنه يؤمن بالحكم الوراثي !
لقد اكلت الطائفيّة وتمايزاتها الاخضر واليابس من حياة العراق السياسية والايّام القادمة ستولد جحيما ان بقيت مسرحية ولاية الزعيم الثالثة حيث ستتولّد قناعات مخزية بالتقسيم .. نعم ، تقسيم العراق سيغدو ضرورة جماهيريّة سيصفّق لها الاعداء المتربّصين من كلّ حدب وصوب خصوصا ان استمرت الاوضاع المأساويّة كما هي عليه باتباع النهج الطائفيّ لا المدني على يد أيّة حكومة او حزب او زعيم يجعل من نفسه دكتاتورا صغيرا اخر . ان الطائفيين باستخدامهم التمييز السياسي قد ضربوا الوحدة الوطنيّة في الصميم ، وهم بدكاكينهم يوزّعون حلوى العراق ويتقاسمون حصصهم من الوليمة وسط التهاب المجتمع الذي ارادوا ان يقسموه .. وهم يضحكون على انفسهم وعلى الاخرين عندما ينادون بالمجتمع المدني والديمقراطيّة !
انّ ايّ عراقي يتّخذ من اثنيته او عرقه او دينه او مذهبه او مدينته او قبليته وعشيرته منطلقا لمحاكمة الاخرين ويميّز بين العراقيين ، فهو يساهم في ابقاء الارهاب وحرق كلّ الاوراق ! فان كانت هناك عفونات اجتماعية دعوها مدفونة تحت التراب الى الابد يا ابناء العراق كيلا تفوح روائحها وتقتل هذا الذي اسميتموه بـ " العراق الجديد " ظلما وعدوانا ! لقد ولدت حالات طارئة وجديدة على المشهد السياسي والاجتماعي العراقي لا يمكن ان يستوعبها غيرنا نحن العراقيين .. لقد ولدت لدينا مناخات وتوفرّت عندنا قناعات وبرزت فينا شراكات وتبلورت هناك تحالفات وتفاهمات .. ولكنها مع الاسف كانت كلها مزيّفة وكاذبة من اجل السلطة وتوزيع المناصب والكراسي لا من اجل مبادئ او برامج او مشروعات تهمّ مستقبل العراق ..
لقد ساهم العراقيون بأنفسهم في دفع العمليّة السياسيّة العمياء نحو الامام وخصوصا مشاركة الشعب في الانتخابات كظاهرة لم نجد لها مثيلا .. فلماذا اخفق المالكي ورهطه على مدى ثمان سنوات عجاف ؟ ضرب خلالها الوحدة الوطنيّة في الصميم وكان الجعفري من قبله فاشلا ايضا .. بمعنى ان هؤلاء لا يعرفون كيف يحكمون ، خصوصا وانهم ورثوا مشاكل كبيرة عن نظام حكم سابق . لقد سمعنا عن اختلاسات وتخريب ونهب على امتداد اكثر من عشر سنوات .. فهل ستتم محاسبة اصحابها الذين يفرّون الى الخارج وبمعيتهم المليارات ؟ هل بالإمكان مسائلة كلّ من يمتلك اليوم عقارات ضخمة بالملايين كيف امتلكها وكان يعيش على المساعدات قبل العام 2003 ؟ لماذا لم نشهد اي وقفة للوزارة السابقة لمحاسبة نفسها ونقد اخطائها وتصرفاتها ؟ ما الذي يقّوم العملية السياسية القاتلة ؟
ثماني سنوات واغلب العراقيين يعانون الويلات والثبور وعظائم الامور نتيجة تفاقم حجم الارهاب وتناحر القوى وتشبّث رئيس الوزارة بالكرسي مع طغيانه واخطائه .. وفشله في توفير الامن وتلاعبه بالقضاء والجيش ونهب منظّم للمال العام وتوقيعه على الصفقات المشبوهة .. هذه الوضعيّة السياسيّة التي يعتبرها البعض من الاغبياء والمنتفعين والمهرّجين والطفيليين دليل صحة وتطّور في العمليّة السياسيّة للعراق الجديد ، يراها آخرون دليل تراجع وتقهقر ونكوص عن المشروع الوطني الذي يحلم العراقيون به ، وهم ينقسمون الى قسمين متصارعين اثنين ..
لقد نشرت في ايلاف يوم الخميس 5 مايو 2005 مقالة بعنوان ( الوزارة الجعفرية: ملاحظات عراقيّة) انتقدت فيها المساوئ التي كانت عليها حكومة ابراهيم الجعفري ، قلت فيها : " ان الانقسام الصعب سيولد جحيما من الاوضاع التي لا يحسب اليوم حسابها ، والتي اوّد ان الفت النظر اليها متمنيا ان يقّدر العقلاء صرختي هذه من اجل مستقبل العراق .. وعند ذاك يتعّين على العراقيين ايجاد حلّ تاريخي اذ سيجدون انفسهم شاءوا ام ابوا وراء انقسام العراق . وهذا هو الهدف الذي تريده بعض الاطراف الاقليميّة والدوليّة ويصفّق له في سرّه بعض العراقيين الطارئين مع كلّ الاسف ! ان ذلك لو حدث – لا سمح الله – فسينهش المفترسون من المحيطين بنا اشلاء العراق ولا يبقوا عليه ابدا . انني لا اناشد اولئك المتعصّبين المتطرّفين والعصابيين والانقساميين والطائفيين .. بل اناشد كلّ العراقيين الاصفياء المخلصين والاوفياء لترابهم ووطنهم وارضهم المقدّسة التي حافظ عليها الاباء والاجداد منذ الاف السنين . اناشد كلّ العراقيين بمختلف الوانهم واطيافهم واشكالهم واجناسهم .. فهم نبت هذا العراق قبل ان يكونوا اي شيىء آخر" .
واخيرا ، ان العراق بحاجة الى زمن انتقالي لمدة عشر سنوات يتوّفر خلالها رجال بناة من ساسة مستنيرين واداريين براغماتيين ومختصّين عمليين لهم خبراتهم وتجاربهم ونزاهتهم يؤدّون امانتهم ليسلموا العراق لمن يتأهّل له سياسيّا في انتخابات حرّة نزيهة وان يقدّموا في نهاية ايّة مرحلة انجازاتهم التي قدّموها ، ويحاسبون كلّ الذين اجرموا بحق العراق والعراقيين ومحاسبتهم على مثالبهم واخطائهم حسابا عسيرا .
448 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع