د.عبدالرزاق محمد جعفر
غادرت وطني العراق, في تموز( جولاي) ,1992, عند نهاية حرب الخليج الثانية, فقد كنت وعائلتي في حالة مزرية بســبب الحصار الجائر آنذاك, و خاصـة بعد الحرب التي شــنتها قوات التحالف بقيادة أمريكا لأخراج القوات العراقية التي غزت الكويت, وهاجرت عن طريق الأردن الى طرابلس عاصمة ليبيا, ولا اريد الخوض في شــرح معاناة كافة شــرائح الشــعب العراقي , بما فيهم البعثيون, من هول المحن التي واجهتهم.
وعلى أية حال, فان الموقف الجديد بعد ســقوط بغداد , هو الذي دفعني لتدوين أهم الخواطر التي عشــتها منذ ســقوط الملكية في ســنة 1958, أضـافة الى المعلومات التي انتقيتها من اهم المصادرالعربية و الأنكليزية لتكون أخيرا هذا الكتيب, وترجمته للغة الأنكليزية.
عشت في الغربة, في أقطار مختلفة, مثل ليبيا وتونـس والأردن وماليزيا, لأكثر من عشـرين عاما, كأســتاذ جامعي في جامعاتها تارة وســوا ح تارة أخرى!
وقد تلقيت برحابة صـدر اســألة مزعجة عندما كنت أتحدث مع اي انسـان في تلك الدول, وما ان يشــــعر بلهجتي الغريبة عنه... حتى يبادرني على الفور بســؤال,..( أشـكون انت؟ ) , اي من أين حضـرتك؟ ..فأجيب السـائل برحابة صـدر: عراقي !..
كان الأمر اعتيادي بالنسـبة لي , الا انه صـار مزعجا لدرجة لا تطاق بعد ان غيمت ســحب الحـرب,..ثم, احتلال يغداد, حيث يرمي الســائل فورا ســؤالا آخرًا:.....( ومنين في العراق؟ ), من الجنوب لومن الشـمال؟!!
أفهم فوراً قصـد الســائل, وأجيبه بكل صــراحة, وينتهي الأمر, الا ان البعض منهم, يتمادى في سؤاله,.. ثم يسـأل : .... ( وهل انت شــيعي أم ســني؟ !! ).
في البداية كنت اجيب الســائل بالحقيقة محاولا افهامه ان لا فرق بين السـنه والشـيعه في العراق وان الجميع اخوة منذ آلاف السـنين وان ما اسـتجد من خلاف بينهما, ســببه تجار السـياسـة, لزرع الفتنة بين ابناء الشـعب الواحد , وهكذا وكما يقال في المثل اللبناني : ( ســيرة وانفتحت!!).
يتفهم بعض الســائلين شـرحي ويؤمن به, الا ان البعض الآخر يستهجن كلامي,... ومن ثم يطرح أســـئلة اخرى سـمعها,.. او قل اشـاعات مغرضـة عن الشـيعه اوعن الحروب التي تفجرت بين العراق وجيرانه, ومن هو صـدام؟....وما الأعمال التي اقترفها اثناء حكمه, وما ان انتهي من التحقيق, الا وانا منهك, ولذا اضطررت ان اسـتخدم الكذب الأبيض, وادعي انني مواطن احد الأقطار العربية, وفي احد المرات ادعيت انني هندي! واســغرب الســائل : .. وكيف تتكلم العربية؟ .. فقلت له, ولم..لا.., الأرض بتتكلم عربي!! وعلى أية حال, فأن عودة الروح للطائفية بعد ســقوط بغداد, لها علاقة مباشـرة مع بعض السـاسـة الذين فقدوا مراكزهم, ولذا لم يشـاركوا في العملية السـياسـسية, واضافة الى ذلك زجوا بالمقاومين العراقيين وكذلك المتطوعين الأجانب من مختلف الدول الأسـلامية و العربية المحيطة او البعيدة عن العراق لمحاربة القوات الأمريكية و العراقية الفتية من الشـرطة والجيـش التي تضم افراداً من كلا الطائفتين, لأجل زعزة الأســتقرار فيه بصـورة مسـتمرة, وقد وصل الأمر الى حالة اللا حرب واللا سـلم, وبات مطلب كل عراقي في الداخل
والخارج, .. الأمن اولا وقبل كل شــيئ !!
ولذا, فأن بعض ألأفراد الموالين للنظام السـابق من ســــنة وشــــيعة, ســاندوا المعارَضـة المسـلحة, ولم يشـاركوا, او عارضوا العملية الســياســة لأنتخاب الجمعية الوطنية اوالتصويت على الدســتور او انتخاب مجلــس النواب اوالمشــاركه في وزارة الوحدة الوطنية او الوفاق الوطني.
جميع ما ذكرته اعلاه, دفعني الى كتابة هذه الخوالج الأنســانية لأيقاف ظاهرة الطائفية, ولبيان الحقائق التي أججت الفتنة وجعلت الصــراع بين الســنة والشــيعة تطفوا على الســطح ثانية كسـبب ظاهري غطى على الأسـباب الحقيقية لأسـتقرار الأمن في العراق.
انني ارجو من كل قارئ ان يعلم بأن القتل العشــوائي بعد سـقوط بغداد بين افراد الشــعب , ليـس مرده الطائفية بحد ذاتها, بل المنافســة لكســب اكبر قدر من الســلطة الجديدة بعد انهيار نظام صــدام, وادعاء فرق متعددة من الموالين لذلك النظام او المعادين للأحتلال, بأحقيتهم بالأرث.
وكما نوهت في البداية, ان حدة الطائفية كانت بدور الســبات في الخمســينات, ولذا ارتفعت نسـبة الزواج بين افراد الطائفتين في الجامعات والكليات والمعاهد من كلا الطائفتين, واضافة الى ذلك, فأن دخول المرأة بشـكل مكثف الى الحياة العملية كموظفة في كافة التخصصات في مختلف الوزرات, زاد من التعارف بين الجنسـين مما ادى الى توثيق الروابط العاطفية او قل الحب الذي دحر التعصب الأعمى لمفاهيم قديمة دســت في كتب صـفراء قام بتأليفها اســاتذة جامعات مرموقين من الٍـسـنة والشــيعة, زجوا فيها قصـصـا وهمية لتشــوية معتقدات بعضـهما البعض الآخر داخل الجامعة نفسـها, حيث ان كل جامعة في العراق ما هي الا مجتمع عراقي مصـغر يحتوي على نسـب مختلفة من السـنة والشـيعة بشكل عشــوائي او قل بنســب غير مخطط لها مســبقا, وخير مثال على ذلك ما دون في بعض كتب الســنة من ان للشــيعة قرآن خاص بهم ! ..\ وان جبريل (عليه السـلام) ارسـله الله تعالى الى علي بن ابي طالب (كرم الله وجه), الا ان الـوحي ظـل طريقه وتوجه الى محمد بن عبدالله (صـلى الله عليه وســلم)!!
وعلى صــعيد آخر, فأن هناك من يدعي بوجود بعض الكتب الدينية لدى الشــيعه مفعمة بأفتراءات حول الخلفاء الراشــدون من اصــحاب الرسول محمد (ص), مثل ابو بكر وعمر وعثمان عليهم السلام جميعا.
ان دراســة اومناقشــة اي موضــوع له صــلة بالمهاترات الطائفية في العراق, هو امر في غاية الصـعوبة, لأنه غيرموجود بين البسـطاء من الشـعب, بل بين الطبقات المثقفه, مثل اسـاتذة الجامعات والكليات والمعاهد وطلبتها ة والأسـؤ من كل هذا, هو تشــبث كل طائفة برأيها وتسـفيه رأي الطائفة الأخرى, او قل زج عقائد بعيدة كل البعد عما تؤمن به, وتقويلها بما لانؤمن به !!
الخفي هو الأقتصاد وطلب السـَـند القبلي من الطائفة, اما عامة الناس فليس لديهم اهتمام واضح بهذه المشـكلة ولم تؤثر على علائقهم العامة, مثل البيع والشراء والتزاوج بين ابنائهم وخاصـة في المدن التي لا تتميز بغالبية احدى الطائفتين .
ان التمييز الطائفي في الماضي كان اكثر وضوحا, ومن النادردخول الســني الى مســاجد للشــيعة للصــلاة
فيها, والعكــس صـحيح , ولم يكن ذلك الأمر خاضـع لقانون او اوامر من القييمين عليها, بل ناتج عن عادات موروثة, اضــافة الى عدم ادانة تلك الظاهرة من قبل المســؤلين , وعلى أية حال, ومنذ العهد الملكي ســـنة 1921, فان الطبقة المثقفة من الشـعب العراقي من كلا الطائفتين كانت تظهر سـعادتها عندما يدخل مسـاجدها مسـلم من الطائفة الثانية مؤديا الصـلاة فيها او المشــاركة في المناســبات المفرحة اوالحزينة.
دســت في كتب الشــيعة والســنة تهدف لأشــعال الفتنة الطائفية,... غير آبهة لكل الأصــوات الخيرة من كلا الطئفتين.
ولقد لمســت شــخصــيا مثل تلك الحالة, في ســبتمبر 1972 في قاهرة المعتز , عاصــمة جمهورية مصــر العربية, حيث كنت عضـوا في مؤتمر علمي ضــمن الوفد الليبي لجامعة الفاتح في طرابلــس, مع دكتور ليبي وعضـوية اثنان من الدكاترة المصـريين.
وبعد انتهاء جلســة المؤتمر, تلقى الوفد الليبي, دعوة لزيارة جامع الأزهرالشــهير في العالم الأســلامي, المشــيد في العهد الفاطمي ( الشــيعي), ســنة 979 ميلادية.
رافقنا طالب ماجســتير, مصـري مكلف من ادارة جامعة الأزهر, ليشـرح لنا معالم وتاريخ الجامع منذ نشــأته والى يومنا هذا, وفي ســياق الشــرح وردت كلمة "الشــيعه", وهنا اسـتـوقف احد الزملاء الضرفاء المرشــد وقال له : عفوا مين دول الشـيعه؟ ثم نظر لي بأبتســامة خفيفة, وفهمت فورا قصـده من الســؤال!
اجاب المرشــد على الفور وبحماس شـديد: ( دول ناس ملحدين, بيعتقدوا ان ســيدنا جبريل (ع), ارســله الله تعالى الى علي بن ابي طالب (كرم الله وجهه), الا انه اخطأ الطريق وتوجه الى محمد (ص ) ,ومن ثم عاد الى حديثه عن الشيعة وراح يـسرد كل ما حفظه من مســاوء زجت في الكتب الصـفراء المغرضـة.
وبعد ان اوشـكنا على نهاية تجولنا توقف عن الكلام وطلب منا طرح اي سـؤال نرغبه, وعندئذ اقتربت منه وعلى وجهي ابتسـامة ممزوجة بالألم وقلت له :
(انك طالب علم وعلى وشـك نيل درجة الماجســتير, وعقبال الدكتوراه), ....ثم ابتســم واجابني بوابل من كلمات الشــكر والأمتنان, ..الا انني تريثت لفترة قصـيرة , ثم راح الزملاء اعضاء الوفد يتطلعون بوجهي الذي اشـرقت فيه علامات الغضـب, فتعوذت من الشــيطان الرجيم, وبدأت الحديث معه بهدوء لم اعهده بنفســي من قبل في مثل هذه المواقف التي يراد منها تمزيق المســلمين, واثارة البغضاء والحقد والنعرات الطائفية بينهم.
وجهت كلامي الى مرشــدنا وزملائي من حولي كلهم آذان صـاغية وشـوق لردي على هذا الأفتراء البعيد عن المنطق, وقلت : من المفروض ان يتوخى طالب اي علم من تصـديق اي نتيجة علميه ما لم يتثبت تماماً من صـحتها, ويعضـدها اهل الأختصـاص,..... اذن كيف تســول لك نفسـك تصـديق هذه الرواية المنافية للمنطق والأيمان بالله عز وجل؟ فهل يعقل ان جبريل عليه الســلام ســهى وخالف امر ربه ولم ينفذ ارادته, وتوجه الى محمد(ص),.... واذا افترضـنا جدلا صـحة ذلك,... ألم يكن لخالق الكون والقادر على كل شـيئ ان يمنع الوحي ويطلب منه تغيير خط ســيره عند وقوع الســهو الذي تدعيه !!؟
والأكثر من ذلك والذي يدحض هذا الأفتراء أن عليا في ذلك العهد كان في الســابعة من عمره, ويعيــش برعاية بن عمه النبي محمد (ص), ويعيــش معه بداره منذ وفاة والده.
في الحقيقة صــغى الجميع لردي, وكان المرشـد في ذهول لما ســمعه من حقائق مقنعة, وفي الحال مد يده لمصـافحني واعتذاره لســوء فهمه, و وعدني ان يتحرى عن اي معلومة في المســتقبل, ولا يؤمن بها ان لم تكن موثقة من علماء اجلاء مرموقين معترف بهم ولهم مؤلفات معتمدة في الجامعات العالمية.
ودعنا ذلك المرشـد وشـكرنا جهوده, وخرجنا في نزهة بالقرب من المنطقة, فقد قدم لنا احد المصـريين من اعضاء الوفد دعوة لتناول طعام الغذاء( فته), في احد المطاعم الشــهيرة قرب مســجد ســيدنا الحســـين(ع).
اعود لمزاعم ادعت بوجود ( قرآن خاص بالشــيعة),.. واســـتطيع تفنيد ذلك وعدم وجود اي نوع آخر للقرآن فقد نشــات واختلطت بالعديد من الأصـدقاء اولاد علماء اجلاء من كلا الطائفتين ولم يعرض علي اي شـخص منهم نسـخة من ذلك القرآن المزعوم, كما انني دخلت العديد من المكتبات العالمية في انكلترى وروسـيا وامريكا وكندا ولم اعثر على اي قرآن غير القرآن المنزل على نبينا محمد صــلى الله عليه وســلم.
اضـافة الى ما ذكرته اعلاه, فأن التعصــب الطائفي يعمى العيون والقلوب, او قل يدفع الأنســان نحو طريق مظلم يفقده انســانيته وســعادته, كما ان هذه الظاهرة اســتغلها تجار الســياسـة كورقة للعواء وبث ســـموم التفرقة بين المسـلمين عند توفرالظروف الملائمة, وسـوف يتوقفون بعض الوقت عندما يواجهون ظروفاً غير ملائمة, وانها سـتزول وتتحطم
ان واجهت قادة بقلوب نظيفة وخالية من الكراهية والحقد والضغينة.
في الواقع, سـوف لن يجد الزائر الغريب اي مظهر من مظاهر الطائفية في المقاهي او في الأسـواق التجارية الشــعبية عند كلا الطائفتين, و يمكنني التأكيد على اختفاء اي صـراع اوشـجار بين اتباع الطائفتين في المدن التي تضـم نسـبا مختلفة من اتباع الطائفتين. وعلى اية حال, لا يمكن الأدعاء بوجود علاقات حميمة بين السـنة والشـيعة كما هو الحال بين مذاهب الطائفة الســــنيه المعروفة مثل,الشـافعي والحنفي والمالكي والحنبلي, بالرعم من تعدد مرجعيات تلك المذاعب.
573 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع