سلام توفيق
ايام الجيش فيها ذكريات لاتنتهي..عشنا فترة 7 سنوات من 1984-1990 في نفس الكتيبة مع نفس الجنود في نفس السرية ونفس الرعيل..وارتبطنا بعلاقات صداقة قوية جدا قسما منها لازالت قائمة الى يومنا هذا..نعم بعد مرور 25 عاما على افتراقنا لازلنا نتصل بعضنا البعض .
كنا في ظهيرة احد الايام مكلفين بادامة الاسلحة الخفيفة لكافة افراد الرعيل البالغ عددهم 11 زائدا امر الرعيل ..كان معي صديقي العزيز سعد داود سلمان وهو مطوع من مدينة شهربان ..وكان صنفه سائق دبابة..مثلي تماما ..باقي افراد الرعيل كانوا مكلفين بمهمة استطلاع عادية..
كنا نجلس في ظلال كبرة من القصب والبردي تم انشاؤها لتكون صفا للدروس النظرية وبعض المحاضرات الاخرى..وكانت بعيدة بعض الشيء عن مقر الكتيبة ..كان صديقي سعد-ابو رنا- من مواليد 1965 وهو متوسط الطول ضعيف البنية وشعره يغزوه البياض رغم انه كان في ذلك العام 1988 في ال23 من عمره
كنا قد شارفنا على الانتهاء من غسل جميع البنادق بمادة الكازوايل المستخدم في الدبابات ونشفناها ثم زيتنا قسما منها..حين استاذن سعد ليقضي حاجته خلف الساتر الترابي الذي يبعد علينا بحدود 30 مترا فقط..بينما بقيت انا منشغلا بالاسلحة
تناولت احدى البنادق وركبت فيها المخزن وانا اتهياء لاعادة بقية المخازن الى باقي ال11 كلاشنكوفا واعادة 3 مخازن الى كل جعبة من الجعب ال12 المطروحة امامي لننتهي ونعود لتناول الغداء
هو الشيطان وحده اوحى لي بتناول البندقية ..اية بندقية موجودة حولي لامزح بها مع سعد الذي قضى حاجته وتسلق الساتر وجاء عائدا باتجاهي..
في تلك اللحظة الشيطانية استحضرت كل ماتعلمته من فنون الرماية وطبقته.. فطبقت الفرضة على الشعيرة وجعلت الاخمص-نص اخمص- على نقرة كتفي..واوقف نفسي ..واخذت خطا وهميا من الفرضة الى الشعيرة باتجاه راس سعد..وبالتحديد بين عينيه تماما وضغطت قليلا على الزناد لاتخطى المسافة الميتة له!!!
هي اجزاء من الثانية فكر بها سعد بعد ان لمح المخزن وهو مركب في البندقية ..لا ادري هل هي حاسة سادسة..هل هي حاسة الاستشعار بالموت ..ام هي لحظة واحدة تتصرف بها تكون نقطة المفترق لحياتك
في خضم هذه الهواجس وبفارق زمني لايتعدى اجزاء الثانية انطلقت 3 رصاصات من بندقيتي باتجاه راس صديقي الذي لم يكن يبعد اكثر من 20 مترا ..سبقت هذه الاطلاقات باجزاء الثانية .حركة من سعد بان اخفض راسه شبرا او شبرين للاسفل..
لقد اراد القدر ان اتناول البندقية التي ركبت فيها المخزن المملوء بالرصاص!!!
بالنسبة لي لم تكن ثواني ولا اجزاؤها ..لقد كانت الدهر كله..كانت النقطة التي ستغير مجرى حياتي ان كتبت لي حياة بعدها
لا ادري كيف رميت البندقية وبدات ارتجف من الخوف. .ليس الخوف لمنظر جثة مضرجة بالدماء ..فمثلها بالمئات كانت شريط حياتنا اليومية انذاك..انه الخوف من نوع اخر..خوف على شيء كنت ستفقده ..كانت زوجته ستترمل وابنته الصغيرة ستتيتم وسافقد واحد من اخلص الاصدقاء
وصل سعد عندي وكان بكامل سيطرته على نفسه..واراد ان يخفف وطاءة الامر علي بعد ان وجدني بحالة مزرية فقال مازحا
-الله يطيح حظك على هيجي شقى.. ابو راس شلون راح ننتصر على ايران وانت ماتنوش 20 متر !!!!
وقهقه ضاحكا وكانه لم يفلت من يدي عزرائيل قبل ثواني..فاخذ البندقية واسرع باخفاءها خلف الساتر وانا مذهول لا اقوى على شيء..لقد استشعر ان صوت الرصاصات لن يمر هباءا.سيحضر ضابط الاستخبارات او احد جنوده الامناء..لمعرفة المصدر وسندخل في سين و جيم لا نهاية لهم
احضر سعد لي قليلا من الماء من الحب الموجود داخل الكبرة وغسل وجهي وشربت منه ..وماهي الا لحظات حتى حضرت سيارة الواز وفيها احد عناصر الاستخبارات المعروف بحقارته..وسلم علينا وسالنا عن مصدر الرصاصات وبداء يتفحص من بعيد وضع البنادق..فقال له سعد:
عيني مطلوب -هذا اسمه- داير مادايرنا كلها مشاة شمدرينا منين اجت الطلقات؟؟؟
فاجاب بخبث-لا والله ابو سعود اظنها جانت قريبة منكم هنا
فقال له سعد-
هاي البنادق كلها كدامك افحصها..لو احنا يبين من السبطانة صح لو لا؟؟
طبعا اقترب وفحص كل البنادق بخبث قائلا
البنادق كلها منظفة ومابيها شي انتوا كم واحد بالرعيل؟؟
قال سعد:11وهاي البنادق 11
لم يقتنع ولكنه لم يجد شيئا يثبته علينا ..فركب وولى الى مقره
فبادرني سعد:
والله لو ما ماخذ بندقية ملازم مجيد -امر الرعيل- دون علمه من الدبابة وغسلناه لانه مجاز ..لانكشف كذبنا
لقد كانت البنادق 12 وليس 11 لان سعد قام باحضار بندقية الضابط المجاز وقرر تنظيفها لانه مجاز ولانهم من نفس المنطقة فالعلاقة بينهم قوية-ميانة-
المهم لقد انقذني سعد ذلك اليوم مرتين:
المرة الاولى انقذني من ذنب عظيم لايغتفر قتل انسان بريء بلحظة تهور وغفلة
المرة الثانية..بتصرفه السليم في وقت حرج انقذني من عقوبة كبيرة كانت ستطالني
بعدها بسنة او اكثر تسرحت من الخدمة وعندما سلمت ذمتي واستلمت كتاب تسريحي ..لم يستطيع سعد تحمل تلك اللحظات وفقد كل قواه وقوته وانتابته حالة من البكاء التي لم اعهدها منه وبقي يتمرغ في الارض ..وكانت لحظات وداع قاسية جدا لازلت اذكرها
اخر عهدي به كان قبل سنوات حيث كنت اتصل باحد زملائنا في الجيش تلك الايام و كنت اساله على -جماعتنا شاخبارهم-
فقال لي لقد التقيت سعد داود في كراج النهضة وكان متوجها الى اهله في ديالى وهو تسرح من الجيش ويعمل في مزرعة ابيه الكبيرة
كل ما اتمناه ان يكون اخي وصديقي العزيز -ابو رنا- بكل خير وان اسمع اخباره مجددا..ودعائي له ولعائلته بالصحة والسلامة الدائمة
1058 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع