عندما تغيب ذاكرتنا!

                                       

                           زينب حفني

تناقلت صفحات التواصل حكاية مؤثرة لا أعرف إن كانت صحيحة أو من نسيج خيال أحدهم. تفاصيلها تبيّن أن الروائي الكولومبي الذائع الصيت (غابريل غارسيا ماركيز) والذي رحل مؤخراً عن عالمنا، وكان قد أصيب بمرض الزهايمر في سنواته الأخيرة، بأن أحد أصدقائه المقربين زاره للاطمئنان عليه لكنّه لم يتعرّف عليه قائلاً له: «أنا لا أعرفك، لكنني بالتأكيد أشعر بأنني أحبّك».



منذ صغري أعتدتُ سماع أمي عندما يصلها خبر مفجع عن أحدهم، أن تُردد عبارة «الله يصبّر أهله». ثم تتنهّد متابعة.. «النسيان نعمة». كان عقلي الصغير يحتار في فهم عبارتها، إلى أن كبرت وأدركتُ بأن أقسى موقف يُمكن أن يتعرّض له الانسان لحظة فقدان عزيز لديه. فهل النسيان نعمة بالفعل، أم أنه قد يُصبح نقمة حين تضعف ذاكرتنا وتتلاشى ملامح من نحب عن صفحة أذهاننا؟ هل الوقوع في بئر النسيان أمر محتوم سنواجهه جميعاً، حين تُقفل الأبواب وتُغلق النوافذ على أجمل أيامنا وأحلى سنين عمرنا التي قضيناها في صحبة من أحببناهم وأحبونا؟

عندي صديقة أُصيب والدها بالزهايمر، تدخل عليه وتحيه فينظر إليها بعينين فارغتين. تبكي قائلة لي: «لا أُصدّق أن أبي الذي كان بالأمس ملء السمع والبصر، يعيش اليوم وحيداً وسط دنيا يُغلّفها الصمت، وأنه لم يعد يعرفنا بعد أن داهمه المرض وغمر الماء ذاكرته التي كانت مكدّسة بصورنا! مسترسلة بتأثّر.. «كلما رأيته أشعر بالألم، وأتذكّر صوته الجهوري الذي كان يُجلجل في أرجاء البيت، وصوت ضحكاته التي كانت تخترق سمعي وهو يُلاعبني ويحملني بين ذراعيه».

كلنا نحبُّ ذاكرتنا ونتباهى بقوتها، لكن أحياناً حين نتلقّى طعنة من صديق، أو ضربة من حبيب، نتمنى لو كنّا نملك زرّاً سحرياً نضغط عليه كي ننسى الإساءات التي تجرعناها، أو نستطيع محو أسماء من كنّا ذات يوم ألعوبة بين يديهم؟

جميل أن يكون داخل عقولنا وادٍ عميق نُدحرج فيه تلك المواقف المؤلمة كي لا تعود أبداً! لكن كما أن النسيان نعمة كذلك الذاكرة القوية لها ميزة هي الأخرى. كيف سنتعلّم من تجارب الماضي الأليمة إذا تعودنا أن ننسى كل ما يجري لنا؟ كيف يُمكننا أن نُميّز معادن الناس إذا مسحنا زلاّت من أساؤوا إلينا ولم نستفد من تجاربنا؟ كيف يمكننا أن نتوخّى الحذر من المخادعين والكاذبين إذا سمحنا لكل من هبَّ ودب اقتحام أسوار حياتنا، بعد أن غدت سجلات أخطائهم ناصعة البياض داخل بؤرة ذاكرتنا المريضة؟

شاهدتُ منذ فترة تحقيقاً مصوراً عن وفاء الحيوانات لأصحابها، وقد أظهر الشريط ردّة فعل أسد عند رؤيته لسيدة كانت قد ربّته عندما كان شبلاً. الأسد رفع قائمتيه الأماميتين من خلف قضبانه الحديديّة حين رآها ليحضنها. هذا يؤكد بأن الذاكرة الحيّة هي التي تجعل الحيوانات حتّى وإن كانت مفترسة، شرسة الطباع، تُعبّر عن امتنانها لمن رعاها وعلّمها معاني الحب.

لا أعرف لماذا دوماً أربط بين شعرتي الحب والنسيان! ربما لأن من نحب يظلوا في دائرة اهتمامنا طوال الوقت، نُحيطهم ويُحيطونا بنظرات الحب، لذا أعتقد بأن غاية كل إنسان منّا أن يموت وسط أهله ومحبيه. أن يقول لهم وداعاً وشعاع الامتنان ينبثق من عينيه. فليس هناك أصعب من أن يرحل إمرء عن الدنيا دون أن يلوح بيده لمن أحبوه وأحبهم، ويقول شكراً لكل من أسعدوه بذاكرة مضيئة لا ترقد في الظلام.

النسيان قد يكون أحياناً نعمة، ولكن بالتأكيد ذاكرتنا هي التي تجعلنا نعيش في جنّة من نحب وإن أضحوا يوماً من الأطلال.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

694 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع