د.نسرين مراد
حديثاً أقدمت شعوب عربية، وبتعاون مع قوى خارجية، على محاولة إدخال الديمقراطية الغربية إلى المنطقة. جهلاً، ظنت أن التغيير سهل، ويكمن في تقليد الشعوب الغربية باللجوء إلى صناديق الاقتراع. حدث ذلك بسبب الاحتقان المتزايد إزاء الركود والسكون العام الذي يخيم على الحالة العربية منذ مئات السنين.
ساد اليأس والقنوط جميع الفئات، وخيّم الظن أن العرب على هذا المنوال لن يتقدموا في اتجاه الديمقراطية قيد أنملة.
أسباب الركود الديمقراطي كثيرة، وبشكل أساسي تكمن في أن الطبيعة الشرقية تميل إلى تقديس الحاكم الأعلى؛ الأخير عادة ما يود بلوغ سن التقاعد أو الموت وهو على كرسي الحكم. الدكتاتور عادة ما يتمتع بهيبة وخلفية عسكرية أمنية غير عادية. هذه العوامل وغيرها، أدت بالكتل الشعبية العربية والنخب الفكرية إلى الإلقاء بأنفسها في أحضان التغيير الديمقراطي المنشود، على النمط الغربي.
لم تمض فترة طويلة على بدء التغيير المدعوم من الخارج، حتى بدأت الأمور تبدو أشبه بالوقوع في فخ التغيير «المنصوب لها!». حدث ذلك بعد «يوفوريا» (حيوية) حلت على شكل هرج ومرج وهياج عصبي جماعي. من الشعوب من احتكم إلى السلاح بعد انسداد آفاق التغيير بالطرق السلمية. اختفت خلف الكواليس القوى السابقة المشار إليها بالدكتاتورية والتسلط والفساد والمحسوبية والتخلف المستشري، ثم وقعت قوى الديمقراطية المنشودة في حمّام دم؛ بدأ ولا توجد بوادر لقرب الخروج منه.
غرقت الشعوب العربية ومعها الحكام الجدد، في أتون حروب ونزاعات ودوامات وكوارث؛ نتجت عنها خسائر تصل بسهولة لعشرات المليارات من الدولارات. بدأ اليقين يحل محل الشك بأن تغييراً كالذي طرأ ويجري على قدم وساق، ليس الذي كان في الحسبان أو يلبي الطموحات. لكن الشعوب العربية الثائرة أو المنتفضة أو المتمردة على الحكام، قد سارت في طريق ذي اتجاه واحد. الرجوع عن هذا الطريق يعني العودة إلى المربع الأول في التغيير، وبشكل أشد قسوةً وخسارةً وخيبة أمل.
العيب ليس في الديمقراطية أو التغيير، بقدر ما هو في الأساليب المتبعة في التغيير. لا توجد خلفية ديمقراطية أساسية لدى الشعوب والحكام العرب. الأجيال العربية لم تنشأ على الديمقراطية واحترام الآخرين، فكراً أو كياناً سياسياً أو اجتماعياً.
التربية في البيت والمدرسة والجامعة، لم تؤهل الجماهير لدرجة كافية لاحترام التغيير القادم في جله من الخارج، تقليداً أو تبنّياً عن بعد. الشعوب والكتل العربية المختلفة قادت نفسها بنفسها إلى معركة بين بعضها البعض، على الديمقراطية وثمار تطبيقها في مجتمعات تتميز بالتخلف التعليمي والفكري والاجتماعي.
الكتل العربية الكبيرة بحاجة أكبر بكثير إلى رغيف الخبز ولقمة العيش، منها إلى الديمقراطية الحديثة المستوردة.
الأخيرة أتت إما محمولةً جواً وبراً كما حدث في العراق، وأخرى مدعومةً جوّاً وبحراً كما حدث في ليبيا، وثمة عبر حرب عصابات تدعمها القوى الأطلسية مثلما يحدث في سوريا، أو مناصرة القوى العظمى ضد تنظيم القاعدة ومشتقاته كما يحدث في اليمن.
من جانب آخر، لا يمكن الإفراط في التشاؤم إزاء نشر وتوطيد أركان الديمقراطية في المنطقة. لكن حالاً كالذي حل، إن يستمر هكذا فسوف يقضي على الأخضر قبل اليابس. سيضع المنطقة أمام حقبة من الضياع ونقص الموارد وتنضيب الطاقات الإبداعية الإنتاجية.
سيجعل المنطقة وأهلها قابلةً بسهولة ويسر أكثر من أي وقت مضى، لعودة الاستعمار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. أكثر من ذلك سيضع الأمة وأجيالها وتاريخها وحضارتها ومعتقداتها الفريدة من نوعها، في مهب رياح التغيير غير الحميدة، في أغلب التصورات الجارية حالياً.
502 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع