د.محمد عياش الكبيسي
شاب أوروبي مسلم جاء ليطلب العلم الشرعي في جامعاتنا العربية، كان ذلك في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، وقد عرفته جادا وحريصا ومتميزا بين أقرانه، فنال قدرا جيدا من العلوم الشرعية، وأتقن اللغة العربية كذلك، وقد كان صديقا وأخا ودودا ووفيا لكل أساتذته وزملائه.
بعد تخرجه بسنوات أخبرني أنه كلّف بالعمل في مؤسسة الإفتاء، حتى أصبح نائب المفتي العام، إضافة إلى مهام دعوية وتربوية أخرى بينها التدريس والإمامة والخطابة في بلد أوروبي تزيد نسبة المسلمين فيه على %25 من مجموع السكان، وربما يصلون إلى الثلث، وتصل مساجدهم قرابة الألف مسجد، وقد استضافته مؤخرا دولة قطر ضمن مؤتمر حوار الأديان، وكانت فرصة طيبة للتحاور معه خارج الجلسات الرسمية للمؤتمر، وكان مما فهمته منه أنه مع توفيق الله له في مجالات كثيرة من عمله يعاني من طريقة تفكير بعض الشباب ونظرتهم للمجتمع الإنساني الواسع، وتصوراتهم المضطربة للإيمان والكفر والحق والباطل والسنّة والبدعة والولاء والبراء.. إلخ
قبل أيام اتصل ليستشيرني في إشكال حصل بينه وبين الشباب، خاصة المهاجرين العرب، والذين يكنّ لهم أهل البلاد من المسلمين كل الاحترام، بدأت المشكلة حينما تلقى دعوة رسمية للمشاركة في احتفال تشترك فيه كل الطوائف الدينية الموجودة في البلاد لتأكيد وحدة المجتمع وترسيخ أواصر التواصل الاجتماعي بين مكوناته وشرائحه المختلفة، ومن المقرر في المؤتمر توزيع الأوسمة التقديرية لممثلي الطوائف.
قال: لقد سارعت كل الطوائف بإرسال الردود الإيجابية وبقينا نحن مترددين، مع قناعتنا الراسخة والأكيدة بأهمية المشاركة وضرورتها، وذلك لأن بعض (الإخوة) يعدّون مثل هذه المشاركة نوعا من الخروج على الثوابت وتمييعا لعقيدة (الولاء والبراء) وقد يجرّ هذا إلى شغب وتشويش على المصلين في عدد من المساجد.
وأضاف أن هؤلاء الإخوة لا يقدّرون أننا لسنا مثلهم، فنحن أهل البلاد الأصليون، نحن لسنا مهاجرين، وهذه الأرض أرضنا، ونحن نعيش مع شركائنا منذ مئات السنين، أما هؤلاء الإخوة فكل واحد منهم له مرجعيته في بلاده، وفي الغالب هم يستفتون شيوخهم ولا يثقون بفتاوانا، وشيوخهم لا يعرفون عن واقعنا إلا القليل، وهم أيضا ليسوا متفقين فيما بينهم، حتى إننا حينما نستقبل ضيفا من البلاد العربية والإسلامية نراهم ينقسمون، فمنهم من يؤيد ومنهم من يعارض، بحسب العنوان والتوجه الفرعي لهذه المدرسة أو تلك، بمعنى أن هؤلاء الشباب كأنهم حريصون كل الحرص على استنساخ مشاكلهم في بلادهم العربية ونقلها تماما إلى بلادنا! ثم كل طرف يواليك أو يعاديك بحسب قربك أو بعدك عن توجهه وتوجه شيخه أو جماعته.
ذكّرني أخي المفتي بموقف آخر قد يلخّص المشكلة ويقرّبها للذهن، حيث كنت في زيارة لمركز إسلامي كبير في دولة أوروبية أخرى، فاستقبلنا رئيس المركز وكان رجلا ودودا ولطيفا، وجلسنا معه حتى نودي لصلاة العصر، فقمنا للصلاة، لكن الرجل لم يقم معنا! ظننت أنه انشغل بتجديد الوضوء أو شيء من هذا القبيل، وإذا بأحد الإخوة الفضلاء في المركز يقول لي: إن رئيس المركز لا يصلي! كيف؟ قال: نعم، لأنه كلما جاء رئيس للمركز جرى تصنيفه من قبل المصلين، (سلفي، إخواني، صوفي، تبليغي، تركي، سعودي، مصري.. إلخ) وهكذا يبدأ المصلون أنفسهم بالانقسام، وحينما تحدث مشكلة أو شجار حول صيغة الأذان أو الأذكار بعد الصلوات مثلا أو خطبة الجمعة.. إلخ فكل تصرّف من رئيس المركز يحسب على جماعته أيضا، أما هذا الرجل فهو إداري بحت وملتزم بالنظام والقانون، ولديه صلاحياته في استدعاء رجال الأمن في حالة حصول شجار! دون أن تلقى جريرته هذه على جماعة أو فئة ما من المصلين! وبهذا ضمنا استقرار المركز وحافظنا على الهدوء والانضباط داخل المسجد!
أذكر أيضا أنني في خطبة الجمعة وفي أكبر مسجد في السويد تناولت رسالة الإسلام الكلية (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وتطرقت إلى ضرورة التعامل بالحسنى مع أهل البلاد، خاصة أنهم قدّموا لكم الرعاية والأمن والخدمة مما لا تجدونه في بلادكم، والله يقول: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)، فسمعت أحد الشباب يحتج ويقول: (لا والله هؤلاء السويديون الكفار يجب أن ندهسهم بالأحذية)! وربما نسي هذا الشاب أنه عند نهاية الشهر سينتظر المساعدات الإنسانية التي يقدمها له هؤلاء الكفار، ومن المفارقات هنا أن امرأة سويدية (كافرة) كانت تسمع ترجمة الخطبة في قاعة مجاورة للمسجد، جاءت إلى رئيس المركز لتعلن إسلامها!
صحيح أن هذه المشكلة لا يمكن تعميمها، فغالب المصلين متعاونون فيما بينهم، ويحترمون علماءهم ودعاتهم، لكن ظاهرة (الشغب) هذه لا تحتاج إلى عدد كبير! أما الاصطفافات الفئوية فهي موجودة بقوة وتشكل عائقا كبيرا في طريق الدعوة والعمل الإسلامي هناك.
إن هؤلاء (المشاغبين) جاؤوا في الغالب من بلاد مقهورة ولا يستطيع أحدهم أن يفتح فمه لا في المسجد ولا غير المسجد، ولكنه حينما يجد متنفسا من الحرية فإن رغبته المكبوتة في الاحتجاج والتعبير عن ذاته تظهر على شكل هذه الانفعالات المضطربة وغير المدروسة، وهو هنا ليس صادقا مع نفسه، حيث إنه يرى المنكرات والكبائر في كل مكان من الطائرة أو الباخرة التي استقلها أثناء هجرته، حتى الفندق والشارع والسوق والمؤسسات التي يراجعها أو يتعامل معها، فلا يظهر أية حركة أو كلمة تعبّر عن مخزونه من (الغيرة) على (محارم الله)! إن هذه الغيرة لا تنفجر إلا في مكان واحد فقط هو المسجد! ما عدا ذلك الشاب المسكين، والذي أراد أن يمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على طريقته ففجّر نفسه في شارع رئيس من شوارع استوكهولم! وإلى الآن يتساءل السويديون عن أسباب (انتحاره) بهذه الطريقة دون أن يؤذي أحدا أو يوصل رسالة!
إن هؤلاء الشباب هم ضحايا لشبكة من الإخفاقات التي تلاحقنا في كل مجالات حياتنا، بدءا من الأسرة حتى المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام ومؤسسات الدولة المختلفة.
أما السادة العلماء والدعاة والخطباء فإنهم مطالبون اليوم بإعادة النظر في الكم الهائل من الخطابات التعبوية والمواعظ العاطفية التي لم ترق إلى مستوى المعضلة التي يعاني منها الشباب، والإجابة عن الأسئلة الحرجة التي تدور في أذهانهم ويتناقلونها بينهم في مجالسهم الخاصّة أو عبر المعرفات الرمزية على مواقع التواصل الاجتماعي.
إن ما يتلقاه شبابنا في خطب الجمعة ومواعظ رمضان والمناسبات الأخرى والبرامج الإسلامية على الفضائيات ليس بالقليل، لكنه يفتقر إلى التحليل العلمي للمشكلة، والشجاعة في التشخيص والمعالجة.
إنه لمن المؤسف حقا -رغم كل الإمكانات المتاحة- أننا لم نستطع أن نؤسس لمحاضن تربوية قادرة على حماية الشباب وتحصينهم من أفكار (الشغب) والممارسات العبثية والفوضوية، خاصة أن أغلب هؤلاء الشباب كانوا قد سلّمونا عقولهم وقلوبهم في مساجدنا وتلقوا منا دروس التديّن الأولى، فما الذي يدعوهم إلى كل هذا الانقلاب والتمرد والعبث بمستقبلهم وسمعة دينهم وبلادهم وأمتهم؟
700 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع