د.سامان سوراني
شهدت محافظة نينوی في هذه الأيام الأخيرة هجمات ممتالية من قبل المئات من مسلحي تنظيم إرهابي يسمی بـ"الدولة الاسلامية في العراق والشام" علی مباني حكومية وأحياء سكنية بقاذفات الصواريخ والبنادق الآلية والرشاشات الثقيلة المثبتة على شاحنات أدت الی قتل المئات من المدنيين و إجبار نزوح الآلاف منهم من مساكنهم الی مناطق أخری من محافظة الموصل أو الی مناطق حدودية في إقليم كوردستان الآمن.
هدف هذا التنظيم هو تحقيق موطئ قدم هنا وهناك و السعي الی إثارة موجة من الرعب واللاإستقرار في تلك المناطق.
في ظل غياب الحلول السياسية الحقيقية لحل الأزمات المتفاقمة في العراق وإصرار حكومة بغداد في الحل العسكري تسهل بناء الأوتوسترادات لتنظيمات لاتٶمن بالمدنية والعمران بل تسلك طريق الدفاع عن مآربها بأساليب القتل والاغتيال والإبادة والتّفجير والتّخريب والتّدمير والاعتقال والإذلال والظّلم. والحصاد سوف يكان دوماً تخريب البیئة الإنسانية وقطع العلاقة مع الأرض والتاريخ والذاكرة.
نحن نعرف بأن الهوية في العراق لم يكن بحاجة الی التسمية الإسلامية التي كانت من البداهات أو الی تنظيم أصولي إرهابي للدخول الی عالم الحدث ، بل كانت هذه الهوية تتزؔيا بأزياء الهويات العرقية أو المذهبية. لكن الحکومات المتعاقبة بعد صناعة العراق المصطنع كانت دوماً تترك الحلول السياسية جانباً وتهتم بالحلول والإنتصارات العسكرية الموقوتة ، وهكذا تأتي الصراعات القديمة من أقاصي الذاكرة ومن كهوف التاريخ لكي تبرز مجدداً علی السطح وتترك مفاعیلها السلبية و يترجم المشاهد المأساوية التي يعيشها العراق في المحافظات ذات الأغلبية السنية.
الواضح هو أيضاً بأن الأصولية الدينية رغم كل التغييرات علی المشهد الكوني مع الدولة الشمولية التي تهيمن على المقدّرات وتحصي الأنفاس وتخضع البشر بالقوة العارية. التنظيم الإرهابي "داعش" يحاول إدخال العراق في نفق مظلم يسعی الی تطويع وتسخير جنوده لدعوات مستحيلة او عقائد مدمّرة تحوّل الوعود بالفردوس أعراساً للدم.
فالأصولية الجهادية المتمثلة بـ"داعش" تريد بذلك تشكيل الوجه الآخر للدولة العلمانية الشمولية ، كما تم تجربتها في أواسط و نهاية النصف الأول من القرن الماضي بنماذجها الستالينية والفاشية والماوية أو نسخها الكاريكاتورية في دول العالم الثالث. بمعنی آخر، الأصوليات الدينية هدفها التقويض أو تخريب العمران ، فهي لا تقدر على إصلاح أو تحسين بناء.
إننا نری بأنه من الضروري أن تتضافر كافة الجهود المحلية والدولية لمكافحة الارهاب بشتی أنواعه وتضييق الخناق عليه للتّخلّص من آفة الأصوليات الجهادية وذلك بإشاعة الديمقراطية الحقيقية وصيانة الحقوق والحريات العامة واحترام الرأي الآخر والعمل علی محو مفاهيم الاستبداد في المجتمع ، التي أصبحت ثقافة سائدة في السياسة والدين ، والبيت ، والشارع ، والجامعة ، وفي كل نواحي الحياة وكذلك مكافحة المفاهيم السلبية الخاطئة في نفوس البشر ، التي تٶدي في النهاية الی قمع الإبداع الفكري والصمت على الظلم والفساد و إكراه الذي يريد العيش بكرامة و الحقد علی المثقف والمفكر بتكفیره. عندما يغيب العقل ينمو الإرهاب ويتكاثر بمعنی أن الإرهاب يبدأ من الفكر و إن الجزء الأكبر من ثقافة الإرهاب تأتي من الكتيبات التي توزعها جهات دينية رسمية أو غير رسمية على التجمعات الدينية، وفي مواسم دينية سنوية كبيرة على المسلمين، محتواها تعتبر التعددية الحزبية كفر وإلحاد، وتری في الأحزاب السياسية مجرد مكونات جاهلية، باعتبار الانتماء لهذه الأحزاب كفر وردة عن دين الإسلام، وأن هذه الأحزاب تفرَّق المسلمين و تدعم الرأسمالية والبنوك الرّبوية.
أما علاج الإرهاب كظاهرة فهو يبدأ من معرفة الإنسان لنفسه معرفة حقيقية تضعها في مكانها الصحيح، بحيث يرى الإنسان نفسه من خلال الآخر و به أيضا لا من خلال نفسه و يخرج على قوقعته التراثية، لكي يفهم المجريات على الساحة الكونية ويسهم في المناقشة العالمية الدائرة حول المعضلات و يفتح أفاق الحوار، ويتجنب سياسة الإقصاء ويجتهد في سبيل القبول بالرأي والرأي الآخر.
ما نحتاجه، هو كسر وحدانية الذات علی نحو يفتح الإمكان لقبول الواحد الآخر، بوصفه مختلف عنه بالهوية، ولكنه مساو له في الحقوق والكرامة والهوية ومن الضروري التمرّس بالتقی الفكري، الذي يجعل الواحد يقتنع بأنه أقل معنی وشأناً مما يدعي و في ما يدعو اليه، والتعامل مع المعالجات کتسويات، لا كحلول نهائية أو قصوى والعمل علی تقوية الوعي النقدي في مواجهة الذات قبل الغير، لصوغ أطر وقواعد جديدة تتيح العيش المشترك علی نحو سوي، سلمي، تبادلي.
في هذه الأيام التي يشتد فيها الصراعات الطاحنة علی المشروعية ، من معارك داخل المدن الی تمزيق أجساد الأبرياء وتفجيرات مقرات للشرطة ومساكن أهلية نری أنفسنا أحوج إلى التعقل والرشد و البدء بالحوار مع الآخر المختلف، ولكن كيف ينضج الحوار مع الآخر في حين لم ينضج بعد الحوار مع الذات؟ أم كيف ينضج حوار لم يعرف فيه المتحاورون آداب الاستماع؟ أم كيف ينضج حوار نهتم فيه بإبراز نقاط الاختلاف عن نقاط الاتفاق؟
نحن نعرف بأن القوی الظلامية وأصحاب فلسفة الجُبن لايٶمنون بمنطق الحوار ولا بالشراكة ، لكن علی من سوف يكون بعد تشكيل الحکومة المقبلة زمام الحکم بيده في العراق أن يسعی الی الحل السياسي للمشاكل المزمنة في هذا البلد.
وختاماً: ما يحتاج اليه العراق اليوم هو التمرس بمنطق التغير لمواجهة التحولات العاصفة بصورة إيجابية ، بناءة ومثمرة ، والحکومة التي لاتفعل ذلك لا تستطيع الإحتفاظ بثوابتها ، بل بالعکس سوف تهمش وتخسر ما تريد الحفاظ علیه لتزداد تبعيتها للغير.
الدكتور سامان سوراني
500 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع