عبد الوهاب بدرخان
حدثٌ جديرٌ بالدرس والتدقيق: أعلن وزير الخارجية الأميركي أن بلاده مستعدّة للتعاون مع إيران في معالجة الأزمة العراقية.
وبعد ساعات كان مساعده ويليام بيرنز يلتقي وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف للبحث في سبل هذا التعاون ومحدّداته. كانت الاستجابة الإيرانية فاترة. فهناك في طهران مَن رحّب بكل مَن يريد «ضرب الإرهاب»، لكن كان هناك أيضاً مَن يرفضون مبدئياً العمل مع مَن لا يزال «الشيطان الأكبر» في مصطلحات الخطاب العقائدي «الرسمي» لإيران. فالتقارب بين الجانبين، وإن كان يتقدّم سرّاً باطّراد، إلا أنه لم يبلغ درجة «التعاون» علناً، وأين؟ في العراق. غير أن التركيز على «الإرهاب» فحسب أظهر أن طهران غير متحمسة لـ«المبادئ» العامة التي وضعتها واشنطن للتعامل مع الوضع في العراق.
لا يمكن القول إن واشنطن تعني دائماً ما تقوله، خصوصاً إذا كان مبدئياً، وبالأخصّ إذا كان يتعلّق بالعراق، فكل المبدئيات التي ضخّتها في ماكينات الإعلام لتبرير غزوها لهذا البلد سقطت في الممارسة لمصلحة دعم المصالح الفئوية وإشاعة «الفوضى الخلاقة». وليس مؤكداً ما إذا كانت أميركا منزعجة حقّاً من ظهور العنف الإرهابي في العراق بالتوازي مع احتلالها، أم أنها على العكس ترى في وجوده في بيئات عربية أفضل وسيلة لإبعاده عن أراضيها. مع ذلك لا بأس بافتراض حسن النيّة، طالما أن الناطقين الأميركيين شرحوا «المبادئ» التي تحكم التدخل الجزئي بناءً على طلب من حكومة بغداد، وهي: عدم إرسال جنود أميركيين إلى الأرض، ضرب الإرهابيين لكن من دون التعامل مع الأزمة بمنطق طائفي، والعمل على حل سياسي قوامه الحوار والمصالحة وتشكيل حكومة وفاق وطني... ويُلاحظ أن هذا الموقف الأميركي تلاقى موضوعياً مع مواقف الجامعة العربية، ثم مواقف السعودية ومعظم الدول الأوروبية والعربية.
ثم إن الرئيس الأميركي أضاف أن إيران «يمكن أن تضطلع بدور بنّاء إذا وجّهت الرسالة نفسها التي وجّهناها إلى الحكومة العراقية بأن في إمكان العراقيين العيش معاً إذا اجتمعت (مكوّناتهم)»، وحذّر من أن «تدخّل إيران عسكرياً فقط باسم الشيعة فإن الوضع سيتفاقم على الأرجح». وردّت طهران، بلسان مساعد وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان، بأن أوباما يفتقد إلى «إرادة جدّية» لمحاربة الإرهاب، معتبرةً أن «الخطأ الاستراتيجي للولايات المتحدة في سوريا أنها لم تميّز بين الإرهابيين والمجموعات السياسية (المعارضة) مما فاقم الإرهاب ونشوء جماعات مثل الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، واليوم بدلاً من مكافحة الإرهاب وتعزيز الوحدة الوطنية والحكومة والمؤسسات في العراق، تقوم الولايات المتحدة بتعزيز الطائفية».
يكاد هذا السجال يختصر كل الإشكاليات التي تنطوي عليها مسألة التقارب بين الولايات المتحدة وإيران. ثم إنه يحمل بعض ملامح الجدل الذي ثار بين الدول الغربية وروسيا غداة انزلاق أوكرانيا إلى أزمتها المستمرة. إذ حرص الغربيون، لاسيما الأميركيين، على الدفع إلى تجنّب اللجوء إلى الوسائل العسكرية للحصول على حلول لابدّ أن تكون سياسية في نهاية المطاف. كان النهج الروسي/ البوتيني موضع نقد غربي بأنه يستعيد «منطق» الحرب الباردة رغم انتهائها. وفي الحال العراقية يبدو النهج الإيراني موضع نقد مماثل، سواء في دعمه (وحتى رسمه) سياسات حكومة المالكي وممارساتها، أو في استغلال مسألة الإرهاب لترجيح حسم فئوي/ مذهبي للصراع في العراق كما في سوريا.
لا داعي للبحث بعيداً عن أسباب عدم تلقّف طهران ورقة «التعاون» التي وضعتها واشنطن على الطاولة. فالولايات المتحدة تقترح -«مبدئياً»- العمل بمنطق الدولة لا بمنطق الطائفة، ولا ترى إيران مصلحة في ذلك بل تقييداً لنهج عملت على مراكمته طوال عقود ماضية. كما تقترح واشنطن «ضرب الإرهاب» وليس «ضرب المجموعات السنّية» أو تدمير مدن السنّة على غرار ما فعل بشار الأسد وحلفاؤه الإيرانيون في سوريا، ولاشك أن الأميركيين يعرفون أن الوضع على شفير حرب أهلية مفتوحة وبمعزل عما إذا كانت تخدم أو لا تخدم مصالحهم فإنهم لا يريدون أن يكونوا طرفاً فيها. الأكيد أنهم يريدون لـ«الدولة» أن تحسم الصراع، لكن «دولة المالكي» لم تعد مؤهلة لحل متكامل، ولذا تُعتبر دعوتهم إلى تشكيل «حكومة وفاق وطني» بمثابة رغبة في استبدال المالكي. هنا تتناقض الأهداف الإيرانية والأميركية إلى حد أقصى، وحتى لو وافقت طهران على إقصاء المالكي فإنها ستصرّ على بديل يلتزم السياسات نفسها التي أوصلت العراق إلى الكارثة الراهنة.
637 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع