دلع المفتي
لا أدري من الذي أتى ليبرئ جراح الآخر.. أنا أم هي؟
أرسلتها الأقدار لي: طفلة سورية على رصيف بيروتي، اقتربت مني بطريقة فطرية كأن ظروفنا جذبتنا الى بعض، هي الخارجة من وجع الحرب وانا الخارجة من وجع المرض. التقت جراحنا وأوجاعنا.
كانت تريد أن أمنحها البهجة وكنت أنتظر منها الأمل.
اقتربت من طاولتنا، حاول النادل ان يمنعها، شيء فيها كان يناديني وكأنها تحمل دوائي، طلبت منه أن يسمح لها.. اقتربت، رمت عليّ تلك العبارات المستهلكة. قاطعتها: ماذا تبيعين؟ ردت: «محارم وعلك».
قلت؛ لكني لا أرى محارم ولا علكاً.
قالت: «ابن حلال اشتراهم مني كلهم».
قلت: والآن ماذا ستبيعينني؟
همت بالمغادرة قائلة: سأذهب لشراء المزيد وأعود لأبيعها لك.
بادرتها: لا داعي.. أريد منك شيئا آخر.. سأشتري منك قبلاتك.
فجأة.. أنير وجهها بابتسامة رائعة، ثم أحاطت وجهي بذراعيها الصغيرتين وراحت تزرع وجهي قبلات حلوة بريئة عذبة.
ربما يعتقد البعض ان احتياج الناس للآخرين في لحظات الحزن فقط، لكن أقصى احتياج الناس للمشاركة هو في لحظات الفرح. فالفرح كالحزن يحب القسمة على اثنين ولا يعيش منفردا. مشاركة الآخرين لحظة فرح ترسخها وتمنحها ثباتا في الذاكرة، وتؤججها.
وهكذا.. وفي لحظة فرح استثنائية خارجة من الزمن، ولدت علاقة إنسانية طارئة بين روحين متعبتين، الصدفة وحدها جمعتنا، كما كل الصدف الجميلة، فردت الصغيرة، ذات الابتسامة الآسرة، ذراعيها ولفتهما حول عنقي.. فذابت في حضني. وضعت جرحها فوق جرحي، فانسجمت رغباتنا في الحياة واختلطت دموعنا وأوجاعنا واجتمع الحنان بالعطاء وداوى بعضنا بعضا، فوجدت في عناقها أملا ووجدت في حضني وطنا.
هكذا تفعل الأمهات.. وبأكسير العلاج نفسه يغذي الابناء امهاتهم.
انه سر بقاء البشرية.
انه الدفق الانساني الداخلي وغير المرئي، ذلك الذي يزيل أوجاع البشر ويشفي جراحهم ويطمس أوجاعهم.
565 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع