د .محمد عياش الكبيسي
الموصل ثاني أكبر المدن العراقية حيث يقرب عدد سكانها من الأربعة ملايين نسمة، وهي مدينة موغلة في القدم، أرسل الله إليها رسوله الكريم يونس يوم كان سكانها يربون على المائة ألف (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا فمتعناهم إلى حين)الصافات147و148، قال ابن كثير في بيان خصوصية هذه المدينة: (لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى إلا قوم يونس وهم أهل نينوى...أرض الموصل) تفسير ابن كثير مع التحقيق ج7ص401.
الموصل اليوم هي إحدى المحافظات السنّية المنتفضة ضد سياسات المالكي وحكومته الطائفية، وقد شاركت في الحراك السلمي لسنة كاملة أو يزيد، حتى بدأ المالكي بعدوانه على محافظة الأنبار وداهم ساحة الإعتصام فيها واعتقل عضو البرلمان والقيادي البارز في الحراك أحمد العلواني بعد أن قتل عددا من أفراد عائلته، فتحول الحراك السلمي إلى ثورة (أنبارية) لا زالت مستعرة منذ ذلك اليوم، إلا أن الذي أذهل الجميع هو الزلزال المفاجئ والذي غيّر من مجريات الأمور، وقلب كل الموازين، ووضع العراق والمنطقة كلها على مفترق الطرق، إنه زلزال الموصل!
في يوم واحد انهارت كل قوات المالكي، وفرّ القادة الكبار قبل غيرهم، وذهب المئات من الضباط ليطلبوا الأمان من قوات البيشمركة أو الأسايش الكرديتين! أما عشرات الآلاف من المراتب والجنود فقد أصبحوا كرعية بلا راع، لا مأوى، ولا خطة، ولا أوامر، ولا توجيهات! تجدر الإشارة هنا أن هذا الجيش هو جيش شيعي طائفي ومعبأ لمواجهة السنّة، وهذا يعني استبعاد التواطؤ مع المسلحين السنّة بأي شكل من الأشكال.
أما التداعيات الميدانية السريعة والتي تشبه إلى حد ما الهزات الارتدادية، فيمكن تصنيفها على النحو الآتي:
أقر المالكي بهزيمة جيشه الكارثية، وراح يؤسس (الجيش البديل) والمكون من المليشيات الطائفية وبعض المتطوعين المدفوعين بفتاوى المرجعية والتي ألزمتهم بالجهاد (الكفائي) دفاعا عن المزارات والعتبات!
أما الكرد فقد كانت فرصتهم لبسط نفوذهم في كل المناطق المتنازع عليها مع حكومة المركز وخاصة كركوك وهي الكنز النفطي الأهم والأكبر، ويبدو كأن القيادة الكردية كانت متهيئة حيث باشرت في اليوم التالي بربط الأنابيب وتصدير النفط، وقد تناقلت وكالات الأنباء وصول هذا النفط بالفعل إلى ميناء عسقلان!
المسلحون السنّة كانت فرصتهم لملاحقة الجيش المهزوم وتدمير ثكناته وسيطراته حتى وصلوا إلى مصفى بترول البيجي وهو المصفى الأهم في العراق، وقد سبب هذا أزمة وقود خانقة في أغلب المدن العراقية، إضافة إلى سيطرتهم على مدن أخرى في أكثر من محافظة من بينها تكريت مركز محافظة صلاح الدين! وقد كانت غنائمهم من السلاح والعتاد والآليات المختلفة ما لا يقدر بثمن، وربما سيمكنهم من القتال المتواصل لسنوات.
قبل الدخول في مجال التحليل لهذا اللغز الكبير، لا بد من التذكير ببعض الحقائق:
الأولى: أن كل أهل السنة بلا استثناء لا ينظرون إلى هذا الجيش إلا أنه جيش يمثل طائفة معينة، ولا يمكن الوثوق به أو الاطمئنان إليه في كل حركة من حركاته، وهو مشبّع بالمقولات الطائفية الاستفزازية من ساحات التدريب إلى نقاط التفتيش وحتى آخر موقع يتقابل فيه مع المدنيين.
الثانية: أن هذا الجيش قد ارتكب جرائم بشعة بحق الأبرياء والمدنيين، من مثل مجزرة الحويجة في كركوك ومجزرة جامع سارية في ديالى، ورمي البراميل المتفجرة على الأحياء السكنية في الفلوجة، وهدّم المساجد والمنازل في الرمادي..الخ
الثالثة: أن المالكي قد أوصل رسالة خطيرة للمكون السنّي بأن لا مكان لكم في هذا العراق! سواء كنتم متشددين أم معتدلين، وسواء كنتم مسلحين أم مدنيين، وما قام به تجاه شركائه في العملية السياسية من عدنان الدليمي وطارق الهاشمي حتى رافع العيساوي وأحمد العلواني ثم تهديداته الصريحة لأسامة النجيفي كل هذا قد رسّخ فحوى رسالته قولا وعملا، ولا شك أن هذا كان غفلة وسذاجة سياسية إن لم يكن هناك خلف الستار من يدفع به ويشجعه للوصول به وبالعراق إلى خارطة الطريق المرسومة!
الرابعة: أن السنّة قد جربوا مع المالكي كل الطرق والوسائل السلمية والحضارية، فقد شاركوا في الانتخابات مع قناعتهم بأنها مصممة لتهميشهم وكان هدفهم الأساس هو إقناع (الشركاء) من الشيعة والكرد أن السنّة العرب جادون بنهج التعايش وتجاوز عقد الماضي، لعل الرسالة تصل إلى من وراء السياسيين من مراجع دينية وطبقات مثقفة، وهي ذات الرسالة التي كان المقاطعون للانتخابات يوصلونها عبر ابتعادهم عن الخطاب (الطائفي) ومناشداتهم المتكررة لمراجع الشيعة وشيوخ عشائرهم، وحين اقتنع السنّة أن هذه الرسالة لم تصل، أو أنها وصلت بطريقة مغلوطة لجؤوا إلى التظاهر السلمي والجمع الموحدة لسنة كاملة فلم يسمعوا من المالكي إلا السباب والشتائم والتهديدات، أما المراجع وشيوخ القبائل والعشائر فكانوا كأنهم في صمم، نعم لقد كانوا يتظاهرون دفاعا عن نظام الأسد و شيعة البحرين!!
إن الرسالة الجوابية التي تلقاها السنّة من (شركائهم) أن المالكي ليس وحده في الميدان، فهو ليس طاغية يضطهد شعبه كبقية الطغاة من أجل شهوة في الحكم وخشية من مفارقة العرش، بل هو رأس الرمح في مشروع طويل عريض يهدف في النهاية إلى إنهاء الوجود السنّي في العراق، وتصحيح (الخطأ التاريخي) الذي اقتطع به الفاتحون (العرب) أرض السواد من هيمنة (الفرس)!
إن المرجع الأعلى الذي دعم المالكي بفتوى الجهاد نسي أنه لا يملك الجنسية العراقية، وأن توصيفه القانوني ليس بأكثر من ضيف عند العراقيين كما كان الخميني من قبل، وأن تدخله بهذا الشكل الصارخ في دماء العراقيين لا يمكن أن يفسّر بمنأى عن الدولة التي ينتمي لها، وأن محاولة تأليب بعض العرب على بعض ليست جديدة وإن اختلفت أساليبها وأدواتها.
إن هذه الحقائق المرة لم يكن لها إلا أن تدفع باتجاه الانفجار مهما كانت النتائج، وهنا أذكّر المرجع الأعلى برسالة سلفه الخميني والتي أرسلها إلى الرئيس العراقي قبل اندلاع الحرب بينهما ردا على رسالة الأخير له تهنئة بنجاح ثورته! قال: (وأنصح الحكومات أن لا تزيد الضغط على شعوبها، فإن زيادة الضغط تولد الإنفجار).
اليوم وقع الانفجار، بغض النظر عن الشرارة الأولى أو عود الثقاب، فإن مخزون الغضب الذي بنيتموه بسياساتكم واستفزازاتكم يكفي لصناعة هذا الزلزال وأكثر.
إن أهل السنّة لم يعد عندهم متسع للبحث في المآلات والنتائج، ولا لمعرفة المستفيد أو المتضرر، ولم تعد تعنيهم المواقف الدولية والقوى الإقليمية، ببساطة لأنهم لم يعد عندهم ما يخسرونه، أما أنتم فستخسرون كل شيء، وستخسرون فرصتكم التاريخية والتي منحها لكم (القدر الأميركي) في غفلة من الزمن وفي المرحلة الأسوأ التي تمر بها أمتنا العربية والإسلامية.
682 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع