بقلم ليث رؤف حسن
الرحلة الأولى للدكتوراة
مضت الأعوام الأربعة السابقة بسرعة البرق وها هو العام الخامس يوشك على الإنتهاء وكنت حينها غاطسا إلى أذني في حب لم ولن أتصورأن ينتهي, أمامي التحضير لرسالة البحث العلمي وأخذ الشهادة, ستة شهور, لم أشعر كيف إنتهت بين أوراق وخرائط وبحث عن معلومات في أرشيف الدولة وووكثير من الهموم قبل الرحيل.
وجاء اليوم وجدت نفسي مرتديا بدلتي السوداء التي أحتفظت بها للإحتفالات الرسمية والإمتحانات (وكنت أسميها وما زلت عدَّة الشغل).
علقت الرسومات على الحائط وها أنذا أقف أمام لجنة الإمتحان في الجامعة 6-6-1967. مرَّ يوم 5 حزيران 1967 , في الليلة السابقة لمقابلة لجنة الإمتحان, وكانت مشحونة بالأحداث والصخب المتوالي من الراديو والأنباء تتوالى كالقصف والرعد من أراضي الوطن العربي. التشويش الإذاعي والأخبار المزعجة وصوت المذيع من راديو صوت العرب يقرقع في أذاننا . نسمع حديثاً عن إنتصارات عربية مصرية لم نكن نحلم بها أو نصدقها للتهويل الإعلامي المصري بقيادة المهرج أحمد سعيد. كل هذا المنغصات تضاف لتحضير الرسومات والأوراق والكلمات التي سوف نقولها والقلق والترقب ومقابلة لجنة إمتحان الدراسة جعلت كل واحد من المتقدمين للإمتحان يصاب أشبه بالمغص المعوي والإسهال!!
في 6 حزيران1967 يوم عيد ميلادي الثالث والعشرين نودي علينا لدخول القاعة بعد أن أخذت لجنة الإمتحان أماكنها في القاعة. بعدنا دخل الطلبة المتفرجون وكنا أربعة طلبة نقدِّم بحوث الدراسة في ذلك اليوم.
دخلنا القاعة وعرَّفنا المشرفون على الإمتحان بأعضاء اللجنة, أربعة من أساتذة الجامعة ومعهم أستاذان من خارج الجامعة وثالثهم وزير في ولاية موسكو كان رئيس اللجنة الإمتحانية.
جاء دوري ثانيا أو ثالثا وبدأت الحديث وهدرت الكلمات وإنتهت العشرين دقيقة بسرعة البرق وشعرت بأنني مسيطر على الوضع وأطير في سماء النجاح لبلاغتي بالتحدث باللغة الروسية وحسن تلفظي وإتقاني للغة الروسية بطلاقة, بالإضافة لقوة البحث الذي قدمته .
كنت أشعر من وجوه الأساتذة الغرباء بقوة حججي وعرضي و جاء دور الأسئلة وقرَّب على ألإنتهاء وهنا سأل رئيس اللجنة سؤالاً فنيا تحذلقت في الرد عليه في الوقت الذي لم أكن مضطراً للجواب !!! خرجت من القاعة وخرج بعدي الأستاذ العلامة يوري فاسيليفيتش فلاسوف و قد إحمرَّ وجهه وأصبح بلون الطماطم . نظر إلي مباشرة إلى عيني حتى كأني شعرت بحرقتها ثم أردف بعصبية إتبعني!!
وهكذا فعلت ودلفت معه إلى غرفته وإذا به يلتفت إلي ويصرخ بي, متى أصبحت غبيا لتناظر وزيراً في الدولة؟؟ عرفت عند ذلك بأن الحصول على النجاح والشهادة على المحك الآن. خرج فجأة وقبل أن يعرف جوابي ودخل القاعة لمداولة الأساتذة. مضت دقائق ودقائق طويلة كنت أحسبها كالدهر. كنا ننتظر خارج القاعة للدخول وسماع النتيجة. فُتِحَت الباب وأذنوا لنا بالدخول فدخلت مطأطأ الرأس لسماع الحكم على رسالتي.
ليث رؤف حسن ناجح بدرجة جيد جداً!! وكنت أصغر خريج في دفعتي لذلك العام الدراسي.
كنت أتوقع الدرجة النهائية بإمتياز ولكن هذا الإمتياز طار لجرأتي في تحدي سؤال الوزير. خرجت فرحا وحزينا في آن واحد ولحق بي البروفيسور العظيم أرتيم إيفانوفيتش آفاكوف, عالم وأكاديمي كبير والأستاذ الذي علمني كل فنون العلم والإدارة وكل شئ يَمُتُّ للهندسة المدنية منذ أن بدأت المحاضرة الأولى وإلى ألإمتحان النهائي. قال لي بصوته العميق ووقاره ونظارته ترقص جيئة وذهابا وهي مشبوكة على أنفه المُزْرَقّ, إتبعني!!!
تبعته بينما أخذت الأفكار تدور في رأسي, تُرى ما الذي يدور بخلده بعد أن أنهيت الدراسة وأريد أن أحتفل وأرتاح!! لحقته بخطوات متثاقلة بعد البهدلة التي أهداني إياها فلاسوف إلى أن دلف إلى قسم مواد البناء الذي يديره ودخل غرفته وجلس خلف مكتبه ولأول مرة خلال أربع سنوات دعاني للجلوس وعندما جلست بخشوع أمام أحد أعظم علماء البناء في العالم, قال لي أريدك أن تفكر بتكملة الدراسة تحت إشرافي للحصول على الدكتوراة. أرجوك أن تأخذ وقتك في الإجابة وعندك يومين أو ثلاثة تجيب فيها على عرضي.
جاءت هذه الكلمات كمن صَبَّ علي كلاما من نار وثلج وتيزاب ومواد مشعة في آن واحد. سأساعدك في البقاء في الجامعة بزمالة دراسية تحت إشرافي تنهي فيها الدكتوراة وتصبح مرشح علوم خلال كم سنة!!!
نكست رأسي وصارت الأفكار تقدح كالشرار في مخي المُعَطَّل أصلا, بسبب الحب والأحلام بالزواج من حبيبة القلب ولقاء الأهل بعد غيبة طويلة وإقنعهم بقبول فكرة الزواج والنجاح فيها والبحث عن وظيفة والعمل وووو ثم إنتبهت بأن علي أن أجيب البروفيسور على سؤاله ولو بتعليق وشكر بسيطين!!!
لكني تحذلقت كالعادة وقلت له, بأنني أفضل ألعمل مدة لا تقل عن عامين قبل الدخول في دوامة الدراسة مرة أخرى. فقال لي قرار جيد ولكنك ستندم ولن تستطيع بعدها الرجوع. قلت في نفسي للمرة الأولى, طز بالدكتوراة أمامي حياة أحياها قبل شهادة الدكتوراة. وكانت الأولى في حياتي.
غادرت الجامعة في رحلة الحياة الشاقة, المرة والحلوة. أخذت تذاكر الطائرة مع فاطمتي عبر القاهرة والتي أصرت والدتي بموافاتنا إلى هناك على أمل غسل شهادتي المصنوعة في موسكو الشيوعية الحمراء بغسيل من الصابون القومي العربي في أمِّ الدنيا القاهرة. وهكذا بدأت رحلتي الثانية مجرجرا رغما عني برغبة الوالدين لأكمل الدكتوراة هناك وأغسل الحمرة عن شهادتي!!!
ودعت حبيبتي إلى مطار القاهرة بعد أن قضت معنا يومان, على أمل أن تتعارف المرأتان اللتان ستكونان محور حياتي القادمة وطيلة العمر, رمقت والدتي الحبيبة فاطمة بنظرات كلها شرر مملوءة خوفا وحذر على وليدها الذي تكاد هذه الغريبة أن تأخذه للأبد وكان قلبي تعتصره لوعة الحب وتتجاذبه الأماني بالزواج من طرف والدخول إلى الجامعة ودراسة الدكتوراة وتلقي صنوف العذاب على يد أساتذة لا أعلم عنهم شيئا من طرف آخر. وهكذا كانت بداية الطز الثانية.
565 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع